تخوض
غزة حربها ضد الكيان الغاصب، فتحرك التوازنات الراكدة في المنطقة. لقد فكت حتى الآن الحصار عن بيت المقدس ومنعت برنامج تهويد كان يخطط له منذ زمن بعيد، وأثارت حمية عرب الداخل فإذا هم يخرجون
الفلسطيني الكامن فيهم بعد قهر طويل. وهي تستفز جماعة أوسلو وتضعهم في موضع الخونة وتقوض الأرض من تحتهم.
ولن تتوقف نتائج هذه المعركة عن التفاعل في الداخل الفلسطيني وفي الجوار القريب وفي المجتمع الدولي، لكننا نجزم بأنها حققت نصرها بعد. وأحد وجوه النصر هو عودة القضية إلى صدارة اهتمام العرب على طول الخريطة العربية وعرضها. سأنظر في هذا الاتجاه.
الشواغل المحلية سرقت أرواح الشعوب العربية
بعد انطلاق شرارة الربيع العربي ورفع شعار "الشعب يريد تحرير فلسطين" ظننا أن التحرير قاب قوسين أو أدنى، وكان لمشهد زيارة جزء من حكومة تونس الثورة إلى غزة أثر بالغ في النفوس أحيا مواتا في الأرواح وبدد يأسا كثيرا كان خيم عليها. ثم علمنا باقتحام سفارة الكيان في مصر وإنزال علمه، فبدأنا نؤلف قصص التحرير القريب.
لكن الردة التي بدأت بانقلاب الجيش المصري على الديمقراطية صبت مياها باردة على النفوس المتوثبة، فإذا كل قُطر عربي منكب من جديد على همومه الخاصة ويحاول إنقاذ من يمكن إنقاذه من أمل. بل إن الثورة المضادة حققت انتصارات في تونس وفي ليبيا وفي اليمن، ووجد شباب الربيع العربي نفسه يدافع عن وجوده الفردي وغفل عن القضية الأم.
ربيع غزة 2021 أعاد الأمل في النفوس، فإذا المنكبّون على همومهم القُطرية يهبّون إلى النصرة بما تيسير في أيديهم من وسائل، وإذا الشعار المقدس يرفع من جديد، لقد صححت غزة الصورة مرة أخرى. ما زال الشعب العربي يريد تحرير فلسطين، لكن غزة ما زالت تكشف.
يوجد خونة بين الصفوف المتوثبة
في هبّة النصرة، وهي هبة في مواقع التواصل الاجتماعي أكثر منها في الشوارع بحكم تفشي الوباء اللعين، والحالة التونسية كاشفة فقد كانت الوقفات الاحتجاجية محدودة العدد مقارنة بغليان مواقع التواصل الاجتماعي.. في هذه الهبة أطلت رؤوس وأقلام تسخر مما يجري في غزة والأرض المحتلة، وأعادت خطاب التفرقة ذا الطبيعة الاستئصالية. وعملت هذه الأقلام على التهوين من أي مكسب محتمل تحت غطاء الشفقة على أطفال غزة، ومع كل بناية تسقط كانت الأصوات ترتفع لتحسب خسائر غزة كأنهم دفعوا ثمنها (لن أشير هنا إلى أقلام أخرى أعلنت شفقتها على أطفال العدو الذين تستهدفهم صواريخ الإخوان المجرمين).
ونعتبر أن التعرف على هذه الأصوات المشككة والساخرة في كل صف من كل قُطر عربي هو مكسب عظيم، إنها عملية فرز تاريخية فرضتها غزة ليقف كل صادق في موقعه من المعركة. لقد جعلنا حديث الديمقراطية في الداخل نغفل عن هؤلاء، وذهب في ظننا أنهم جادون في بناء الديمقراطية فلما تبين أن بناء الديمقراطية وتحرير الأرض المحتلة مساران متلازمان انكشفت وجوههم، وانكفأ الكثير منهم على خطاب قُطري مقيت يكرر بصفاقة: "وما دخلنا بفلسطين؟ فينا اللي مكفينا".
نعم لدينا مشاكل كثيرة بعض أسبابها ثورة مضادة حاولت إبعادنا عن تحرير فلسطين وإغراقنا في المحلي تحت شروط قاهرة، ونحن ندرك قبل هؤلاء أن هذه المعركة ليست معركة التحرير الأخيرة، لكننا ندرك أيضا ان كل معركة تعمق الفرز.
الوضع الدولي غير مناسب
هذه جملة عباس في رام الله، يجلس فوق سلحه ويحلل الوضع الدولي فيجده غير مناسب. ليس عباس إلا وجها من وجوه الأنظمة العربية، بمن فيهم الرئيس التونسي الذي سافر صامتا إلى فرنسا كتلميذ سيعرض محفوظاته أمام معلم قاس، واكتفى بوضع بنس صغير يحمل علم فلسطين على ملبسه (تكفل أنصاره بتكبير الصورة). في وضع مماثل كان يمكن إلقاء خطاب قبل صعود الطائرة عن القضايا التي يزمع المشاركة في مناقشتها، وأن يضع الحديث عن الوضع في الأرض المحتلة على جدول محادثاته ويفرضه فرضا على فرنسا؛ التي تقف مع الكيان بلا أية قفازات مجاملة لضحايا القصف المدمر. إن عباس (وفريق أوسلو) حالة هوان تراود الخيانة وترتكب الحرام الوطني والقومي، فهناك عباس تونسي وآخر مصري وآخر مغربي، وكلهم يحتفظون بحق الرد على طريقة بشار.
الوضع الدولي لم يكن منذ النكبة مناسبا لأي تحرك سلمي أو حربي، فنحن نتذكر أن الانتفاضة السلمية الأولى بالحجارة والمقلاع قد أزعجت الوضع الدولي غير المناسب، وكان على عباس أن يتذكر أن تلك الانتفاضة عادت به إلى أرضه ومكنت له ليحكم، رغم الوضع الدولي غير المناسب. وكان يمكنه أن يتخيل مكاسب من وراء الوقوف إلى جانب غزة، ورفض التنسيق الأمني وإطلاق سراح شباب الضفة المتوثب لينصر مقدساته وإخوته، ويشتت تركيز العدو.
وهذا الكلام يمكن قوله للنظام الأردني أيضا، فقد تبين أن شباب الأردن يتهافتون على الحدود الفاصلة يريد النصرة والعون. وكان يمكن استعمال حماسه لتحقيق مكاسب لفلسطين وللأردن وفي كل خير، ولكن استعادة حديث الوضع الدولي كشفت، والفضل لغزة، أن مثال عباس عاهة مستديمة في طريق التحرير، وأن غزة الآن وغزة القادمة (هناك معارك أخرى في الطريق) ستضعه هدفا مشروعا. وهذا هو المكسب الأكبر ضمن الفرز التاريخي الذي نتج عن غزة 21.
قد علم كل أناس مشربهم
غزة 21 ذكرتنا وأعادت مسح غبار الهموم القُطرية عن بوصلة الشعوب العربية؛ التي لا تملك حتى الآن إلا حناجرها وأصابعها على ألواح الحواسيب. لكن تلك حدود القدرة الآنية، أما الطموح فقد تبلور أكثر.
فرزت غزة الصفوف وحررت الأصوات من جديد وربطت بحبل متين بين الحرية في القطر والتحرير في الأرض المحتلة، فحيث ما ارتفع منسوب الحرية ارتفعت مناسيب المشاركة الميدانية والافتراضية. ما بعد غزة ستكون الصورة أوضح.
لقد قامت المقارنة بين مرسي والسيسي، وخرج العسكر خاسرين شرفهم القومي، فلم يكن الانقلاب من أجل الديمقراطية بل من أجل حماية الكيان. وقد سكتت أصوات مشككة بررت للانقلاب القومي (ناصر الثاني)، وتبين للناس حدود السقوط التطبيعي ونهاية مسرحية خدمة فلسطين عبر التطبيع.
الصورة الآن واضحة والفضل لغزة 2021، فغزة أقرب ما تكون لحريتها ومجدها. لقد حررت نفسها وحررت العرب من حولها، وحق لها القيادة.