(ما طبيعة الخطر الذي يشكله المعارضون المنافقون على الحراكات الوطنية الإصلاحية، وماذا يُمثلون للأنظمة؟ وما هي خطورة المعارضين الصادقين على حكام الأنظمة التي تفوق فائدة الاستفادة منهم وتمنع من احتوائهم؟)
نعلم بأن الأنظمة العربية لا تسمح طبيعتها السياسية بوجود معارضه سياسية ممأسسة من واقع شموليتها ورفضها لتداول السلطة، ولكن كنا نتوقع أن يكون لدى المدعين بالوطنية والقومية من الحكام؛ هامش من الانفتاح على المعارضين الصادقين أو الناقدين من غير المعارضين المتاجرين بالنقد والانتقاد في المكان الخطأ، والممسكين العصا من الوسط وصوليةً، وسنأتي إليهم.
أقول.. من حقنا أن نتوقع من هؤلاء الحكام المُدعين الاستعانة بهذا النوع الحميد من المعارضين بدلاً من سحقهم. ففي هذا لو صحت النوايا توسيع الخيارات أمام أصحاب القرار من خلال ما يكشفه هؤلاء المعارضون من حقائق خافية، وإبرازهم للوجه الآخر للقرار قبل اتخاذه، لا سيما وأن الاستماع للرأي الآخر غير ملزم. وإلا، أليسوا هم من خارج الصف الوطني؟ وما تفسير سياستهم تجاه المعارضين؟
بالتأكيد لا علاقة للتفسير بالحذر أو الخوف على كرسي السلطة، مع وجود جيش وأحهزة أمن لا عمل لها أهم من حماية هذا الكرسي. كما لا يعود التفسير لنصائح الحلفاء، فهؤلاء يبغون استقرار حكم حليفهم الدكتاتور طالما هو رجل المرحلة لهم. ربما السبب هو ما نستخلصه من إصرار هذه الأنظمة الاستعباطي على شيطنة المعارضين الحقيقيين وحرمانهم من حقوق المواطنة في العمل العام، واعتبارهم خارجين على الدولة وملاحقتهم اإلى الحد الذي يصل إلى تصفيتهم جسدياً بلا أي سبب أو مبرر يستوجب كل هذا. إذاً، ما هو الخطر الكبير الذي يشكله وجود هؤلاء المعارضين على حكام هذه الأنظمة ويمنع من احتوائهم ويفوق أية فائدة يمكن أن تكون لهم؟
وبهذا أقول إن هؤلاء الحكام لهم بالضرورة أجندات يعلمون بأنها غير وطنية ولا قومية، مترتبة على وجودهم أو بقائهم في كرسي السلطة، والعلاقة بين الكرسي والأجندة عضوية. هم لا تنقصهم معرفة الحقيقة في ما يتخذونه من قرارات، ولكن ينقصهم بُعد النظر الوطني، وحاجتهم الماسة لتمرير أجنداتهم على شعوبهم بالمعلومة الكاذبة والإعلام المضلِّل. فالقبول الشعبي والاستقرار مهما كان هشاً يبقى ركيزة أساسية لتنفيذ مهماتهم، وأي تهديد لهذا القبول الشعبي والاستقرار هو الذي يشكل الخطر الكبير على تلك الأنظمة. فكيف إذا اتسع الأمر لوعي الشعب وتشكلت لديه قناعة ضد نهج النظام الذي يقرر نجاحه أو فشله مصيرَ كرسي السلطة؟
لذلك فإن
المعارضة الحقيقية التي تخاطب نهج الأنظمة وسلوك الحكام وسياساتهم وتعريها أو تخالفها؛ إنما تشكل حربا إعلامية توعوية منطقية ومعللة ومضادةً للحرب التضليلية للأنظمة المستبدة ولإعلامها، وأكثر نفاذا لعقل ووعي المواطن. فصحوة الشعوب مسألة تعتبرها الأنظمة ذات العلاقة مسألة بقاء أو زوال لها.
من هنا فإن خيار قمع حريات التعبير عن الرأي والرأي الآخر ورفض المعارضه الحقيقية وتكفير الخصوم السياسيين عند هذه الأنظمة؛ له الأولوية في سياساتها الداخلية، ويأخذ مساراً أفقياً على مساحة الوطن وعموديا سقفه الإعدامات السياسية.
والإعدامات سمة تاريخية لسلوك المستعمرين في مواجهة ثورات الشعوب ضد الاحتلال والاستعمار في الوطن العربي، واستنساخها بَعد الخروج المادي للمستعمر موروث يفتح علامات استفهام حول طبيعة المرحلة السياسية العربية القائمة وطبيعة الحكام الجدد. وقد استخدمتها أنظمتنا ضد مختلف الفئات السياسية المعارضة بما فيها الإخوان المسلمون. وأنا هنا ناقد لسياسة عامة وعاضد لحقوق إنساننا العربي ولأمن واستقرار أقطارنا، ولشروط نهضتها ونهضة شعوبها، ولا يمكن أن يكون قرار الإعدامات الإخير بالجملة في مصر والذي يُزامن تعرضها لهجوم مائي يستهدف وجودها التاريخي بصمت؛ إلا من أعمال المستعمرين وفي سياق جر مصر، أمّ العروبة ورفعة الإسلام، لدوامة العنف الداخلي لمصلحة الصهيوني.
فالتساؤل في هذه الجزئية هو: هل سياسة العنف والقفز للإعدامات السياسية في دول تواجه شعوبها وأوطانها تهديدات خارجية ناسفة وعلى رأسها مصر؛ تحل مُشكلة الأنظمة في السلطة وترسخها، أم توسع دائرة النفور وردات الفعل الداخلية الغاضبة ومشاعر الانتقام وضعضعة الجبهة الداخلية؟ وهل تحل مأزومية دولنا وملفاتها أم تُعمقها؟ وهل توقف الرأي الآخر أم توسعه وتوسع مصداقيته؟ وهل تعزز الأمن والاستقرار الداخلي أم تعرضه للخطر؟
الإجابات الأكثر حكمة وثباتاً كامنة في قُصر نظر هذه الأنظمة حين تعقد صفقة حكمها مع العدو بدلاً من أن تكون مع شعوبها.
ومن واقع أن معظم دكتاتورياتنا العربية تستمد سلطتها أو قوتها من الأجنبي على ظهر التعاون مع المشروع الصهيوني وتكريس احتلال فلسطين، وهي مهمة مستحيلة بالمحصلة، وواقع أن تخلف وفشل دولنا وهدر سيادة أوطانها وشعوبها هو بسبب الالتزام بهذا التعاون؛ لكون الصهيونية تعلم بأن إنجاح مشروعها في فلسطين لا يتفق مع بقاء دولة عربية واحدة بخير، فإن قضية فلسطين هي معركة الشعب العربي مع الصهيونية على أراضي أقطاره كما هي على أرض فلسطين، مع اختلاف شكلها من عسكري إلى سياسي جماهيري ضاغط على الأنظمة لتغيير نهوجها السياسية.
وهنا أنتقل لأهم أسباب فشل الحراكات السياسية السلمية لشعوبنا في مواجهة نهج أنظمتها؛ لتحقيق الإصلاح الحقيقي المفضى لإعادة السلطة للشعب ومواحهة التحدي الصهيوني الوجودي، وأقول: لا ينجح مُخترَق ولا يُنتِج غير البضاعة الفاسدة. والعمل الوطني على هذا الصعيد لا يُنظمه ولا يقوده ويُنجحه إلا النخبة المعارضة الصادقة، واختراقها هو اختراق لضمير الشعب.
ولا أقصد الاختراق من الأجهزة الأمنية، فهذا أمر تخريبي طبيعي ويسهل كشفه، وليست فيه خطور تعادل الخطورة التي تنجم عن اختراق المعارضين المنافقين الوصوليين للعمل الوطني الصادق. فهؤلاء هم من تعتمد عليهم الأنظمة ليكونوا الممثلين الشرعيين للمعارضة الشعبية في تزوير خبيث لإرادة الشعب، وطمس المعارضين الحقيقيين وأجندتهم السياسية. والدولة في الغالب لا تجندهم بل تُجندهم مصالحهم وضمائرهم الخبيثة، وتلتقطهم الأنظمة.
هم الرافد الأساسي لنجاح الأنظمة في تزييف إرادة الشعب. هم من البارعين والخبراء والناشطين.. مُبدعون في نقد الملفات على اختلافها والتي تحاكي هموم المواطن، وفي طرح الحلول، ومبدعون في هذا بنقد الحكومات وشخوصها وقراراتها بعيداً عن نقد نهج النظام السياسي أو تحميل المسؤولية لقيادة النظام، وبجعلها وجعل نهجها من ضحايا هذه الحكومات وشخوصها. هؤلاء من تلتقطهم الأنظمة عند الملمات وعند كل حاجة لتتثبيت وتكريس النهج والانقلاب على الإصلاح ومطالب الشعب التي يعبر عنها المعارضون الصادقون. ومن هؤلاء المعارضين الوصوليين كان نصيب الشعب الأردني في لجنة الإصلاح الأخيرة.