إذا كان ثمة قرار لرئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس يُمكن لنا أن نمتدحه ونُثني عليه، فهو قرار تأجيل الانتخابات التي سيكون إجراؤها في ظل الظروف الراهنة مجرد عبث وإلهاء وحرف للبوصلة والمسار، بل إن مرسوم الدعوة لهذه الانتخابات كان أقرب إلى الجنون والفوضى منه إلى أن يكون قرارا سياسيا عاقلا.
معضلة الانتخابات الفلسطينية لا تتوقف عند إجراءات الاحتلال في القدس، وذلك على الرغم من اتفاقنا بأن ملف القدس بالغ الأهمية من الناحية السيادية والسياسية، وبطبيعة الحال لا يُقاس بوجود ستة آلاف ناخب (على اعتبار أن العدد قليل)، وإنما القضية بالغة الأهمية، خاصة في ظل الالتهام الإسرائيلي للمدينة المقدسة والاعتراف الأمريكي بأنها عاصمة للصهاينة دون غيرهم، والاستغناء عن المدينة المقدسة في أي انتخابات يعني قبول الفلسطينيين ضمنا بألا تكون عاصمة لدولتهم التي يناضلون من أجلها.
المشكلة الأساس في انتخابات السلطة التي كان مقررا أن تجري العام الحالي على ثلاث مراحل، هي أنها وصفة دسمة ومكتملة الأركان لتعميق الانقسام الفلسطيني، وتفتيت وحدة الفصائل المنقسمة على بعضها، بما فيها حركة فتح التي ليس من مصلحة أحد أن يتم تفتيتها، ولذلك وافق الإسرائيليون على إجرائها في الضفة الغربية وقطاع غزة، بل ضغطوا ومعهم الأوروبيون والأمريكيون من أجل إجرائها، وكان الاحتلال يريد فقط أن يستثني مدينة القدس، لأنه يرفض أساسا أي مظهر سيادي فلسطيني في المدينة المقدسة، ابتداء برفع العلم الفلسطيني على أصغر محل تجاري في البلدة القديمة، وليس انتهاء بإجراء انتخابات للسلطة.
وعليه، فمن المهم التعقيب على قرار تأجيل انتخابات السلطة بالملاحظات التالية:
أولا: مدينة القدس هي الملف الأهم على الإطلاق في الصراع مع الاحتلال، وسكانها هم جنود الصفوف الأمامية الذين يتوجب دعم صمودهم، ويجب ألا يقبل الفلسطينيون بأي انتخابات تستثني القدس، ولا تتعامل معها على أنها جزء من الأرض الفلسطينية وسكانها جزء لا يتجزأ من الشعب الفلسطيني، والانتخابات في هذه المدينة هي أمر سيادي لا يمكن التنازل عنه تحت أي ظرف من الظروف، ولو تم تأجيل الانتخابات عشر مرات قادمة. هذا مع علمنا واعترافنا بأن قيادة السلطة لديها أسباب أخرى دفعت إلى تأجيل الانتخابات، وقضية القدس لم تكن سوى الشماعة أو السبب المعلن للتأجيل.
ثانيا: أغلب الظن أن قرار التأجيل كان بسبب تقديرات داخل حركة فتح بأن هذه الانتخابات ستؤدي إلى تفتيت الحركة وتقسيمها بسبب وجود ثلاث قوائم تتنافس على جمهورها، كما أن أخطر ما في ذلك هو أن تيار المفصول دحلان، قد يتمكن من تصدر المشهد السياسي الفلسطيني بفضل هذه الانتخابات، سواء عبر الاستحواذ على مقاعد في "التشريعي" أو عبر الهيمنة على تنظيم فتح الداخلي. وفي ظل هذه الظروف، فلا عيب في التأجيل إذ ليس من مصلحة الفلسطينيين سواء من كان منهم يؤيد عباس أو يعارضه أن يتم تفتيت حركة فتح وتقسيمها.
ثالثا: إذا كان مبرر الاتفاق على إجراء الانتخابات كان الزعم بأنها ستؤدي إلى إنهاء الانقسام وتحقيق الوحدة الوطنية (وهذا ما كان يستبعده الكثيرون منذ اليوم الأول)، فإن التطورات التي حدثت خلال الأسابيع القليلة الماضية حسمت الجدل، وأكدت بأن الانتخابات ستؤدي إلى تعميق الانقسام وتفتيت المفتت، وستجعل تحقيق الوحدة أصعب من ذي قبل. وعليه، فإذا انتفى السبب الأساس لإجراء الانتخابات، أصبح تأجيلها هو الأوجب.. خاصة أن إنهاء الانقسام هو المصلحة الأجدر بالرعاية من غيرها.
رابعا: فتح وحماس اتفقتا على إجراء الانتخابات، ولكن لم يتمكن أي منهما أن يشرح للشعب الفلسطيني كيف سيتم إنهاء الانقسام، ولا ما الذي سيحدث في اليوم التالي للانتخابات، وهذا يعني أن العملية الانتخابية لم تكن جزءا من اتفاق متكامل لإعادة توحيد الأرض والشعب، وإنما كانت الانتخابات محاولة للهروب إلى الأمام. هذا فضلا عن وجود قناعة لدى نخبة عريضة من الفلسطينيين بأن الانتخابات التي أدت في 2006 إلى الانقسام لا يمكن أن تؤدي في 2021 إلى الوحدة.
قرار تأجيل الانتخابات كان تصحيحا لقرار خاطئ بالدعوة لإجرائها، والسبب أن المطلوب هو اتفاق فلسطيني داخلي يُنهي الانقسام على قاعدة الالتحام مع الشعب والعودة إلى صفوفه، والاتفاق على برنامج عمل وطني لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي، وقرار الضم وإجراءات التهام القدس وتهجير أهلها.
المطلوب فلسطينيا، هو إنهاء الانقسام وتحقيق الوحدة الوطنية لا إلهاء الفلسطينيين بانتخابات عبثية يتنافسون فيها على سلطة تحت الاحتلال، وهو الاحتلال الذي يريد تفصيل مخرجات الانتخابات على مقاسه، ومن ثم سيتحكم بالمجلس التشريعي ويعتقل من يشاء من أعضائه.
تذكروا بأن الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال، وأن السلطة ليست دولة، وأن الفصائل ليست أحزابا سياسية، وإنما هي حركات تحرر ويجب أن تظل كذلك حتى نتحرر من قهر الاحتلال.
الرئيس التونسي.. هل يُغازل الثورات المضادة؟