تطورت صناعة الكذب خلال العقود الماضية من مجرد الدعاية الفجة أو البروباغندا إلى صناعة ثقيلة يتم الاستثمار فيها بشكل كبير. ولا يتعلق الأمر بخبر هنا أو هناك، ولكن بصناعة ثقيلة تقوم عليها مؤسسات وتدفع فيها بعض الدول أموالا طائلة. وهي امتداد لنظريات كارثية في الدعاية والإعلام قائمة على المبالغة سيرا على نهج غوبلز، وزير إعلام هتلر.
خرج الأمر عن نطاق النقاش
الإعلامي والسياسي الضيق إلى مستويات عليا، وبلغ حد أن الاتحاد الأوروبي أصدر تقريرا في نيسان/ أبريل الماضي يتهم فيه روسيا والصين بنشر معلومات كاذبة لتقويض الثقة في لقاحات فيروس كوفيد 19 التي تنتجها الدول الأوروبية. ويشير التقرير إلى أن سيل
الأخبار الكاذبة هذا يسير عبر وسائل إعلام حكومية وغير حكومية وحسابات وسائل تواصل اجتماعي، الأمر الذي تنفيه موسكو وبكين، ولكنه يشير إلى مدى تأثير السيل المتدفق من الأخبار حول موضوع معين وقدرته على إحداث تأثير على الرأي العام في ما يتعلق بقضية هامة مثل فيروس كورونا.
صناعة ثقيلة تقوم عليها مؤسسات وتدفع فيها بعض الدول أموالا طائلة. وهي امتداد لنظريات كارثية في الدعاية والإعلام قائمة على المبالغة سيرا على نهج غوبلز، وزير إعلام هتلر
الأمر بدأ قبل أزمة الجائحة بفترة، وقد تدخل حلف شمال الأطلسي (ناتو) في ما يقول إنها حرب إعلامية روسية على دوله الأعضاء، وقام بخطوات لمواجهتها مثل تطوير لعبة "بطل الأخبار" لمساعدة رواد وسائل التواصل الاجتماعي على التحقق من الأخبار قبل إعادة نشرها.
وغني عن الحديث مسألة الاتهامات الأمريكية المستمرة للروس بالتدخل في الانتخابات الأمريكية، خاصة تلك التي فاز فيها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب. وكان أحد الأدوات التي تم الحديث عنها هو سيل الأخبار الكاذبة التي وجهت للناخبين الأمريكيين. الأمر نفسه حدث في بريطانيا قبل استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي، وهناك اتهامات عن دور روسي إعلامي في دعم حملة بريكست وتعزيز الخوف من الاتحاد الأوروبي.
الوضع عندنا ليس بأقل سوءا إن لم يكن أكثر كارثية في ما يتعلق بالأخبار الكاذبة ومدى انتشارها. وخطورة مثل هذه الظاهرة أنها كامنة وراء كوارث سياسية واقتصادية وإنسانية كثيرة، الأمر الذي يعيق التركيز عليها. بل يصل الأمر إلى أن الرأي العام العربي عموما أصبح من الهشاشة المعلوماتية لدرجة أنه مستعد لتصديق أي خبر
كل هذا يحدث في الدول الأوروبية والولايات المتحدة التي لديها قوانين كثيرة لحماية حرية الصحافة وتداول
المعلومات، فما بالنا بالوضع في العالم العربي. فالوضع عندنا ليس بأقل سوءا إن لم يكن أكثر كارثية في ما يتعلق بالأخبار الكاذبة ومدى انتشارها. وخطورة مثل هذه الظاهرة أنها كامنة وراء كوارث سياسية واقتصادية وإنسانية كثيرة، الأمر الذي يعيق التركيز عليها. بل يصل الأمر إلى أن الرأي العام العربي عموما أصبح من الهشاشة المعلوماتية لدرجة أنه مستعد لتصديق أي خبر مهما بدا غريبا؛ طالما أنه يعزف على وتر انحيازاته السياسية أو الدينية أو الفئوية.
وقد حدث نقاش إعلامي واسع في العالم خلال السنوات الماضية حول أنجع السبل لمكافحة هذه الظاهرة وتطورت الأدوات والوسائل، ووصلت لمرحلة إنشاء منصات عديدة تعني بالأخبار الكاذبة تحديدا لتفنيدها، فأصبح الخبر الكاذب يجد من يتصدى له قبل أن ينتشر كالنار في هشيم الرأي العام. وهذه المنصات موجودة كمواقع مستقلة أو صفحات على وسائل التواصل الاجتماعي. بل إن عددا من المؤسسات الصحفية الكبرى، مثل بي بي سي العربية وفرنسا 24، باللغة العربية قد دشنت أقساما خاصة بالأخبار الكاذبة وتوضيح حقيقتها.
المشكلة الأساسية في مثل هذه الأدوات والمنصات هي أنها محاولة للحد من استفحال المشكلة التي وصلت إلى حد كبير. فهي ليست أدوات للوقاية بقدر ما هي محاولة لعلاج بعض الأعراض المزمنة للمشكلة، ومهما بلغ انتشار هذه الوسائل فإنه لن يصل لحد الإمكانيات التي توفرها دول عديدة سواء عربية أو غير عربية لإغراق الرأي العام بأخبار كاذبة لأهداف سياسية. وبالتالي فهناك حاجة متزايدة لنشر ما يمكن تسميته بوعي التعامل مع وسائل الإعلام وتطوير آليات للجمهور للتعامل مع الغث والسمين مما يقدم له من وجبات معلوماتية، سواء في صورة أخبار أو تنكرت في صورة ترفيه.
twitter.com/hanybeshr