في السادس من تموز/ يوليو من العام الماضي، كتبت الشاعرة المصرية الشابة آلاء حسنين منشورا على حسابها في فيسبوك، يتهم الناشر المصري المعروف محمد هاشم بالتحرش بها في داره الشهيرة "ميريت".
حكت آلاء واقعة الاعتداء عليها بالتفصيل، فأثارت جدلا كبيرا على وسائل التواصل الاجتماعي، ما بين مؤيد لها ومدافع عن هاشم. وفي التاسع من تموز/ يوليو ذاته، قدمت المحامية مها أبو بكر بلاغا لنيابة عابدين، وكيلة عن آلاء، متهمة محمد هاشم بالاعتداء الجنسي على موكلتها آلاء في دار ميريت. كان رقم البلاغ 2079 لسنة 2020 إداري عابدين.
في الحادي عشر من الشهر ذاته، اعتقلت الشرطة الناشر على ذمة القضية، ثم أخلت النيابة سبيله في اليوم التالي بكفالة 5000 جنيه. واستمرت جلسات القضية حتى حكم له بالبراءة في يوم 31 آذار/ مارس 2021، لتطعن الشاعرة على الحكم ويُرفض طعنها، ما يجعل إغلاق القضية قرارا نهائيا.
على أن هذا المقال لا يستهدف إدانة هاشم أو آلاء، أو تبرئة أي منهما، بل يحاول هذا المقال فهم الحكم الذي أصدره المستشار محمد محمود محمد رئيس محكمة جنايات القاهرة، الذي برأ الناشر، لكنه ضمَّن حيثيات حكمه رؤية ذكورية تكشف الكثير عن رؤية المجتمع المصري لضحايا التحرش، والأهم من زاوية هذا المقال: تكشف عن رؤية شديدة الرجعية لمفهوم الإبداع.
وكتب القاضي: "إن المحكمة تنوه إلى أن الشاكية تمارس تأليف القصص وكتابة الشعر ومن مهاراتها الفذة معرفة رائحة احتراق جوهر الحشيش المخدر، ومن ضمن هواياتها التحدث مع آخرين عبر وسائل التواصل الاجتماعي فيسبوك متخذة من المقاهي العامة مكاناً لمقابلتهم رصدت لنا في هذه الدعوى قصص روائية شابها التناقض والتعارض والعوار في الدليل من بدايتها حتى نهايتها في ظروف اعتقدت أنه يمكن الترويج لها شاءت الأقدار أن يكون المتهم بمفرده على مسرح تلك الأحداث..".
تعيدنا هذه الرؤية المضحكة إلى ماضٍ تبرأ منه القضاء المصري منذ عشرات السنين، حين كان القضاة يعتبرون الفنانين والممثلين "مشخصاتية"، لا تُقبل شهادتهم، لأنهم يعملون في شؤون اللهو حيث يختلط الرجال بالنساء، وتُرتكب المعاصي، حتى إن أحد القضاة رد شهادة موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب سنة 1950 للسبب ذاته. يعتقد القاضي أن تحريم جمهور الفقهاء للموسيقى والغناء يجعل الفنانين فسقة كذابين، مع أن الواقع البسيط يدل على أن العمل بالفن أو بغيره لا علاقة له بصدق الإنسان في شهادته أو حتى بمدى التزامه بالقانون.
منذ عشرات السنين، تبرأ القضاء المصري من هذا العبث والاستخفاف بالفن، فانتهى زمن رفض شهادة الفنانين. ولعل هذا ما يجعل حكم المستشار محمد محمود صادما وبذيئا على نحو خاص، بل إن السيد المستشار جعل حكمه هزأة حين أصر على إضافة كلمة "احتراق" قبل كلمتي "جوهر الحشيش" كأنما يزن الرجل كلامه بميزان من ذهب، ويريد أن يفحم خصومه باصطناع نوع من الدقة المضحكة، دون أن يلفت نظره أن محاسبة كاتبة على خيال شعري هي جريمة بحد ذاتها؛ خاصة فيما يتعلق بالربط بين الخيال الشعري وواقع الإنسان.
استخدم مئات الشعراء كلمات مثل القتل والرجم والحرق في سياقات مجازية عديدة، فهل ينبغي محاكمتهم بتهم القتل وإحراق آخرين؟ مرة أخرى يبدو المستشار مصرا على الإيغال في "التهريج" القضائي، حين يرى في وصف شاعرة بأنها "من ضمن هواياتها التحدث مع آخرين عبر وسائل التواصل الاجتماعي الفيسبوك متخذة من المقاهي العامة مكاناً لمقابلتهم" دليلا على كذبها، اتساقا مع المفهوم البالي عن الفتاة المهذبة التي لا تجالس الغرباء، ولا تدخل المقاهي.
في أي زمن يعيش هذا النوع من القضاة؟ وكيف يتصورون الإبداع والفن؟ بل لنسأل السؤال الأهم: كيف يتصورون القانون والعدالة إذا كان من مبررات تبرئة متهم بالتحرش أن الفتاة التي اتهمته مبدعة تقابل الناس في المقاهي وتتواصل معهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، استمرارا في معاداة وسائل التواصل الاجتماعي، واعتبارها خطرا على الوطن منذ ثورة يناير.
يبدو غريبا أن يتغير القانون المصري احتراما للدور الكبير الذي قام به فنانون ومبدعون كثيرون، انحازوا لقضايا الوطن، وخاضوا صراعات مريرة ضد الاستعمار، بما يكفي لتغيير القانون الذي يرد شهادتهم لمجرد انتمائهم إلى مجال الفن... يبدو غريبا بعد كل ذلك أن يكتب رئيس محكمة جنايات القاهرة حكما كهذا دون خجل، بل إنه يكتبه بنوع من الثقة والرغبة المضحكة في التدقيق!
في العالم المتحضر، ينال الشعراء دعما سخيا من دولهم. في منح الكتابة والإقامات الإبداعية، توفر الدول إقامة في مدن ملهمة، ومروج وسهول تلهب خيال الكُتّاب والمبدعين، بالإضافة إلى تغطية نفقات طائلة نظير الرحلات والتجوال في الأماكن السياحية والمتاحف... ثم يأتي رئيس محكمة مصرية ليكذّب شاعرة لأنها تجالس البشر على المقاهي!