الكثير من المظاهر الوحشية والهمجية التي تتصف بها اعتداءات دولة الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزّة، لا تعكس استراتيجيات التدمير الشامل والاستئصال الجذري التي اعتمدتها وتعتمدها المؤسسة الصهيونية ضدّ الشعب الفلسطيني على مدى قرن ونيف، فحسب؛ بل هي، أيضا، مرايا عاكسة لسلسلة فوارق لا تقبل المقارنة بين تكنولوجيا التسليح وقدرات السلاح على جانبَيْ المواجهة.
وهذا بُعد يكتسب طابعا كلاسيكيا مسلّما به، غنيّ عن القول، لولا أنّ معادلاته تدور، في جانب آخر شديد الأهمية، حول فارق التأثير النفسي والمعنوي لصاروخ المقاومة الفلسطينية، مقابل قذائف طائرات الـ F ـ 35 أو الـF ـ 16؛ الأمر الذي يسري كذلك على الأثر العسكري المباشر لسقوط صاروخ على تل أبيب، مقابل التدمير التامّ لمبنى من 12 طابقا في غزّة.
صحيح أنّ الخسائر في الأرواح والمنشآت هي الحصيلة المأساوية، الدامية دائما، جراء هذا التباين الصارخ بين سلاح وسلاح، وهي الأهمّ بالطبع على الجانب الأضعف؛ إلا أنّ تكنولوجيا السلاح المعاصر تجاوزت الكثير من المعطيات الكلاسيكية التي كمنت على الدوام خلف صناعة التدمير الشامل. وبهذا المعنى، فإنّ صاروخ المقاومة المصنّع محليّا وبإمكانيات ذاتية محدودة ومتواضعة، قد ينطوي في سياقات عديدة على مآلات عسكرية لا يُستهان بها، خاصة في بلوغ هذه الدرجة أو تلك من مبدأ «توازن الرعب» الناظم للعلاقات بين الأطراف المنخرطة في أي طراز من الحروب والمواجهات.
وبهذا المعنى أيضا، أخذت الطائرات المسيّرة تكتسب وظائف عسكرية متزايدة؛ لأنها رخيصة نسبيا، لا يسهل دحرها، ومعدومة الكلفة على الصعيد الإنساني، وتنجز العديد من المهامّ التي قد تبدأ من الاستطلاع، وتمرّ بتدمير أهداف مختلفة ولا تنتهي عند عمليات الاغتيال الفردي.
لم يكن عجيبا، إذن، أن يكون رجل مثل المنظّر السياسي الأمريكي فرنسيس فوكوياما هو الذي يناقش دور الطائرات المسيّرة، ليس في الحروب المباشرة وحدها، واسعة كانت أم محدودة، بل كذلك على صعيد تبديل مشاهد جيو ـ سياسية بأسرها. والرجل الذي بشّر، قبل قرابة 30 سنة، بأنّ التاريخ انتهى لصالح إنسان ليبرالي أخير وليد اقتصاد السوق؛ ينذر، اليوم، في مقال نشره مؤخرا موقع American Purpose، بأنّ الطائرة المسيّرة هي الشبح الذي يحوم في سماءات تكنولوجيا التسليح.
وكان الأمر سيبدو مجرّد ملحق بتنظيرات فوكوياما التي أعقبت نظريته الأولى الأشهر، وتخبطت يمنة ويسرة، لولا أنّ فوكوياما يخصّ تركيا (تحت إدارة رجب طيب أردوغان تحديدا) بالدور الأكثر حسما في الارتقاء بسلاح الطائرة المسيّرة إلى مصافّ عليا غير مسبوقة في عالم تكنولوجيا السلاح والتسلّح. ولولا أنه يقتدي بأحد كبار معلّميه، وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر، في إسباغ عمق ديني وحضاري على الطائرة المسيّرة، يسبق أعماقها العسكرية والجيو ـ سياسية: أنها مسيّرة… مسلمة، بل إسلامية!
التكنولوجيا التركية لتصنيع المسيّرات لم تخرق الاحتكار الأمريكي ـ الإسرائيلي لهذه التكنولوجيا فقط، بل تجاوزتها من حيث القدرات والوظائف العملياتية المدهشة
وكان كيسنجر قد اعتبر أنّ الإسلام شهد منعطفَين حاسمين، ظهور الدعوة وانتشارها، ثمّ صعود الإمبراطورية العثمانية؛ وفوكوياما يساجل بأنّ الطائرة المسيّرة التركية (من طراز Anka-S وشقيقتها الأكثر تطورا Bayraktar TB2) انطلقت من حصار 1975 الذي فرضته الولايات المتحدة على تركيا، العضو في الحلف الأطلسي مثل أمريكا. وبذلك فإنّ التكنولوجيا التركية لتصنيع المسيّرات لم تخرق الاحتكار الأمريكي ـ الإسرائيلي لهذه التكنولوجيا فقط (مسيّرات Predator وHeron بصفة خاصة)، بل تجاوزتها من حيث القدرات والوظائف العملياتية المدهشة. لافت، في المقابل، أنّ ميادين توظيف المسيّرات التركية لم تكن تستهدف إحياء مَواطن الإمبراطورية العثمانية، بقدر ما هدفت وتهدف إلى خدمة مصالح تركيا وتوطيد حضورها على مشاهد جيو ـ سياسية مترامية ومعقدة، لا تبدأ من إدلب السورية ولا تنتهي في ناغورني كارباخ.
ويسوق فوكوياما بضعة أمثلة، ساطعة المغزى في الواقع، حول سطوة المسيّرات التركية: في آذار (مارس) 2020، ردّا على مقتل 36 جنديا تركيا ضمن هجوم للنظام السوري مدعوم من موسكو، استخدمت أنقرة مسيّراتها وأظهرت لقطات الفيديو تدمير نحو 100 مدرعة للنظام السوري، فأوقفت الهجوم تماما، وعززت السيطرة التركية على منطقة إدلب بأكملها، كما قطعت الطريق على سعي النظام السوري إلى استثارة موجة لجوء جديدة كانت ستضع أوروبا في ورطة. في أيار (مايو) من العام ذاته، تمكنت المسيّرات التركية من قطع الطريق على قوات خليفة حفتر في زحفها نحو طرابلس، فلم تثبّت أنقرة أقدامها في ليبيا فقط، بل تكفلت بهزيمة حفتر سياسيا وعسكريا، بقدر ما ألحقت هزائم متفاوتة بداعميه الإقليميين والدوليين. في ناغورني كاراباخ، تدخلت المسيّرات التركية لصالح الأذريين، وتردد أنها دمرت 200 دبابة و90 مدرعة و182 قطعة مدفعية وأجبرت الطرف الأرمني على الانسحاب.
لكنّ فوكوياما يقرّ، دونما مفاجأة في الواقع، أنّ تركيا في توظيف مسيّراتها لم تُلزم ذاتها بأيّ تحالف إقليمي أو دولي؛ بل إنّ «حرب السنّة والشيعة» المستعرة بين السعودية وإيران (حسب تشخيصه، بالطبع) لم تدفع تركيا إلى الالتحاق بأيّ من المعسكرين، فدخلت في خلاف مع «دول خليجية سنّية» في ليبيا، وانحازت إلى روسيا من حيث التعاقد على صواريخ S-400 فأغضبت واشنطن، لكنها في الآن ذاته لم تتوقف عن مناوشة موسكو وحليفها النظام السوري في شمال سوريا، وكذلك بيع مسيّرات إلى أوكرانيا المنخرطة في نزاع متفجر مع روسيا. ولقارئ فوكوياما أن يتساءل، محقا، عند هذا الجزء من أفكار الأخير تحديدا: أين، إذن، إسلامية المسيّرات التركية؟ واستطرادا: أين توجهها إلى إحياء الإمبراطورية العثمانية؟ ولماذا لا تكون المسيّرات التركية عنصرا من عناصر كثيرة تتشارك في صناعة حضور تركي جيو ـ سياسي وعسكري وتكنولوجي وتجاري وصناعي عابر للدين والعقائد والأحزاب السياسية والتأسلم والعلمانية وما إلى ذلك كلّه؟ وهل، في المقارنة، يمكن الحديث عن مسيّرات أمريكية مسيحية، أو إسرائيلية عبرية، أو هندية هندوسية؟
الأحرى، الإجابة بأننا، مجددا، أمام وضع فوكويامي يحيلنا إلى سلسلة الأطروحات السالفة التي ظلت تقود الرجل من تناقض إلى آخر: نهاية التاريخ، وانتصار الإنسان الليبرالي خاتم البشر الوحيد الممكن في أحقاب ما بعد سقوط جدار برلين؛ ثمّ عودة التاريخ، في البلقان والكويت والعراق وفلسطين وأفغانستان، فضلا عن منعطف 11 أيلول، و«الحملة على الإرهاب» وانتهاك الحقوق المدنية في عقر دار الديمقراطيات الغربية؛ ثمّ تراكم المآزق الكبرى التي أخذت تهزّ الدولة الرأسمالية المعاصرة؛ لأنّ «التاريخ لا يمكن أن ينتهي ما دامت علوم الطبيعة المعاصرة لم تبلغ نهايتها بعد، ونحن على أعتاب اكتشافات علمية ذات جوهر كفيل بإلغاء الإنسانية في حدّ ذاتها،» كما كتب فوكوياما… نفسه، الذي سوف يقول إنّ التاريخ أكثر ابتداء من أي عهد مضى في عمر الإنسانية!
وذات يوم، اعتبر فوكوياما أنّ ثلاثة مقوّمات يتوجب أن تتوفر في أيّ نظام سياسي حديث: دولة قوية، وقانون تخضع له الدولة، ومواطنون قادرون على محاسبة الحكومة. لكنه لم يتردد في المطالبة بالحفاظ على نظام بشار الأسد: «سوريا سوف تواجه مشكلة كبيرة إذا سقط الأسد، لأنّ الدولة سوف تتفكك». وضع فوكويامي، بامتياز: لا ديمقراطية من دون دولة قوية ومكينة (يمثّلها نظام الأسد، صاحب امتياز الدولة)، ولا سبيل إلى ديمقراطية حقة إلا بإسقاط هذا النظام؛ فما العمل، إذن، حيال معادلة مغلَقة وممتنعة؟ أم إننا ببساطة أمام واحد من أوضاع فوكوياما التي لا تنغلق إلا لتنفتح على وضع جديد، أكثر استغلاقا!
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس