بعد أعوام من حكايات "صفقة القرن" التي ستصفّي القضية الفلسطينية، وبعد ما يقرب من عامين من طوفان التطبيع الذي وصل في بعض تجلياته حد التحالف مع الغزاة الصهاينة، وبعد أن روّج نتنياهو لنظرية التطبيع قبل الحل، وتلبّسته أحلام الهيمنة على المنطقة، وليس تصفية القضية وحسب.. بعد ذلك كله، عادت القضية إلى ألقها، ورأينا حشودا بشرية في مدن بلا حصر، تهتف لحرية فلسطين ولشعبها الأبي.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: لماذا حدث ذلك، وأي جديد قلب الموازين على هذا النحو؛ ليس في بلاد العرب والمسلمين وحسب، بل في الدول التي احتضنت الكيان من أول يوم ولغاية الآن مثل أمريكا وبريطانيا؟
سر الأسرار في هذا التعاطف له بُعدان؛ الأول يتعلق بالأمّة الإسلامية على وجه الخصوص، والثاني بأحرار العالم
سيقول البعض؛ إن زمن الصورة له دوره الكبير، ومعه زمن مواقع التواصل التي ضخّت دماء التضامن مع فلسطين في شرايين العالم أجمع، وأفرزت حشودا شبابية كان البعض يشكّك في انتمائها، ويراها "خارج التغطية"، كما يقال، وإذ بها أكثر انتماء لفلسطين وقضيتها. ولا أعني هنا أولئك الأبطال في كل فلسطين، بما فيها تلك التي اعتقد الغزاة أنهم "أسرلوها"، وجعلوها تنسى انتماءها، بل أيضا في الشتات الفلسطيني، وفي العالم العربي والإسلامي.
لا شك أن لزمن الصورة ومواقع التواصل دورا كبيرا فيما جرى، لكن الأمر لا يقتصر على ذلك بحال، ذلك أن هذا اللون من التعاطف كان يتجدّد في مراحل سابقة، وإن كان هذه المرة أكبر بنسبة لا يمكن إنكارها.
سر الأسرار في هذا التعاطف له بُعدان؛ الأول يتعلق بالأمّة الإسلامية على وجه الخصوص، والثاني بأحرار العالم.
فيما يتعلق بالأمّة العربية والإسلامية، تحضر قضية القدس والأقصى بوصفها الأكثر حساسية في الوعي الجمعي، فهنا ثمة قرآن كريم يتلى، ولا يمكن نسخه بحال من الأحوال، يذكّرهم دائما بالمسجد الذي بارك الله حوله. وحين يصرّ العدو على استهداف هذه البقعة، ويراها "هيكله المزعوم"، فإن الوضع الطبيعي أن تكون ردة الفعل بهذا المستوى من القوة.
أما البُعد الثاني، فيتعلق بالمسلمين وبأحرار العالم في ذات الوقت، فحين يستكين الشعب الفلسطيني، وتمثّله سلطة يقول كبيرها؛ إن التعاون الأمني مع العدو "مقدّس"، ويسفّه المقاومة، ويكرر خطابا انهزاميا لم يتورّط فيه أي قائد من قبل، فإن الوضع الطبيعي أن ينفضّ الناس من حول القضية، أو ينسوها في أقل تقدير، لا سيما أن لديهم ما يشغلهم من قضاياهم المحلية، ولكن حين ينتفض الشعب كما حصل في المعركة الأخيرة، ويسجّل بطولات استثنائية، فإن ردة الفعل الطبيعية هي ما شاهدناه في العالم أجمع.
فالأحرار في كل الكون يحترمون الشعب الذي يقاوم، وليس الشعب الذي يستسلم. ونذكّر هنا بما نذكّر به دائما، يوم لم تكن هناك مواقع تواصل، وإن حضرت الصورة؛ أعني ما حدث عام 2002، وفي ذروة انتفاضة الأقصى، وما تخلّلته من عمليات استشهادية، حين كان بعض أبواق الأنظمة العربية، بل بعض مشايخ السلاطين يجرّمون تلك العمليات. في تلك الأثناء، أجرى الاتحاد الأوروبي استطلاع رأي لمواطني الاتحاد، كانت نتيجته أن 59 في المئة قالوا؛ إن "إسرائيل" هي الدولة الأخطر على السلام العالمي.
إنها المقاومة التي يحترمها أحرار العالم أجمع، وحين تكون القدس هي عنوانها، فإن جماهير الأمة العربية والإسلامية ستلتحم بها أكثر بكثير.
فالأحرار في كل الكون يحترمون الشعب الذي يقاوم، وليس الشعب الذي يستسلم.
هذه الحشود التي رأيناها في عواصم ومدن شتى ليست غثاء، كما سيردد بعض قصار النظر، بل هي حشود تحمل فلسطين في قلوبها وضمائرها، ولولا السدود والحدود، لتدفّق الملايين منها لقتال الغزاة.
كيف لغزاة أشقياء ألا يشاهدوا تلك الحشود، ولا يدركوا أية أمّة يعادون، وأي وتر حساس لها يضربون عليه؟!
إنهم غزاة أشقياء بالفعل، وسيواصلون غيّهم وغرورهم، حتى تفرض المعركة الفاصلة نفسها على كل الأنظمة، بل على العالم أجمع، وسيبدأ ذلك بفلسطين؛ حين تتخلص من قيادة العجز، وتعلن انتفاضتها الشاملة التي لا تقبل بما دون التحرير، ولا شيء سواه.