في مطلع تموز/ يوليو الجاري، أعلنت شرطة الاحتلال واحدا من أخطر الإعلانات الرسمية المتعلقة برجال عصابات الإجرام، الذين يقومون بأعمال القتل المريعة في أوساط "فلسطينيي أراضي 48"، حيث أكدت أن تلك العصابات تخضع لتوجيه وحماية جهاز المخابرات الداخلي الصهيوني "الشاباك".
يعرف جميع المراقبين والمتابعين والمعنيين والضحايا أيضا؛ هذه الحقيقة منذ أمد بعيد، لكن الجديد فيها أنها تصدر عن جهة رسمية في المؤسسة الأمنية الصهيونية، ويبدو أنها جاءت الآن بفضل التغيير الحكومي الذي أعقب رحيل نتنياهو. فقد كان من شروط عقد الائتلاف الحكومي الجديد، العمل على التصدي ومواجهة ومعالجة هذه الظاهرة الملحة والقلقة. ويبدو أن وزير الأمن الداخلي الجديد (عومر بارليف من حزب العمل) كان وراء الدفع باتجاه إعلان الشرطة أعلاه، على اعتبار أن جهاز الشرطة يخضع لمسؤوليته المباشرة، أما "الشاباك" فيخضع لمسؤولية رئيس الوزراء مباشرة.
الجميع يعلم أن ظاهرة القتل المستفحلة بين فلسطينيي الداخل (بلغت حتى مطلع تموز 49 قتيلا هذا العام) قد بدأت عجلتها بالدوران، بعد مشاركة "فلسطينيي 48" في الأسبوعين الأولين من انتفاضة الأقصى (2000)، حيث سقط من بينهم (13) شهيدا ومئات الجرحى.
إذا ما علمنا الآن، أن "الشاباك" هو من يشرف ويُدير ويُهندس أعمال القتل، فلن يطول استنتاجنا بأن ذلك يأتي كطريقة انتقام "خلاّقة" من فلسطينيي الداخل لما أقدموا عليه من مظاهر تضامن مع منتفضي الضفة والقطاع، واحتجاجا على السياسات الاحتلالية العنصرية، من جهة، ومن جهة أخرى كطريقة معالجة تقوم بها المؤسسة الأمنية الاحتلالية
وإذا ما علمنا الآن، أن "الشاباك" هو من يشرف ويُدير ويُهندس أعمال القتل، فلن يطول استنتاجنا بأن ذلك يأتي كطريقة انتقام "خلاّقة" من فلسطينيي الداخل لما أقدموا عليه من مظاهر تضامن مع منتفضي الضفة والقطاع، واحتجاجا على السياسات الاحتلالية العنصرية، من جهة، ومن جهة أخرى كطريقة معالجة تقوم بها المؤسسة الأمنية الاحتلالية، خاصة في ظل صعود "الصهيونية الجديدة" في مرحلة ما بعد شارون ثم نتنياهو، لما يعتبرونه خطرا ديموغرافيا لفلسطينيي الداخل يهدّد نقاء "يهودية الدولة"، ولذا وجدنا تلك المؤسسة، تطوّر تقنيات اللعب على العصبية والنزعة العشائرية والعائلية، مستفيدة في ذلك من خبرة مؤسساتها الأمنية والأكاديمية والإدارية "الاستشراقية" في المجتمع العربي
الفلسطيني، والتي تعمل على هندسة الفتنة الداخلية من أجل جعل الحياة لا تطاق في هذا المكان-المراد ترحيلهم منه- مما يضطر ساكنيه للتفكير في الهجرة والبدائل الأخرى.
تعتبر معركة "سيف القدس" حدثا انقلابيّا، في سياق الصراع العربي- الصهيوني الملحمي، على أكثر من صعيد، وهي هنا، على صعيد انبعاث الوطنية الفلسطينية بين "فلسطينيي 48"، فقد أدمجتهم لأول مرة بهذه القوة، على صعيد الوعي والانتماء والفعل المقاوم الفلسطيني، مع باقي الجمهور الفلسطيني ما بين النهر والبحر، في فعل وطني لديه قابلية للاستمرار لشهور أو لسنين - كحدث مفتوح - كما حدث في الانتفاضتين السابقتين. وهذا الأمر أشعل جميع الأضواء الحمراء لدى سياسيي واستراتيجيي العدو.
للعدو الصهيوني فلسفة انتقام خاصة، كان يقوم بها عادةً عقب مواجهته لظواهر "مقاومتية". ويتميز هذا الانتقام بأنه غير لحظي، وبعيد المدى، ويتجنب المباشرة قدر المستطاع، ويرتبط بسياسات منهجية من أجل الوصول به لنتائج. ومثال ذلك ما تفتقت عنه ذهنية الاحتلال الانتقامية في انتفاضة الأقصى لإيصال الفلسطينيين إلى مرحلة "كيّ الوعي".
ومن هذه الأبعاد الانتقامية، سنجد أن اتفاق أوسلو كان انتقام الصهاينة من الفلسطينيين بسبب تجرّئهم على القيام بالانتفاضة الأولى. أما جوانب انتقامهم من الفلسطينيين في الانتفاضة الثانية، فلم تقتصر على اغتيال قيادة الصف الأول للتنظيمات (ياسر عرفات، الشيخ أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي، أبو علي مصطفى..)، فضلا عن استهداف باقي الصفوف من خلفهم، إنما جَبَتْ ثمنا سياسيا في خارطة الطريق (التي طُبِّقتْ من طرف واحد على الفلسطينيين) وبناء الجدار وتغوّل الاستيطان، فإسقاط الحل السياسي ومن ورائه المفاوضات وإعلان عقيدة اللا حل، ثم العمل على تكريس الانقسام الفلسطيني.. الخ.
لاحظ الجميع أن حوادث القتل الثأريّة اسْتَعَرت في أوساط "فلسطينيي 48" مباشرة بعد توقّف معركة "سيف القدس"، فقد شهد شهر رمضان فترة هدأت فيها هذه الظاهرة، لكن فوجئنا بمقتل ستة في أسبوع واحد بعد المعركة
والسؤال هنا: ماذا نتوقع أو ننتظر من مظاهر انتقام جديدة، بعد معركة "سيف القدس"؟
لاحظ الجميع أن حوادث القتل الثأريّة اسْتَعَرت في أوساط "فلسطينيي 48" مباشرة بعد توقّف معركة "سيف القدس"، فقد شهد شهر رمضان فترة هدأت فيها هذه الظاهرة، لكن فوجئنا بمقتل ستة في أسبوع واحد بعد المعركة. والاستهداف أصبح يَطال في الشهور الأخيرة قيادات مجتمعية وأئمة مساجد وصحفيين، وهؤلاء ليست لهم عداوات تستدعي ثارات من أي نوع.
فقد قال الصحفي حسن اشتيوي (الذي تعرض لمحاولات تهديد واغتيال هو وأسرته) لراديو إسرائيل بأنه لا يعرف من يلاحقه، ويتطوّع كثير من الأقارب والأصدقاء ليشيروا له عمن يستهدفه، لعل وعسى يتمكنون من توفير الطمأنينة والحماية له، لكنه يؤكد أنه يجهلهم تماما، وأنه لا توجد لديه مشاكل أو عداوات مع أحد، وأنه فقط يكتب تقارير صحافيّة وتحقيقات حول حوادث القتل المريعة، مما يفهم منه أن أحدا ما يريد إسكاته. ثم يُجمل القول: "إننا وصلنا إلى حالة أن القتيل أصبح لا يعْرف لماذا قُتل، كما أن القاتل لا يعرف لماذا قَتل؟!".
وهذا تعبير كاشف وشديد الاختزال والاختصار للحالة المراد بلوغها، بحيث يفقد فيها الناس الأمن الشخصي والاجتماعي، ويعيشون تحت سطوة الخوف من القتل القادم!!
هذا تعبير كاشف وشديد الاختزال والاختصار للحالة المراد بلوغها، بحيث يفقد فيها الناس الأمن الشخصي والاجتماعي، ويعيشون تحت سطوة الخوف من القتل القادم!!
في هذا السياق تأتي حادثة الفتك بالناشط السياسي والإعلامي نزار بنات، وبالطريقة الطائشة التي تم تنفيذها، التي تشبه في ساديّتها واستهتارها وفظاظتها حادثة مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي الهمجية، وهي في الحالة الفلسطينية هنا تستدعي ردّات فعل "دموية" ذات طابع ثأري؛ يشبه في صيرورته ما غدت عليه أحوال "فلسطينيي 48" المأساويّة.
وما يزكّي هذا السيناريو، هو أن منفذي جريمة القتل هم من عناصر تلك الأجهزة الأمنية الوكيلة للاحتلال، من حيث وظائفها ومهامها، أو من حيث عقيدتها الأمنية، خاصة وأنّ الحادثة وقعت في المنطقة (ج) التي تقتضي الترتيبات الرسمية الأوسلوية فيها، أن يتم تنسيق نشاط القوة الفلسطينية (27 عنصرا) بالكامل مع سلطات الاحتلال، وهو ما دعا عضو الكنيست عن حركة ميرتس، موشيه راز، إلى استجواب وزير الجيش غانتس حول مسؤولية الجيش عن مقتل نزار بنات.
هذا من جهة، أما من جهة حجم الاختراق الصهيوني الحاصل في قيادة وعناصر تلك الأجهزة، فحدّث هنا ولا حرج، خاصة أن
التنسيق الأمني لم يعد يقتصر في زمن "أبي مازن" على قيادات الأجهزة الأمنية العليا، بل أصبح منذ سنين طويلة ينسحب على القيادات الفرعية المحليّة التي تحمل رتبة نقيب فما فوق. وتكفي هنا الشهادة التي أدلى بها عضو اللجنة المركزية المفصول من حركة فتح، ناصر القدوة، في مقابلة مع موقع "ميدل إيست آي" البريطاني عندما أكد أن "ما يجري ليس تنسيقا أمنيا بقدر ما هو ارتباط مباشر لجزء من الأجهزة الأمنية الفلسطينية بأجهزة الأمن الإسرائيلية".
ومن تجربتنا الفلسطينية، فإن الافتراض الشائع على نطاق واسع بين الناس، والذي غدت تسنده الأدلّة المتكاثرة، هو مدى حجم المصالح الشخصية، بالإضافة إلى الارتباط العضوي والمصيري بأجهزة أمن الاحتلال، مما يُتيح المجال هنا لسعي جهاز "الشاباك" لتعميم النموذج الدموي الحاصل في منذ سنوات طويلة في مناطق 48، والمرتكز إلى ثقافة الثأر في المجتمع العربي بالتوازي مع غياب القانون!!
وإن هذا لهو أحد أوجه الانتقام اللئيم، الذي نتوقعه من الاحتلال إثر معركة سيف القدس، ذات النتائج الانقلابية.
كما تأتي حادثة اغتيال نزار بنات المريعة، في ظروف تآكل قياسي في شرعية السلطة ورئيسها وحزبها الحاكم، خاصة بعد تأجيل الانتخابات، ثم معركة "سيف القدس" ومضاعفاتها وعقابيلها وارتداداتها الداخلية، ثم بعد ارتفاع منسوب عزلة السلطة "المأزومة" والتابعة والملحقة بالاحتلال، والمفتقرة للشرعية، ما يجعلها في وضعية خطيرة، غدت فيها جاهزة للدخول في احتراب أهلي داخلي، سيكون مرشّحا؛ في حال لم تلجمه قوى المجتمع العاقلة، لافتتاح مرحلة من العنف الدموي الفالت، والذي يوجد لحركة فتح تقاليد عريقة فيه، كحركة متخصصة في الحروب الأهلية أكثر مما هي حركة تحرر وطني، وهذه هي سيرتها في الأردن ولبنان وأخيرا في غزة، وكحركة لديها إرث حافل بممارسة العبث بالأهداف الكبرى للشعب، فضلا من ممارسة الفساد والفتن وإثارة الضغائن والأحقاد!!