قيل الكثير في وصف الرعب حد الجنون الذي عايشه معتقلو هذا السجن المخيف، وما زالت المجزرة الدموية التي وقعت بين جدرانه محفورة في ذاكرة السوريين والعرب الذين قادتهم الأقدار إلى خوض تجربته المرة.
وصفه سجين سابق كتبت له الحياة بأنه "أشبه بالسير في حقل ألغام، فقد يفاجئك الموت في أية لحظة، إما بسبب التعذيب أو وحشية السجانين أو المرض أو الإعدام".
وحظي بسمعة سيئة في جميع المواقع التي ذكر فيها، وقالت منظمة العفو الدولية في حديثها عن السجن بأنه "مصمم لإنزال أكبر قدر من المعاناة والإذلال والخوف بالنزلاء".
ويقع سجن تدمر في مدينة تدمر الصحراوية، بالقرب من آثارها الشهيرة على نحو 200 كلم شمال شرق دمشق، وقد شيده الفرنسيون وسط الصحراء في فترة الثلاثينيات من القرن الماضي، وافتتح رسميا من الدولة السورية عام 1966، وهو في الأساس سجن مخصص للعسكريين، وتشرف عليه الشرطة العسكرية.
اقرأ أيضا: سجناء سابقون في "تدمر" يروون لـ"عربي21" قصص التعذيب (2)
وشن النظام حملة اعتقالات في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات طالت الآلاف من اليساريين والإسلاميين، وأُعدم الكثير منهم ومات آخرون جراء التعذيب.
وشهد سجن تدمر واحدة من أكبر الثقوب السوداء في تاريخ البشرية، فقد وقعت بين زنازينه الموحلة بالروائح الكريهة مجزرة في 27 حزيران/ يونيو عام 1980، أودت بحياة مئات السجناء من مختلف المستويات الاجتماعية والسياسية، غالبيتهم محسوبون على جماعة الإخوان المسلمين والمعارضة، في اليوم التالي لمزاعم السلطات أنها محاولة فاشلة لاغتيال الرئيس الراحل حافظ الأسد، الذي سارع إلى تحميل جماعة الإخوان المسلمين المسؤولية.
وكلف رفعت الأسد، شقيق حافظ الأسد، سرايا الدفاع بتنفيذها، بقيادة صهره الرائد معين ناصيف الذي قام باقتحام سجن تدمر، وقتل من فيه من المعتقلين.
وتتطابق المصادر في تأكيد مشاركة أكثر من 100 عنصر بمختلف الرتب في تنفيذ المجزرة، بعد أن نقلوا من دمشق إلى مطار تدمر العسكري بواسطة 12 مروحية، ودخلوا على السجناء في زنازينهم، وأعدموا المئات منهم رميا بالرصاص والقنابل المتفجرة.
ووفق ما يتوفر من معلومات، فإن جثامين القتلى نقلت بواسطة شاحنات، وتم دفنها في حفر أعدت مسبقا في واد يقع إلى الشرق من بلدة تدمر.
وفي تقرير لها، قالت منظمة "هيومن رايتس ووتش"، إن "وحدات كوماندوس من سرايا الدفاع تحت قيادة رفعت الأسد، قتلت ما يقدر بنحو 1000 سجين أعزل، غالبيتهم من الإسلاميين، انتقاما من محاولة اغتيال فاشلة ضد حافظ الأسد"، مؤكدة أنه "لم يتم الإعلان عن أسماء الذين قتلوا إطلاقا".
ولا توجد تقديرات محددة حول أعداد الضحايا، فهي تتفاوت تبعا لمصدر المعلومة، ففي حين تشير بعض التقديرات إلى تجاوزها حاجز 600 شخص، تشير تقديرات دولية إلى أن عددهم يزيد على 1000 شخص، وتذكر بعض المصادر الحقوقية أن عدد القتلى يصل حتى 1200 شخص.
وقال ميشال سورا، وهو خبير سوري اختطف وقتل في لبنان عام 1985، في كتابه "الدولة الهمجية" إن تحليلا أجرته الأجهزة الأمنية كشف أن عدد الضحايا بلغ 1181 ضحية.
ومثل أية مجزرة، فقد جرى تكتم شديد حول تفاصيلها التي بدأت تتكشف في العام التالي لوقوعها، بعد اعتقال الأردن اثنين من المشاركين في المجزرة، كانا ضمن مجموعة اتهمت بالتخطيط لاغتيال رئيس وزراء الأردن الأسبق مضر بدران، حيث أدليا بتفاصيل المجزرة التي تابعها الشعب السوري والعالم عبر التلفزيون الأردني آنذاك.
اقرأ أيضا: سجن تدمر.. "جحيم" السوريين وأبشع سجون العالم
فسارعت في حينه منظمة العفو الدولية إلى مطالبة السلطات السورية بإجراء تحقيق في المجزرة، لكن دون جدوى. وتعد هذه التصريحات التلفزيونية أكبر وثيقة إدانة للنظام، ولعدد من رموزه.
ونشرت مواقع حقوقية سورية شهادات لعناصر شاركوا في تنفيذ المجزرة، أكدوا فيها أن مهمتهم كانت مهاجمة سجن تدمر. وقدر أحدهم عدد القتلى بأكثر من 500 قتيل. بينما قال أحدهم إنه شاهد الأيدي والأرجل ملطخة بالدماء.
ووصفت لجنة حقوق الإنسان التابعة لمنظمة الأمم المتحدة، المجزرة بأنها "تتعدى حدود جرائم القتل العمد المعاقب عليها بموجب قانون العقوبات السوري، حيث يعد الآمرون بها وكل منفذيها مسؤولين جنائيا عن هذه المجزرة".
ووثقت منظمات حقوقية سبع مجازر جماعية في سجن تدمر وقعت خلال الأعوام 1980، 1981 و1982 وراح ضحيتها مئات السوريين.
وطالبت اللجنة السورية لحقوق الإنسان في أكثر من مناسبة السلطات بالإعلان عن أسماء ضحايا هذه المجزرة، والإعلان عن مكان دفن الجثث وأسماء كل المسؤولين والمتورطين فيها، وتقديم كل مسؤول وكل متورط إلى قضاء مستقل ليفصل فيها، لكن شيئا من مطالبها لم يتحقق حتى الآن.
وتقول وثائق متعددة المصادر، إنه على الأقل وقعت نحو أربع مجازر كبرى في عهد حافظ الأسد ضد المعارضين منها "مجزرة جسر الشغور" و"حصار حلب" و"مجزرة حماة" و"مجزرة سجن تدمر"، وتقدر أعداد ضحاياها ما بين 10 آلاف إلى 40 ألفا.
وكتب السجناء السابقون في سجن تدمر، عددا من الكتب عن السجن، ومن تلك الكتب "القوقعة: يوميات متلصص" الذي يحكي يوميات سجلها سجين مسيحي سجن 12 عاما في عهد حافظ الأسد بتهمة الانتماء لجماعة الإخوان المسلمين.
وهي من أكثر روايات أدب السجون العربية شهرة للكاتب مصطفى خليفة، وترجمت إلى 10 لغات. ويقول خليفة: "في السجن الصحراوي، سيتساوى لديك الموت والحياة، وفي لحظات يصبح الموت أمنية".
وهناك عدد من الأفلام وثقت لتجربة هذا السجن أبرزها الفيلم التسجيلي "رحلة إلى الذاكرة" أنتج عام 2006، للمخرجة السورية هالا محمد، من خلال ظهور معارضين سوريين يتكلمون عن تجربتهم داخل سجن تدمر، وهم، الكاتب ياسين الحاج صالح، والكاتب والمخرج غسان جباعي، والشاعر فرج بيرقدار.
وفي مطلع عام 2017، أنتج فيلم جديد عن سجن تدمر بعنوان "تدمر"، للمخرجين مونيكا بورغمان ولقمان محسن سليم. وهو يحكي عن المعتقلين اللبنانيين السابقين في سجن تدمر، ويسلط الفيلم الضوء على آليات التعذيب التي كانت تمارس بحق المعتقلين داخل السجن.
ولم يبق من السجن سيئ الذكر أية معالم فقد قام عناصر من تنظيم الدولة عام 2015، بتفجير سجن تدمر ونسفه بالكامل بالعبوات الناسفة، وعرضت صورا لعملية التفجير على الإنترنت، وكانت "داعش" قد استولت على مدينة تدمر بعد طرد الجيش السوري، لكنها وجدت السجن فارغا، لأن المسؤولين على السجن نقلوا نزلاءه إلى "سجن البالونة" في حمص قبل هجوم التنظيم على المدينة.
وشكل تدمير المبنى صدمة للكثيرين الذين أرادوا أن يظل قائما ليكون شاهدا على سنوات القمع، كما اعتبره الكثيرون خدمة قدمت للنظام الذي تخلص من "أحد شواهد العصر على جنون التعذيب والسادية".
وقال رئيس "جمعية المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية" اللبناني علي أبو دهن، الذي قضى فيه 14 عاما: "التنظيم هدم رمزا تاريخيا كان يجب أن يظل باقيا، لأن في كل حجرة تعرض أشخاص للقتل".
وبعيدا عن الحراس والسجناء الذين عاشوا ليرووا القصة، فإن أحدا لم يكشف ما يوجد خلف الجدران من قبل.
ورغم أن المبنى هدم إلا أن صرخات المعذبين والضحايا والقتلى لا يزال صداها وسط أعمدته الأثرية وجباله الضاربة إلى الحمرة ساعة الغروب.