شكل رد حركة "
حماس"
الفلسطينية الإسلامية على الهجمات المنسقة التي شنتها المستعمرة الاستيطانية العنصرية الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني في المناطق المحتلة عام 1948، وفي الضفة الغربية، ومن ضمنها القدس، وفي قطاع غزة، صدمة غير متوقعة وغير سارة، خلقت حالة من القلق استشرى في أوصال حلفاء إسرائيل من الدكتاتوريين العرب. فقد زعزعت حركة مقاومة بسيطة محاصرة في جيب صغير في غزة جيشا مدججا بمختلف أنواع الأسلحة الفتاكة ويوصف بأقوى جيش في المنطقة، وقوة إقليمية مؤهلة لضبط الشرق الأوسط، وتأسيس مشروع إقليمي أوسطي جديد، في وقت تنامت فيه الأوهام بنهاية وتصفية القضية الفلسطينية من خلال أسطورة "صفقة القرن"، واتفاقات "أبراهام" الخيالية.
جاء قلق دكتاتوريات
العالم العربي انعكاساً لحالة القلق والذعر التي دبت في أوصال الإمبرياليات الراعية للمستعمرة الإسرائيلية، من الولايات المتحدة إلى الدول الأوروبية، والتي سارعت إلى محاولة إنقاذ المستعمرة الإسرائيلية وضمان مكتسباتها الاستعمارية العنصرية، بتكثيف الاتصالات مع حلفائها من العرب المذعورين لوقف ضربات
المقاومة التي أخلّت بخرافة الردع الإسرائيلي والجيش الذي لا يقهر، وأعادت المسألة الفلسطينية إلى واجهة الاهتمام الدولي والتضامن العالمي باعتبارها مقاومة وطنية مشروعة في وجه احتلال استعماري عنصري.
الحلول الجديدة التي تقدمها الولايات المتحدة وأوروبا وحلفاؤهما العرب تحاول إعادة إنتاج الحلول القديمة، التي تستند إلى هرطقات حل الدولتين، والذي يقوم على ضمان وجود دولة إسرائيل بسماتها العنصرية اليهودية ونظام فصل عنصري، إلى جانب إقامة دولة فلسطينية وهمية
إن الحلول الجديدة التي تقدمها الولايات المتحدة وأوروبا وحلفاؤهما العرب تحاول إعادة إنتاج الحلول القديمة، التي تستند إلى هرطقات حل الدولتين، والذي يقوم على ضمان وجود دولة إسرائيل بسماتها العنصرية اليهودية ونظام فصل عنصري، إلى جانب إقامة دولة فلسطينية وهمية، ولا مانع من إدماج حركة حماس إذا سلكت طريق منظمة التحرير الفلسطينية في مسار أوسلو، بالاعتراف بإسرائيل والإقرار بالاتفاقية. وهو ما عبّر عنه الاتحاد الأوروبي بدعوة حماس إلى طاولة المفاوضات بعد التصالح مع السلطة الفلسطينية، وهو ما أشار إليه الرئيس الأمريكي جو بايدن ومفهومه للسلام الذي يقوم على وجوب اعتراف المنطقة بشكل لا لبس فيه بحق إسرائيل في الوجود كدولة يهودية مستقلة.
لا جديد في العرض الأمريكي الأوروبي، فمنذ عام 2006، طالبت اللجنة الرباعية الدولية (تضم الولايات المتحدة الأمريكية، وروسيا والاتحاد الأوربي، والأمم المتحدة)، حماس بـ"نبذ الارهاب، والاعتراف بحق إسرائيل بالوجود، والاعتراف بالاتفاقات الموقعة بين إسرائيل والفلسطينيين، ونزع سلاحها"، مقابل الاعتراف بها كطرف مقبول ومعترف به في الساحة الفلسطيني، وهي مطالب الأنظمة العربية ذاتها.
وهذه سياسة ثابتة منذ نهاية الحرب الباردة تجسدت بصورة واضحة بعد اتفاق أوسلو مع السلطة الفلسطينية 1993، ووادي عربة مع الأردن 1994، وفي مؤتمر "شرم الشيخ" في آذار/ مارس 1996 والذي سمي بـ"القمة الدولية لصانعي السلام"، برعاية الولايات المتحدة، وروسيا، ومشاركة إسرائيل، والسلطة الفلسطينية، والأردن، ومصر، والمغرب، وموريتانيا، وتونس، والجزائر، واليمن ودول مجلس التعاون الخليجي الست. وناقشت القمة إنقاذ عملية السلام وتوفير الأمن في المنطقة، ومكافحة "العنف والإرهاب"، وكان من أهدافها الأساسية تجريم تيار المقاومة الفلسطينية دولياً ووسمه بالإرهاب.
على مدى سنوات السلام الموهوم تعاملت الأنظمة العربية مع حركة حماس كمنظمة إرهابية، وجرت عمليات ملاحقة واعتقال لأعضائها، والتشديد على تجفيف تمويلها. وبلغت الحملة أوجها بعد الانقلاب على الربيع العربي وإعادة بناء الدكتاتوريات العربية من مداخل الإرهاب، وقدوم الإدارة الأمريكية السابقة برئاسة دونالد ترامب وبروز "صفقة القرن" وما ترتب عليها من اتفاقات "أبراهام"
التطبيعية المجانية، حيث شهدت هذه الحقبة البائسة حملة عربية شعواء على حركة حماس، رغم تأكيدات حماس على كونها حركة مقاومة للاحتلال الصهيوني، ولا تتدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية. وقد التزمت حماس الصمت تجاه الحملات ضدها لكن دون جدوى.
على مدى سنوات السلام الموهوم تعاملت الأنظمة العربية مع حركة حماس كمنظمة إرهابية، وجرت عمليات ملاحقة واعتقال لأعضائها، والتشديد على تجفيف تمويلها. وبلغت الحملة أوجها بعد الانقلاب على الربيع العربي وإعادة بناء الدكتاتوريات العربية من مداخل الإرهاب
وكانت السعودية والإمارات في إبريل/ نيسان 2019 قد شنت حملة اعتقالات واسعة طالت أكثر من 150 من كوادر حماس ومناصريها من المقيمين على أراضي الدولتين، بجانب استدعاءات وملاحقات طالت العشرات بسبب علاقتهم بالحركة. وشملت الحملة عمليات ترحيل واعتقال لفلسطينيين وسعوديين، وتجميد أرصدة ورقابة على الحوالات المالية. ومن أبرز من طالتهم الإجراءات السعودية، الطبيب الاستشاري الثمانيني محمد الخضري، الذي مثّل حماس بصورة رسمية لدى السعودية حتى عام 2003. وفي أيار/ مايو 2019 شنت السلطات الإمارات حملة أمنية واسعة شملت اعتقال 40 فلسطينياً من المقيمين فيها، فضلاً عن استدعاءات وملاحقات طالت العشرات.
ومنذ الانقلاب العسكري في مصر في تموز/ يوليو 2013، والإطاحة بالرئيس المصري الراحل محمد مرسي، شنت السلطات المصرية حملة واسعة ضد حماس، تضمنت اعتقالات لأعضائها. وتفاخرت السلطات المصرية بحصار حملس وأعلنت عن تدمير أكثر من ثلاثة آلاف نفق، سواء بالتفجير أم بالإغراق بمياه المجاري. وكذلك تدمير مدينة رفح المصرية بالكامل، بدعوى وقف تسلل المسلحين من غزة إلى سيناء. واعتبرت فصل قطاع غزة عن الجزء الشمالي من سيناء، هدفاً استراتيجياً، حيث باشر الجيش المصري بإقامة "منطقة عازلة" سمّاها "منطقة أمنية" على الشريط الحدودي مع قطاع غزة، على عمق كيلومتر داخل الحدود المصرية، وعلى طول 12 كلم على خطّ المواجهة مع قطاع غزة.
وفي الأردن، تدهورت العلاقة مع حركة حماس عام 1999، وتم إنهاء وجود المكتب السياسي لحماس في عمان، وتم إبعاد خمسة من قادة حماس عن الأردن. وفي عام 2006؛ القت السلطات الأردنية القبض على مجموعة تنتمي لحماس اتهمت بأنها تحاول إدخال أسلحة إلى الأردن من إيران، تمهيدا لنقلها للضفة الغربية. وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 2014، ألقت السلطات القبض على 16 شخصا في ما عرف بقضية خلية حماس، وتم الحكم على مجموعة منهم بتهمة محاولة تصنيع متفجرات ومحاولة تهريبها للضفة، وتلقي تدريبات في غزة. وحُكم على ثمانية موقوفين بالسجن بين عام وخمسة أعوام، كما حكمت غيابيا على أربعة متهمين بالسجن 15 عاما، بينما بُرئ أربعة موقوفين لعدم كفاية الأدلة.
إن الحملة العربية الشعواء على حركة حماس استمدت عزمها من الحملة الدولية، التي ترتكز على سلطة أوسلو في رام الله، والتي عملت كوكيل للاحتلال دون كلل، وقامت بإخلاص بمحاولة خنق وتقويض حماس وحركات المقاومة بوسائل وأساليب شنيعة شتى، في إطار التنسيق االأمني المقدس مع الاحتلال.
الحملة العربية الشعواء على حركة حماس استمدت عزمها من الحملة الدولية، التي ترتكز على سلطة أوسلو في رام الله، والتي عملت كوكيل للاحتلال دون كلل، وقامت بإخلاص بمحاولة خنق وتقويض حماس وحركات المقاومة بوسائل وأساليب شنيعة شتى، في إطار التنسيق االأمني المقدس مع الاحتلال
ولم يكن التماهي العربي مع السياسات الأمريكية والأوروبية والإسرائيلية بالتعامل مع حركة حماس مستغرباً، فقد أخذت الأنظمة العربية مسارات أبعد، لا تقتصر على حركة حماس بل طالت جماعة الإخوان المسلمين التي تُعد حماس أحد فروعها، حيث شنت حكومات الثورات المضادة حملة منسقة لنزع الشرعية القانونية عن الجماعة أسفرت عن تصنيفها حركة إرهابية بتاريخ 25 كانون أول/ ديسمبر 2013.
ولم تقف عمليات نزع الشرعية عن الجماعة على وجودها في مصر، بل امتدت إلى بلدان عربية خليجية، وقامت السعودية بضم الجماعة إلى قائمة المنظمات الإرهابية في 7 آذار/ مارس 2014، ثم تبعتها الإمارات العربية المتحدة في 15 تشرين الثاني/ نوفمبر 2014.
تنامت بعد الإعلان عن صفقة القرن التصريحات العربية بوصف حركة حماس بالإرهابية. وكانت الخارجية الأمريكية قد وضعت في 31 كانون الثاني/ يناير 2018؛ رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" إسماعيل هنية على قائمة الإرهاب. كما قررت محكمة العدل الأوروبية، في 26 تموز/ يوليو 2017، إبقاء حركة المقاومة الإسلامية "حماس" على لائحة الاتحاد الأوروبي "للإرهاب"، الأمر الذي دعا وزير الخارجية السعودية عادل الجبير إلى وصف حماس بالإرهابية، وقال أمام لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الأوروبي في بروكسل في 22 شباط/ فبراير 2018: إن وقف تمويل دولة قطر لحركة حماس يسمح للحكومة الفلسطينية بالسيطرة على قطاع غزة، واصفاً حماس بـ"المتطرفة" بعد وصفها بـ"الإرهابية".
وقد علق آنذاك يؤاف مردخاي، منسق نشاطات الحكومة الإسرائيلية في المناطق الفلسطينية، على تصريحات الجبير في بروكسل، عبر حسابه على تويتر قائلا: "إذا كان هذا هو أيضا تعريف السعوديين لحماس، فنحن متفقون معهم".
في سياق الضغوطات الأمريكية القصوى على حركة حماس، أدرجت واشنطن ثلاثة من كبار قادة حماس في 8 أيلول/ سبتمبر 2015 على قائمة الإرهاب، وهم: يحيى السنوار وروحي مشتهى ومحمد الضيف. وصنّفت الخارجية الأميركية في 16 أيلول/ سبتمبر 2016 القيادي في حماس فتحي حماد على القائمة.
أثارت تصريحات قادة حركة حماس بشكر إيران بعد الحرب الأخيرة حفيظة بعض مثقفي العرب السنة، فضلاً عن الناس العاديين، وذلك بعد السياسات التدميرية لإيران في مناطق عربية عدة، وبروز النزعة الطائفية، ولم يعترض أحد على شكر الأنظمة العربية التي مارست الحصار والتجويع والاعتقال بحق الفلسطينيين
لقد أثارت تصريحات قادة حركة حماس بشكر إيران بعد الحرب الأخيرة حفيظة بعض مثقفي العرب السنة، فضلاً عن الناس العاديين، وذلك بعد السياسات التدميرية لإيران في مناطق عربية عدة، وبروز النزعة الطائفية، ولم يعترض أحد على شكر الأنظمة العربية التي مارست الحصار والتجويع والاعتقال بحق الفلسطينيين وحركة حماس. وإذا كان الاعتراض على شكر إيران يمكن فهم أبعاده، فإن القبول بشكر الأنظمة العربية يصعب تبريره. فقد باتت رواية الأنظمة العربية البائسة حول حركة حماس والقضية الفلسطينية مدعاة للسخرية، ففي خضمّ الحرب الأخيرة أصرت الأجهزة الأيديولوجية للدكتاتوريات العربية المطبّعة على سرديتها الرثة المناهضة للفلسطينيين، والمتماهية مع الرواية الإمبريالية والدكتاتورية والصهيونية حول عبثية المقاومة، وأن حركة حماس اختطفت الاحتجاجات الفلسطينية وأنقذت إسرائيل، وقوضت التعاطف الدولي، إلى غير ذلك من الترهات والبلاهات.
لقد فرضت المقاومة الفلسطينية وفي مقدمتها حركة حماس واقعاً جديداً، حيث دفنت "صفقة القرن" الترامبية، وعادت أمريكا إلى سياساتها التقليدية، والعرب بدورهم سيسعون للتكيًف مع الوقائع الجديدة، وتبدلت الأطروحات مرة أخرى من الاستئصال إلى الاحتواء، إذ لم يعد ممكناً تجاهل المقاومة وحركة حماس، وهو ما كان واضحاً منذ الحرب العنيفة على غزة 2014، التي جرت بعد الانقلاب على الربيع العربي، والتي كشفت عن الكلفة الباهظة للقضاء على حماس والمقاومة. فقد كان واضحاً منذ ذلك الوقت تبدل الموازيين وبؤس السلطة الفلسطينية والأنظمة العربية.
جاء في تقرير مجموعة الأزمات الدولية بعد فشل الحرب على غزة في 26 آب/ أغسطس 2015 بعنوان: "لا مخرج؟ غزة وإسرائيل بين الحروب"، أنه من غير المرجح العثور على حل لمشاكل غزة في القاهرة أو رام الله، فكلاهما تنظران إلى حماس، أو للمنظمة الأم، الإخوان المسلمين، بوصفها تهديداً وجودياً. إنهما لا تريدان إنقاذ حماس أو مساعدة إسرائيل في سياستها التي اتّبعتها منذ سنوات بقطع الصلات بين قطاع غزة والضفة الغربية، بدلاً من ذلك، فكلاهما قانعتان بتجاهل قطاع غزة ومراقبة حماس وهي تغرق في مشاكلها المالية المتفاقمة. وخلص التقرير إلى أن سياسات عزل حماس ومحاصرة قطاع غزة، التي صُمّمت من قبل نفس اللاعبين الدوليين الذين وجّهوا العملية الدبلوماسية، لم تؤدِ إلى تقريب الحل السياسي ولا أدت إلى إزاحة حماس. وليس هناك من سبب يدعو للاعتقاد بأن استمرار هذه السياسات سيحقق ذلك.
خلاصة القول، نحن أمام معادلة جديدة في المنطقة لها استحقاقاتها، تعمل من جديد على إنقاذ المستعمرة الإسرائيلية وضمان تفوقها. وهذه المرة بالتخلص من سياسات استئصال المقاومة الفلسطينية وفي مقدمتها حركة حماس، والشروع بسياسات الاحتواء، كما حصل سابقاً مع منظمة التحرير الفلسطينية، ولكن بشروظ مغايرة، وهو ما سينعكس على التعامل مع جماعة الإخوان المسلمين، وسيظهر بإعادة إحياء منظورات اشتمال الاعتدال التي تقوم على دمج الإسلام السياسي وإشراكه في السلطة.
وسوف تبدأ هذه العملية بصورة متدرجة، قد يكون الأردن أولى محطاتها تتبعه مصر فالسعودية، وهي استراتيجية قد تكون فعالة بعزل إيران مع قرب التوصل إلى عودة أمريكا إلى الاتفاق النووي، أكثر من الطرق الاستئصالية السابقة. في هذا السياق فإن إشارات حماس إلى إيران خطوة براغماتية محسوبة، تمهد لمفاوضات في أمكنة أخرى وفق حسابات مختلفة.
twitter.com/hasanabuhanya