مع هبوب نفحات شهر رمضان الإيمانية، يزداد إقبال عامة المسلمين على أعمال البر والخير، ومن اللافت أن كثيرا من أغنياء المسلمين يخصصون هذا الشهر لإخراج زكاة أموالهم وصدقاتهم طمعا في الأجر والثواب، وحرصا منهم على تفريج كربات المكروبين، وإغاثة الملهوفين، وقضاء حاجات المحتاجين.
وعادة ما يصاحب ذلك الفعل الخير في إخراج الزكاة والصدقات توجه بعض المحسنين والمنفقين إلى إظهار إخراج زكاتهم وصدقاتهم عبر تقارير مصورة، وهو ما يثير حفيظة الكثيرين خوفا من وقوع المنفقين في آفة الرياء من جهة، وإظهار من يتلقون الصدقات وهم في حالة انكسار وضعف من جهة أخرى، ما يبرز أهمية التقيد بالآلية الموافقة للشرع بعيدا عن الوقوع في تلك الآفات المهلكة.
ونظرا لأن الزكاة فريضة من فرائض الإسلام، يتكرر فعلها في كل عام لمن ملك نصاب الزكاة وحال عليه الحول من أغنياء المسلمين، مع ما يضاف إليها من الصدقات التطوعية، التي تبلغ بمجموعها مبالغ ضخمة وهائلة، فإن تساؤلات عديدة تُثار حول إمكانية استثمار جزء من تلك الأموال في مشاريع استثمارية دائمة، تعود بالنفع الدائم على المحتاجين من الفقراء والمساكين؟
للإسلام فلسفته الخاصة في إنفاق المال عموما وإخراج الزكاة بوجه خاص، ووفقا للباحث الأزهري، الدكتور إبراهيم الشاذلي، فإن تلك الفلسفة تتمثل في أن "المال الذي أعطاه الله للمسلم إنما هو أمانة وابتلاء، وأن المال مال الله، وضعه عند بعض عباده لينظر كيف يعملون به، وليختبر صدق إيمانهم، ومدى شعورهم بالضعفاء والمحتاجين، وليمتثلوا قوله تعالى: {وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه}".
إبراهيم الشاذلي.. باحث أزهري
وأضاف: "ولما كان الأمر كذلك، فإن المسلم يحرص أشد الحرص على النجاح في هذا الاختبار، فزكاة المال هي حق الله، والمسلم يتملكه هذا الشعور في أنه يعطي حق الله، ومن ثم فهو حينما يعطي لا يعطي من سماحة نفسه أو كرمه وشهامته، ومن ثم تناول العلماء مسألة مهمة، لا يلتفت لها كثير من الناس، ألا وهي أن زكاة المال ينبغي أن تعطى علانية أمام الناس، وأن يشيع في الناس أن لفقرائهم حقا في أموال أغنيائهم".
وواصل الشاذلي حديثه لـ"عربي21" بالقول: "فالزكاة فريضة كفريضة الصلاة والصوم والحج، وهذه الفرائض إن أدّاها الرجل سرا ربما يُتهم في عقيدته، فكذلك الزكاة، بل إن مما يترتب عليه في إخفاء الزكاة وإعطائها سرا من المفاسد على المعطي وعلى المجتمع الشر الكثير، فلربما يُتهم الرجل في دينه، ويكون موضع سوء ظن بين الناس".
ولفت إلى أن أنه "ما لم يتعاهد المسلمون بعضهم بعضا في القيام بهذه الفريضة، فلربما يفضي ذلك إلى غياب هذه الفريضة وموتها في مجتمعاتهم" ناقلا ما قاله الإمام النووي في كتابه (المجموع شرح المهذب) "الأفضل في الزكاة إظهار إخراجها ليراه غيره فيعمل عمله، ولئلا يساء الظن به، وهذا كما أن الصلاة المفروضة يستحب إظهارها".
وأوضح أن ما جاء في الآية الكريمة {إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم) إنما هو في صدقة التطوع، ونظير ذلك في الصلاة، فإن تطوعها في البيت أفضل، وفريضتها في المسجد أفضل"، مبينا أن استثمار أموال الزكاة في مشاريع استثمارية دائمة غير مسموح به، وهو ممكن وجائز في الصدقات، بل استثمارها في مشارع إنتاجية تدر دخلا دائما أفضل".
من جهته بيَّن الأكاديمي الأردني، المتخصص في الفقه الإسلامي، الدكتور منذر زيتون، أن قوله تعالى {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} يشير إلى جواز الأمرين، بل وإلى فضلهما وحسنهما كلاهما، وأنه ليس لأحدهما شرف زائد على الآخر بالمطلق، وإن كان ورد في بعض الأحاديث فضل الإسرار في الصدقات كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ومنهم: رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه".
منذر زيتون.. باحث أردني متخصص في الفقه الإسلامي
وأضاف: "ولذلك أمكن القول بأن أفضلية الإسرار بالصدقة أو إعلانها، يتأتى من معان أخرى كالتعبير عن صدق المتصدق أو مدى تحقق الغرض منها، فقد يكون الإسرار أحيانا أفضل إذا كان المُتصدق عليه لا يرغب بأن يُعرف لمكانته أو ظرفه الخاص كمن تقلبت به الأحوال، أو كان ذا طبيعة حساسة يشعر بالشين أو الخجل إذا عرف بأنه يقبل الصدقة".
وأردف: "وقد يكون الإعلان بها أفضل إذا كان المتصدق عليه يرغب في تعريف الناس بحاجته للصدقات من أجل أن يتشجعوا على تقديم الدعم والتبرعات له، ومن جهة أخرى فقد يعلن المتصدق عليه قبوله الصدقة من باب توثيقها، خصوصا إذا كان مؤسسة أو شخصية اعتبارية تخضع أمواله للمحاسبة، والمهم في الأمرين البعد عن المنة والمراءاة".
وردا على سؤال "عربي21" بشأن إمكانية استثمار أموال الزكاة والصدقات في مشاريع اسثتمارية دائمة، قال زيتون: "يمكن تفصيل الجواب كالآتي: أما المزكي نفسه، فالأصل أن عليه إخراج الزكاة وعدم تحويلها عن طبيعتها أو غاياتها، فلا يحق له أن يقيم بها مشاريع إنتاجية أو استثمارية، ويمكنه ذلك من صدقة يتصدق بها".
وتابع: "وأما وكيل المزكي أو الهيئة المتخصصة بجمع أموال الزكاة، فالأولى ألا تقوم بمثل ذلك لاعتبارات منها: أن تأسيس المشروع وبدأه ونجاحه قد يستهلك وقتا طويلا حتى يؤتي أكله، هذا في حال أنه نجح، فهل ينتظر الفقراء والمحتاجون كل ذلك الوقت؟ وفي حال خسارة المشروع فمن يتحمل خسائر الفقراء في ذهاب تلك الأموال المخصصة لهم؟".
ولفت زيتون إلى إمكانية ذلك "في حال فاض مال الزكاة عن الحاجة، أو عرض بعض أرباب المال تخصيص مشروع قائم أو جزء منه لصالح الزكاة فلا مانع من ذلك، ويستحسن أن تخصص أموال صدقات أو أوقاف لهذه المشاريع والابتعاد عن أموال الزكاة، إلا إذا فاضت وزادت عن الحاجة".
وفي ذات الإطار، لفتت الكاتبة السورية ريمي حمود، إلى أننا إذا ما دققنا النظر في قوله تعالى {إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ..} لعلمنا أنه ليس لنا أن نذم ما امتدحه الله، وفي هذا دليل على جواز الجهر بالصدقة وامتداحها دون شروط".
ريمي حمود.. كاتبة سورية
وقالت في حديثها لـ"عربي21": "لو نظرنا في أمر الذي يطعن ويشكك في نوايا المتصدقين واتهامهم بالرياء، لوجدنا أن ذنب الاتهام والطعن بنية المتصدق أكبر جرما عند الله من ذنب الرياء نفسه؛ لأن ظلم وضرر المشكك تعدى إلى غيره؛ سواء من خلال تثبيط الهمم، وظلم المتصدق أو استغابته ولو كان مرائيا، وربما دخل أيضا في الشرك؛ لأنه لا يعلم ما في الصدور إلا الله"، متسائلة: "فكيف اطلع على نية المتصدق؟ بينما المتصدق إذا كان مرائيا فضرره ينحصر في ظلم نفسه فقط عند ربه".
وذكرت الكاتبة حمود أن "لنا في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام أسوة وأمثلة كثيرة، فكيف عرفنا أن عثمان رضي الله عنه قد جهز جيش العسرة؟ وكيف عرفنا بتبرع سيدنا أبي بكر الصديق بكل ماله في غزوة تبوك، بينما تبرع عمر رضوان الله عليه بنصف ماله بعد أن سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم بكم تبرع أبو بكر؟".
أما عن إمكانية استثمار أموال الزكاة والصدقات في مشاريع إنتاجية دائمة، فرأت حمود أن "الزكاة عموما وزكاة الفطر يجب إخراجها مالا أو صواعا، وأنها لا تنفق على مشاريع إنتاجية، ويُرجع في ذلك إلى علماء الشرع، أما أموال الصدقات، فيمكن إنفاقها وترشيد صرفها في مشاريع تساهم في القضاء على البطالة واستثمار اليد العاملة".
بدروه قال الباحث الاجتماعي الأردني، مفيد سرحان: "في مثل هذه الظروف الصعبة، فإن إظهار الصدقة والزكاة يساهم في حثّ الآخرين، ويشجعهم على الاقتداء والبذل والعطاء، مع استحضار النية عند المبترع، وأن يكون عمله خالصا لوجه الله تعالى".
وأضاف: "وكذلك التركيز على مدى حاجة المجتمع للمساعدة، وأثرها الكبير على المحتاجين، وقد يكون من المفيد أيضا إبراز هذا الأثر على بعض القطاعات، دون إساءة أو إحراج أو إشعار بالدونية، كالحديث عما يقدم بالأرقام والنوعية دون ذكر أسماء المستفيدين، أو إظهار صورهم الشخصية، حفاظا على كرامة الإنسان، فالتوثيق مهم في العمل الخيري، ويعطي مصداقية أكبر للعمل خصوصا للعمل المؤسسي".
مفيد سرحان.. باحث اجتماعي أردني
ورأى سرحان أن "تزايد أعداد الفقراء والمحتاجين وارتفاع تكاليف المعيشة، وتنوع الحاجات من فقراء وأيتام وأرامل وطلبة علم ومرضى، وفقراء مقبلين على الزواج، ومشردين بسبب الحروب والأزمات، وحاجة بعض الفئات إلى الدعم والمساعدة لسنوات متواصلة، فإن تخصيص جزء من أموال التبرعات والصدقات، وزكاة المال لأغراض الاستثمار الوقفي لصالح الفئة المحددة، يساهم في تنمية هذه الأموال وديمومتها".
وأردف في حواره مع "عربي21": "شريطة أن يقوم بذلك أهل الاختصاص الثقات، القادرون على حسن إدارة هذه الأموال، مما يضمن المحافظة عليها وتنميتها ضمن أسس واضحة ومعايير الرقابة المالية المعتمدة".
وذكر في ختام حديثه أنه "يمكن لبعض هذه المشاريع أن تساهم في تدريب بعض الفئات المستفيدة لتكون قادرة على الانخراط في سوق العمل، والإنتاج وتأمين احتياجاتها، وكذلك فإن بعض المشاريع يمكن أن تساهم في تشغيل بعض الفئات المستفيدة كالأرامل، مع ملاحظة ألا يؤثر ذلك على طبيعة الأسرة والتربية والتماسك الأسري، وعدم انحراف الأبناء أو التأثير على حقهم في متابعة الدراسة"، وفق تعبيره.
مآزق دارسي التدين في العالم العربي.. نموذج شهر رمضان
كيف يستثمر الصائمون روحانية رمضان في ظل الجائحة؟
ماذا يلزم الفقيه في المستجدات حينما تختلف تقديرات الخبراء؟