الكتاب: برديّات مريم (رواية)
المؤلّف: عمّار الجماعي (الخال)
دار النشر: دار ورقة للنشر ـ تونس الطبعةعة الأولى نيسان (أبريل) 2021
لمّا كانت الرواية خير تكريس للواقعيّة وأكثر الأنواع الأدبيّة مرجعيّة للتجربة الإنسانيّة، وفق ما ذهب إلى ذلك الدكتور محمّد التّومي في مؤلّفه "أدب السجون في تونس ما بعد الثورة: بين محنة الكتابة وكتابة المحنة"، فقد شكّلت الرواية المعالجة الأدبيّة الأكثر حضورا في تناول مسألة الانتماء السياسي والأكثر توثيقا سرديّا لعذابات التونسيين في علاقتهم بالسلطة السياسيّة الرّادعة ما قبل 14 كانون الثاني (يناير) 2011.
وبوصف الإسلاميين الضحيّة الأنموذج لانسداد مناخات الحرية طوال عشريتين من دكتاتورية نظام الراحل زين العابدين بن علي، فقد كان طبيعيا أن تمثل عذاباتهم بين المنافى القسريّة وداخل زنازين السجون قادحا مهمّا لجيل متميّز من الرواية السّجنيّة التونسيّة طوال عشريّة ونيف.
ولئن بدأت حركة قطار الرواية السجنيّة التي نقلت عذابات السياسيين الإسلاميين في تونس بطيئة منذ أن ظهرت رواية "برج الرّومي ـ أبواب الموت" للدكتور سمير ساسي، بداية الألفية الثانية، (نشرت بداية تحت اسم البرزخ) فإنّه سرعان ما علا دفقها بانبلاج ربيع الثورات، فبرزت "في القلب جمرة" لحميد عبايدية و"انتماء" للطفي السنوسي و"الدكتاتور" لعبد الحفيظ خميري و"بيت العناكش" لسمير ساسي و"الشتات" لخديجة التومي و"درب العدلاني" لعادل النهدي و"حصاد الغياب..اليد الصغيرة لا تكذب" لعبد الحميد الجلاصي و"أسوار وأقمار" لعز الدّين الجميّل و"ملح قرطاج" للهادي التيمومي و"حربوب" (تحت الطّبع) لمحمد التومي. ومثلت الروايات المذكورة لبنة مضافة إلى روائع أدبية تونسية ألفها سجناء وملاحقون يساريون نذكر منهم: "كريستال" لجلبار نقاش و"الحبس كذاب والحي يروح" لفتحي بالحاج يحيى و"مناضل رغم أنفك" لعبد الجبار المدوري و"حدائق الفجر" لعلي دب (قومي).
كما برزت كتابات أخرى في أدب المنفى أو أدب التهجير القسري تروي معاناة المهجّرين الإسلاميين من قبيل "المطمورة" لعادل النهدي و "شهادة مغترب بين رحى الأيام وطاحونة الاغتراب" (سيرة ذاتيّة) للعربي القاسمي. ويضاف إلى هذه السلسلة المتميّزة من الرواية السياسية رواية جديدة للكاتب والشاعر عمّار الجماعي، مؤلّف رواية "الطريق إلى محتشد رجيم معتوق" التي تروي تجنيد الطلبة في محتشد رجيم معتوق الصحراوي، عنونها بـ"برديّات مريم" التي تمثّل سبقا من حيث تناولها لعذابات زوجة سجين ومطارد سياسي بدءا من مرحلة التخفّي والسريّة داخل تونس وصولا إلى مرحلة المنفى القسري بكلّ من الجزائر وسويسرا.
برديّات مريم طلقات رصاص في زمن مخصيّ
أفصحت البرديّة 2 للرواية عن أنّ "مريم" هوّ أول إسم اختارته بطلة الرواية لتتخفى به بعد انكشاف زوجها وعلمه أنه لا شكّ واقع في كمّاشة البوليس السياسي. وابتدأت رحلة تيه الطفلة ـ الزوجة الجنوبيّة وإكراهات أن تكون زوج معارض سياسيّ أو حتّى مخالفا للرأي في بلد الزّعيم الأوحد والحزب الأوحد من مدينة تونس إلى مدينة قابس بالجنوب التونسي ثمّ الفرار صوب الجزائر المجاورة. قصة حبّ عجنها الصبر والنضال و نبل المقاصد فلم تجن من غربتها ومنفاها القسري لعقدين من الزمن إلا رؤية البلد وقبر أبويها .. لتعود إلى منفاها و مواعيد الطبيب النفسي.
رحلة تيه لعلّ أقساها أن تمحو هويتها تماما. عليها أن تغادر و هي بعد في نفاس ولدها الأوّل في بداية شهر ماي 1986 منتصف الليل، إلى بيت ضيّق على سطح عمارة بشارع باب الخضراء (وسط العاصمة تونس). وتتعلّم درسها الأول في الاختفاء حتى لا تكون و ولدها نقطة ضعف لزوجها. أن تغيّر اسمك وتتلف بطاقة تعريفك التونسية هو أن تحيى على نحو آخر مختلف قد لا تكفي الكلمات حقّ وصفه. تضطرّ الأمّ المنفيّة خلف التاريخ وخارج أسوار الجغرافيا للتخفّي في شقة مهجورة، هي أقرب إلى كهوف الصوفيّة المهجورة، لسنوات طوال ويكبر أبناؤها الواحد تلوى الآخر فلا يبصرون النور إلا لماما.. يجوعون ويمرضون ويبكون طفولتهم المنكوبة فتعجن لهم الأمّ من دمعها صبرا لا يلين وتسقيهم أملا لا تعرف هي نفسها مداه وموعد تحقيقه.
ابتدأت رحلة تيه الطفلة ـ الزوجة الجنوبيّة وإكراهات أن تكون زوج معارض سياسيّ أو حتّى مخالفا للرأي في بلد الزّعيم الأوحد والحزب الأوحد من مدينة تونس إلى مدينة قابس بالجنوب التونسي ثمّ الفرار صوب الجزائر المجاورة. قصة حبّ عجنها الصبر والنضال و نبل المقاصد فلم تجن من غربتها ومنفاها القسري لعقدين من الزمن إلا رؤية البلد وقبر أبويها
يتوه الرّاوي بين ثنايا الكهف ووحشته فينقل لنا يوميّات أطفال يصبح أكبر حلمهم أن يشاهدوا شيئا يتحرّك، فقد توقّف كلّ شيء أمام ناظريهم..الزمان توقّف والمكان توقّف..يسعد الأطفال لرؤية ذبابة في كهفهم فهي تذكرهم بأنّه بوسعهم التحليق خلف أسوار شيدها الطغاة وأحكموا غلقها كي لا تفرّ منها أسراب الحمام وأشواق المقهورين... يتوه الراوي ولا عتب.. ألم يقل صدقي إسماعيل، الروائي والكاتب المسرحي السوري، في تقديمه لرواية "الأشجار واغتيال مرزوق" لكاتبها عبد الرحمان منيف إنّ شؤون الحياة الصّغيرة هي الصّورة الشخصيّة لكبريات القضايا وأكثرها جدارة باهتمام الإنسان وكفاحه البطولي. وإنّ تغيير الواقع يبدأ من محاولة البحث عن عمل، ـ مهما يكن عاديا ـ عمل يمكن أن يعدّ وسيلة للرزق اليومي غير أنّ هذا العمل في الحقيقة هو القضيّة الإنسانيّة كلّها...
وبعد أن يتوه الراوي في البرديّات كأنّما يسمعها لأوّل مرّة من فيه مريم، سرعان ما يفيق من غفوته فيعتذر نيابة عن القارئ من مريم وأهل بيت مريم بالقول: "أخجل يا إلهي منها و من صبرها .. أخجل من مرحلة كان البلد يفتح أفخاذه للـ"الفرح الدائم" و يأكل أطايب "جميلة بالي" (مقدّمة أطباق غذائية كانت تذاع على التلفزيون الرسمي التونسي) ويحرّك إليته الرّخوة لذكرى "السابع من الوجع" (7 نوفمبر 1987 هو تاريخ تولّي بن علي السلطة) و مريم تربط بطنها من جوع و مسغبة .. أخجل من " المعجزة التونسيّة " وأطفال مريم لا يدخلون مدرسة ولا حقّ لهم في البكاء بصوت عال ...أخجل من صمتنا الدنيويّ ومريم يأكلها الخوف فتقاوم بخصوبة رحمها ... أخجل أخيرا من "ثورة" ظلّت مريم و غيرها ينتظرونها .. فلعبوا بها أولاد الكلب .. فيا إلهي إسمعني"...
الزمن السياسي والتاريخي للرواية
تؤرّخ الرواية لفترة حالكة من تاريخ تونس المعاصر، حيث تنفتح البرديّات على أحداث عاشتها تونس أشهرا قليلة قبل إطاحة زين العابدين بن علي بحكم الحبيب بورقيبة الذين استمر 33 سنة. وقد تميّزت تلك الفترة بكثرة المحاكمات السياسيّة والاعتقالات في صفوف قيادات التيار الإسلامي ("حركة الاتجاه الإسلامي" ولاحقا تغيّر اسمها إلى "حركة النهضة") ومناضليه. ولئن تأمّل التونسيّون خيرا في وعود بيان 7 من نوفمبر 1987 فيما يتعلّق بإطلاق حرية التنظّم السياسي والنقابي وتحرير الإعلام من قبضة الدّولة-الحزب فقد أبانت الشهور اللاحقة لانتخابات 2 أفريل 1989 عن الوجه الحقيقي للنظام الدكتاتوري الجديد الذي أتى على جل المنشط السياسي والنقابي العمّالي والطلاّبي.
تزامن انقلاب بن علي على وعوده التي أطلقها في بيان 7 تشرين الثاني (نوفمبر) 1987 مع الأحداث الدّامية التي عرفتها الجزائر بدءا ممّا عرف بانقلاب يناير / كانون الثاني 1992 على نتائج الانتخابات البرلمانيّة لسنة 1991. هذا التطوّر السياسي المتسارع في كل من تونس والجزائر وما تلاه من محاكمات عسكرية لقيادات حركة النهضة الإسلامية في صائفة 1992، دفع معظم القيادات الإسلامية ومناضليها إلى فرار من جحيم القمع والسجون في اتجاه أنحاء متفرقة من العالم. ونفهم من رواية "برديّات مريم" أنّ بطلة الرواية ما هي إلاّ زوجة أحد القيادات الحزبية والتنظيمية المطلوبة للنّظام، ممّا دفعه إلى التخفّي في "الكهف" لمدّة 12 سنة كاملة بأحياء العاصمة الجزائرية خوفا من تسليمه إلى السلطات التونسيّة.
الرواية تخرق السرد الخطّي المعتاد
يقف القارئ لرواية "برديّات مريم" على خرق الرّاوي عمّار الجماعي لمعتاد السّرد الخطّي في أكثر من موضع. فقد تعمّد الرّاوي تحت ضغط الحدث المتسارع إلى إيقافه إمّا بذكر الهوامش والإمعان فيها وصفا وتدقيقا أو العودة بالحدث إلى زمن الكتابة باستنباط قصّة وصول "البرديّات" إليه. وهذا أسلوب يزيد في التشويق ويشدّ القارئ إلى الحدث ذاته. أمّا عن السّارد الذي يعلن في أغلب نهايات "البرديّات" عن انفعاله بالحدث المأساوي، فهو يكاد يكون عالما مطّلعا على خفايا بطلته وراغبا في تشريك القارئ في وجعه، بل وناقلا القارئ من عالم الرواية إلى عالم البطلة الحقيقي ليذكره بأنّ قصّة بطلة الرواية لم تكن حدثا شاذّا بل واقعا معاشا اكتوت بناره أجيال كاملة من معارضي نظامي بورقيبة وبن علي.
طوال برديّات الرواية ينتصب الرّاوي عمّار الجماعي شاهدا يرى ويسمع ما يكون من أمر "حياة الكهف" وقد وجد لذلك وسيلة فنيّة في إقناع قارئه بأنّه يملك حجّة لذلك: مذكّرات مريم التي كتبتها تحت تأثير مرضها العصبي. ويبدو اختيار الكاتب للتقسيم الرّقمي للفصول هو خيار فنّي مدروس حاول من خلاله الكاتب جعل على شكل يوميات في الأغلب تنقل الأحداث يوما بيوم وتتجاوز ما دون ذلك ممّا لا يهمّ مريم. لهذا لم يكن الرّاوي معنيّا بـ"فنتازيا" الرّواية بقدر ما كان مأخوذا بـ"نقل أمين" يسجّل ما حدث باليوم والساعة كأنّه يقاوم ذاكرة تريد أن تنسى. في نفس الإطار بدا الرّاوي وهو ينقل يومّيات مريم يوما بيوم قد جرفه عالم الوحدة الذي عايشته مريم صحبة زوجها وأطفالها داخل كهفهم طوال عقد كامل بعيدا عن عالم الإنس.
التقرير النهائي لهيئة الحقيقة والكرامة يوثق عذاب الإسلاميات زمن بن علي
المضايقات الأمنية التي تعرّضت لها "مريم" والتي أتت عليها البرديّات ما هي إلاّ نزر قليل من سجّل سيء حافل بالتجاوزات وانتهاك حقوق الإنسان كان ضحيّته أجيال مختلفة من حكم بن علي. فقد ورد ضمن التقرير الختامي لهيئة الحقيقة والكرامة –المنشور بالرائد الرسمي للجمهورية التونسيّة بتاريخ 27 حزيران (يونيو) 2020 ـ أنّ نظام بن علي واصل فرض معاناة ثقيلة وشاقّة طيلة 23 سنة على الألاف من النّساء وأقاربهنّ والمتعاطفات معهن. فشنّت مداهمات ليلية داخل بيوتهنّ وحملات اعتقال عشوائيّة وتعذيب جسدي وتحرّش جسدي وهرسلة نفسيّة سواء داخل مراكز الاعتقال أم خارجها واتخاذ البعض منهن رهائن للضغط على أزواجهنّ وأقاربهنّ سعيا منه لعزلهن عن الحياة المجتمعيّة.
كما ورد ضمن الجزء 2 من نفس التقرير الختامي، المعنون بـ"تفكيك منظومة الاستبداد" أنّ تقارير حقوقيّة كشفت أنّ الانتهاكات ظلّت مستمرّة رغم المصادقة على العديد من الاتفاقيات التي تضمن الحماية ضدّ الانتهاكات. ويتعلّق الأمر بالتعذيب في مراكز الشرطة والسجون، بمحاكمات وأحكام غير مبررة وجائرة. وبحسب نفس التقرير فإنّ هذه الانتهاكات تزداد خطورة خاصّة عندما يكون ضحيّتها النساء والأطفال والعائلات بأكملها نظرا لآثارها النفسية والاجتماعية على المدى البعيد.