تبدو
مصر وكأنها تراوح طوال القرنين الماضيين بين محاولات للتقدم؛ حققت في وقت قصير،
نسبيا، بعض المنجزات المادية، وبعض "التحديث"، وربما
"الحداثة" في صورتها الأولية، ما بعث الأمل في جسر الهوة بيننا وبين
العالم المتقدم، بعد أن تكشف لنا منذ الحملة الفرنسية (1798- 1801) اتساع وعمق هذه
الهوة، وبين انتكاس لتلك المحاولات، أو تعثرها، بفعل تدخل عنيف من الخارج.
ويمكننا
رصد ثلاث محاولات/ انتكاسات كبرى: تجربة محمد علي (1805- 1840)، ثورة 1919، تجربة
الضباط الأحرار في 23 تموز/ يوليو 1952.
مع
الحملة الفرنسية، إذن، وعى قطاع مؤثر من المصريين موقعهم في تراتيبة القوى في
العالم، وبدا لهم أننا "متخلفون" عن ركب "
التقدم" في المراكز
الأوروبية الكبرى، لكن الوعي بمعنى الكلمة وتاريخها ودلالاتها لم يكن حاضرا بالقدر
الكافي. فالكلمة، والفكرة، هي بطبيعة منشئها مشروطة بمتغيرات القرن السابع عشر
الاجتماعية والسياسية في أوروبا، فهي نتاج مباشر لما سمى بـ"عصر
الأنوار"، عصر الاعتزاز بالمعرفة والإيمان بالعقل والأمل في المستقبل، عصر
شهد سيادة فلسفة عقلية، وتجريبية، تلغي سيادة الميتافيزيقا والدين، فلسفة حمل
مفاهيمها الرئيسية نخبة من المفكرين والمثقفين الموسوعيين، كان أبرزهم، في ما يخص
موضوعنا، الفيلسوف الفرنسي فولتير (1694- 1778)، الذي وضع تصورا نقيضا تماما
للتصورات السابقة عن "
التاريخ"؛ التي كانت تتمركز حول مفهوم
"العناية الإلهية". فمسيرة الإنسانية وتحولاتها حتى عصر الأنوار كانت
تتحدد وفقا لهذا المفهوم، فقد استبعد ذلك المفهوم في تحديد مسار التاريخ.
واضح
الفرق الزمني بين وعينا بـ"تخلفنا"، و"تقدم" غيرنا، وواضح
أيضا أن كلمة "التقدم" تستدعي؛ كما العديد من الكلمات التي تختزن معاني
متعددة حسب السياق والمجال التداولي التي تطرح فيه، نقيضها:
التخلف، والاضمحلال،
كما تستدعى؛ بالضرورة، تصورا لمسار ما، قد يكون "شاملا" كالتاريخ، وهي،
لغويا، تستدعى لازمة ما: (تقدَّمَ إلى/ تقدَّمَ بـ/ تقدَّمَ على/ تقدَّمَ في/
تقدَّمَ لـ).
وكان
إيمانويل كانط (1724- 1804) أول من طرح؛ في دراسته "نظرة في التاريخ العام
بالمعنى العالمي"، فكرة التفكير في التاريخ الشمولي للإنسانية، وحاول إثبات
وجود حركة منتظمة في التاريخ الإنساني تتحرك نحو غاية تسعى من خلالها لتحقيق
الحرية الإنسانية: "إذا أخذنا بعين الاعتبار تاريخ كل المجتمعات والعصور والحضارات،
فإنّ هناك عقلاً كونياً يتطلع باستمرار نحو تقدم الإنسان، وتحقيق الحكومة العالمية
التي تتحقق من خلالها الحرية والعدالة بموجب السلطة العليا للقانون الذي يمثله
الدستور".
التقدم،
وبالتالي "التاريخ" غائي عند كانط؛ فبالنسبة له "المشكلة الكبرى
للنوع الإنساني والتي أرغمته الطبيعة على أن يجد لها حلاً هي الوصول الى تكوين
مجتمع مدني يحكمه قانون عام"، وبتحقق هذا المجتمع يكون التاريخ قد حقق غايته،
ومن ثمَّ نهايته.
رؤية
كانط هذه، هي بداية للتحول في النظرة الى التاريخ، و"نهايته" من دائرة
الفكر الديني إلى دائرة الفكر الفلسفي، فبعدما كانت الرؤية الدينية هي المعين
للخلاص مما عليه البشر، أصبحت الرؤية الفلسفية الكانطية هي الحل عبر إقامة المجتمع
المدني.
أما
الصياغة الأكثر إسهابا وتعمقا، وشيوعا، وتأثيرا حتى اللحظة، فهي صياغة جورج هيجل
(1770- 1831)، التي قدمها في محاضراته الجامعية تحت عنوان "في فلسفة
التاريخ"، وهي من أواخر أعماله الفلسفية والأكاديمية، حيث كان يوقع كتبه بهذه
الصيغة: "جورج فلهلم هيجل دكتور في الحكمة الدنيوية"، وحيث انتشرت
"الهيجلية"؛ حتى أوشكت أن تصبح العقيدة الرسمية للدولة البروسية
(الألمانية).
في
محاضراته تلك، تصدى هيجل لمهمة البحث في مسار التاريخ البشرى بأسره؛ تاريخ الإنسان
وتطوره الحضاري، منطلقا من "إن الفكرة الوحيدة التي تجلبها الفلسفة معها وهي
تتأمل التاريخ؛ هي الفكرة البسيطة عن العقل، التي تقول: إن العقل يسيطر على
العالم، وأن تاريخ العالم، بالتالي يْمثُل أمامنا بوصفه مسارا عقليا". فكرة
"التقدم" كامنة في كل الحديث عن تطور تاريخ العالم باعتباره "مسارا
عقليا"، وباعتباره "يشكل المجرى العقلي الضروري لروح العالم"، ومن
ثم فإن الشكل الذى يتخذه التحقق الكامل للروح في الوجود، هو الدولة، وبتحديد أكثر
"الدولة البروسية"، فالتاريخ عنده يبلغ ذروته في الدولة البروسية التي
يعمل في خدمتها.
مسار
التقدم كما يرسمه هيجل يمر بمراحل أربع، يلخصها في هذه الفقرة الدالة: "إن
الشرقيين لم يتوصلوا إلى معرفة أن الروح، أو الإنسان بما هو إنسان حر، ونظرا إلى
أنهم لم يعرفوا ذلك فإنهم لم يكونوا أحرارا، وكل ما عرفوه هو أن شخصا معينا حر.
ولكن على هذا الاعتبار نفسه، فإن حرية ذلك الشخص الواحد لم تكن سوى نزوة شخصية
وشراسة، وانفعالا متهورا وحشيا، أو ترويضا واعتدالا للرغبات لا يكون هو ذاته سوى
عرض من أعراض الطبيعة، أي مجرد نزوة كالنزوة السابقة. ومن ثم فإن هذا الشخص الواحد
ليس إلا طاغية، لا إنسانا حرا. ولم يظهر الوعى بالحرية لأول مرة إلا عند اليونان،
ومن ثم فقد كانوا أحرارا. ولكنهم، وكذلك الرومان، لم يعرفوا سوى أن البعض فقط أحرارا
لا الإنسان بما هو إنسان.. أما الأمم الجرمانية فقد كانت بتأثير المسيحية؛ أول
الأمم التي تصل إلى الوعي بأن الإنسان بما هو إنسان حر".
هيجل،
إذا، يصوغ تصوره المثالي بالنسبة للتاريخ باعتبار أن "الحرية" هي:
"المصير الجوهري، والغاية المطلقة، أو بتعبير آخر، النتيجة الحقيقية لتاريخ
العالم"، التي بدأت في الظهور بالفعل مع الدولة التي يخدمها، ثم يؤكد بشدة
على أن "الدولة تكون قد تأسست تأسيسا متينا، وتكون قوية من الناحية الداخلية،
عندما تتحدد المصلحة الخاصة للمواطنين مع المصلحة العامة للدولة".
هنا
نحن أمام تصور محدد لمسار التاريخ، حيث تسعى "الحرية" للتحقق بالفعل،
وحيث التاريخ "غائي"، محكوم باعتبارات "جغرافية"، فالحرية-
التاريخ لن تجد تحققها الفعلي إلا في الغرب الجرماني، وهيجل إذا يحاول أن يتجاوز
المسألة الدينية المتعلقة بالعناية الإلهية (تدخل الله في التاريخ) مستخدما كل
أدواته الفلسفية، لا ينجح إلا في التأكيد على أن الحضور الإلهي في التاريخ لا يتم
إلا وفقا لمسار عقلي مدرك ومحدد.
هذه
الأفكار المؤسسة لفكرة التقدم والتاريخ الإنساني تتضمن أحكاما قاطعة تستبعد كل
العالم خارج الغرب الأوروبي (يؤكد هيجل أن أمريكا هي مستقبل العالم)، إنها لا ترى
فى باقي الشعوب ومناطق العالم إلا جماعات وأماكن مرت بمرحلة فقط من التاريخ وتم
تجاوزها، أو أنها (كل أفريقيا جنوب الصحراء) لم تدخل التاريخ بعد.
في
الوقائع؛ وبعيدا عن هذا الطرح الفلسفي، يبدو التقدم بالنسبة لمصر وكأنه أحجية.
فبينما كان هيجل يلقي محاضراته، كان محمد علي يبلغ ذروة "تقدمه" وتوسعه
على كل المستويات، حتى باتت جيوشه تهدد مقر الدولة العثمانية. عقد كامل من التقدم
المطرد، ختمته معاهدة لندن (1840) التي أجبرت فيها القوى الأوروبية محمد علي على
التراجع إلى داخل الحدود الضيقة لمصر، وأجهضت محاولته "الإمبراطورية".
وتلا
ذلك ما يسميه المؤرخ عبد الرحمن الرافعي؛ في الكلمات الأولى في كتابه "عصر
إسماعيل- الجزء الأول"، بـ"الرجعية في عهد عباس باشا الأول" (1848-
1854). فهكذا يصف عهده: "يصح اعتبار عصر عباس باشا الأول عهد رجعية، ففيه
وقفت حركة التقدم والنهضة التي ظهرت في عهد محمد علي. تولى عباس حلمي الحكم بعد
وفاة إبراهيم، وفي حياة محمد علي باشا، وهو ابن طوسون بن محمد علي. لم يرث عن جده
مواهبه وعبقريته، ولم يشبه عمه إبراهيم في عظمته وبطولته، بل كان قبل ولايته الحكم
وبعد أن تولاه خلوا من المزايا والصفات التي تجعل منه ملكا عظيما يضطلع بأعباء
الحكم ويسلك بالبلاد سبيل التقدم والنهضة".
هذا
هو الملمح الأول لمسألتي التقدم والرجعية، وتعاقبهما، والتي وسمت التاريخ المصري
الحديث بأكمله، بحيث بدى التقدم والتحديث والحداثة في مصر مشروع غير منجز بعد.