ترددت في تناول الجدل الذي دار حول انتخابات رئاسة حزب العدالة والبناء الليبي، ليس لأنه موضوع شائك ومعقد، بل لأنه يحتاج إلى تفصيل لا تسعف هذه السانحة في تغطيته بشكل جيد، ولكن لا بد مما ليس منه بد. ومن المهم أن أنوه إلى أن ما وقع قبيل وبعد انتخابات رئاسة الحزب يصب في صميم الانتقال الديمقراطي ولا يمكن بحال أن ينفك عنه، ولهذا السبب وحده أجدني ملزما بتناول هذا الموضوع.
إشكال العلاقة بين جماعة الإخوان والحزب
لكي نسلط الضوء على الواقعة بشكل مركز ينبغي أن نفهم طبيعة العلاقة بين جماعة الإخوان، كونها مؤسس الحزب، الحزب الذي أرادت الجماعة أن يكون منفصلا عنها تنظيميا، وله هيكليته وذمته المالية المستقلة تماما، إذ إن الإشكال الذي وقع بين الجماعة والحزب فيما بعد يبدأ من نهج التأسيس، ويتعاظم بسبب الإخفاق في مواجهة الضغوط الكبيرة على الجماعة والحزب من خلال مقاربة فكرية وسياسية مقنعة للرأي العام.
بعد فترة قصيرة من إطلاق الحزب وجدت الجماعة نفسها تتحمل ما اعتبرته شريحة مهمة من الإخوان أداء وتوجها غير مرض للحزب؛ يصنفه الرأي العام، أو شريحة مهمة منه، بأنه اختيار الإخوان ونهجهم، فيما اعتبر الحزب أنه أخذ بجريرة ردة الفعل ضد الإخوان في العالم العربي بالعموم وليبيا تخصيصا، وأن فشل الإخوان في تقديم أنفسهم دعويا واجتماعيا لليبيين حمّل الحزب عبء ردة الفعل تلك، فكانت أحد أهم أسباب موجة العداء ضده.
يرى كثير من الإخوان أن قيادة الحزب اتجهت بالحزب بعيدا عن الغاية التي تأسس من أجلها، وهو أنه مشروع سياسي بمرجعية إسلامية، بمعنى أن إسلاميته ينبغي أن تكون جزءا من أدائه السياسي، وأنه وقع فريسة الضغوط الداخلية والخارجية التي عزلته عن التيار المهم الإسلامي الوطني
تفسيرات الأطراف المتنازعة لما وقع
يرى كثير من الإخوان أن قيادة الحزب اتجهت بالحزب بعيدا عن الغاية التي تأسس من أجلها، وهو أنه مشروع سياسي بمرجعية إسلامية، بمعنى أن إسلاميته ينبغي أن تكون جزءا من أدائه السياسي، وأنه وقع فريسة الضغوط الداخلية والخارجية التي عزلته عن التيار المهم الإسلامي الوطني، في ما يتعلق بإدارة الأزمة، خاصة في المفاوضات التي أنتجت اتفاق الصخيرات، والتطورات السياسية بعدها.
وفي المقابل، يرى الطرف الآخر في الحزب أن الإخوان، أو الصوت المرتفع من بينهم، يريد أن يذهب بالحزب في اتجاه سياسي متشدد. والحديث عن تيار التأزيم الذي يريد أن يختطف الحزب بعيدا عن المسار الذي اختطته قيادته عبر سنوات لم يكن تفسيرا لما وقع من قبل مراقبين خارجيين، بل هو قناعة لكل أو جُل من أعلنوا استقالتهم ويستعدون للتجمع تحت مظلة حزبية تجمعهم، وتنأى بهم عن "القيادة المتشددة".
يرى الطرف الآخر في الحزب أن الإخوان، أو الصوت المرتفع من بينهم، يريد أن يذهب بالحزب في اتجاه سياسي متشدد. والحديث عن تيار التأزيم الذي يريد أن يختطف الحزب بعيدا عن المسار الذي اختطته قيادته عبر سنوات لم يكن تفسيرا لما وقع من قبل مراقبين خارجيين، بل هو قناعة لكل أو جُل من أعلنوا استقالتهم
المأخذ على موقف المستقلين
لا يمكن أن يفسر المتابع للشأن الليبي بتفاصيله؛ الاستقالات العديدة بعد إعلان النتائج وفوز مرشح الجماعة، عماد البنَّاني، إلا أنها سلوك غير مقبول بالنظر إلى فلسفة وأدبيات التداول على السلطة والتعددية والديمقراطية. فقد فهم قطاع كبير من المتابعين أن لسان حال ومقال المستقلين هو إما أن نستمر في قيادة الحزب، أو نتركه إذا خسرنا الانتخابات. ومما يدعم هذا الحكم هو أن التغيير في النظام الأساسي للحزب بشكل يسمح باستمرار محمد صوان لفترة رئاسة أخرى؛ كان مطروحا، أو تم الحديث عنه من قبل أنصاره ومبرزين من داعميه في الحزب، فلم يقع تغيير النظام الأساسي وفاز البناني، فاستقال من يرفض مواقفه.
وجهة نظر بعض القيادات السابقة للحزب لتبرير الاستقالات هو أنهم صنعوا توجها سياسيا للحزب بجهد وعناء ومشقة وبذلوا لأجله الكثير، ولم يكن أقل ما بذلوه سمعتهم والتأثير السلبي للعداوة التي واجهوها من التيار الذي من المفترض أنهم ينتسبون إليه، وبالتالي فإن من حقهم أن يحافظوا على هذا التراكم ويستمروا في تكريسه، ولن يكون هذا ممكنا في ظل التغيير الذي وقع في قيادة الحزب، لهذا فإنه لا بديل عن أن يؤسسوا حزبا جديدا ينتظم فيه كل من يؤيدهم في التوجه، ويرفض الاستمرار تحت "القيادة المتشددة".
قد نفهم موقف المتحفظين على النتائج من هذه الزاوية، إلا أن فلسفة وآليات الديمقراطية وتطبيقاتها، خاصة ما قدمته التجارب الغربية، تقوم على التدافع بين مكونات وخيارات سياسية عدة داخل الحزب الواحد، حيث تحتدم المنافسة بين مرشحي رئاسة الحزب وتطرح أفكارا وخيارات لمسيرة الحزب، مختلفة بل ومتضادة أحيانا، ويفوز من يحصل على أغلبية الأصوات ويقبل منافسوه بالنتيجة، وهكذا دواليك.
فلسفة وآليات الديمقراطية وتطبيقاتها، خاصة ما قدمته التجارب الغربية، تقوم على التدافع بين مكونات وخيارات سياسية عدة داخل الحزب الواحد، حيث تحتدم المنافسة بين مرشحي رئاسة الحزب وتطرح أفكارا وخيارات لمسيرة الحزب، مختلفة بل ومتضادة أحيانا، ويفوز من يحصل على أغلبية الأصوات
ولقد كان البناني صائبا في الرد بأنهم حكموا عليه دون أن يعطوه الفرصة ليقدم رؤيته، دون أن نقلل من أثر المناكفة السياسية بين الفريقين داخل أروقة الحزب، خاصة في الهيئة العليا، حيث كان البناني عضوا فيها، والتي تظهر فيها مواقف أعضائها بجلاء من أداء القيادة التنفيذية للحزب.
تحديات يواجهها الطرفان
هذا الانقسام ستكون له تداعياته وسيرفع من سقف التحديات أمام الطرفين المتنازعين، فالقيادة الجديدة قد تجد نصرة من قبل من تركوا الحزب بسبب الخيارات السياسية لقيادته السابقة، إلا إنها ستكون أمام تحدي إعادة تأسيس مؤسسات الحزب وتأهيل الكوادر، بعد الفراغ الذي وقع واستقالة مجموعة تمرست في العمل السياسي وراكمت خبرة سياسية عبر تسع سنوات.
أيضا ستواجه القيادة الجديدة ضغوطا تتعلق بكيفية التعامل مع تموقع الحزب في المنتظم السياسي الداخلي، والعلاقة مع الأطراف الخارجية المعنية بالأزمة الليبية، حيث مثّل هذا التموقع خلاصة سياسات القيادة السابقة للحزب وخياراتها، والتي تحفظت عليها القيادة الجديدة.
وهناك التحدي والاختبار نفسه الذي واجهته القيادة السابقة في ما يتعلق بالعلاقة مع جماعة الإخوان، ومع واجهات التيار الإسلامي والوطني، والتي تشكل مؤشرا في الحكم على الحزب والقبول به ضمن معادلة التدافع المحلية.
التيار المنفصل والذي يتجه إلى تشكيل مظلة سياسية جديدة سيحقق مكسبا، وهو أنه سيتخلص من عبء شماعة الإخوان. فقد ثبت بالدليل القاطع صدق تصريحاتهم من أنهم لا يمثلون الإخوان، وذلك بعد ما وقع قبل وبعد انتخابات رئاسة الحزب، وسيعملون بحرية بعد أن تحرروا من هذا العبء
التيار المنفصل والذي يتجه إلى تشكيل مظلة سياسية جديدة سيحقق مكسبا، وهو أنه سيتخلص من عبء شماعة الإخوان. فقد ثبت بالدليل القاطع صدق تصريحاتهم من أنهم لا يمثلون الإخوان، وذلك بعد ما وقع قبل وبعد انتخابات رئاسة الحزب، وسيعملون بحرية بعد أن تحرروا من هذا العبء، وربما يشكل هذا العامل أهم أسباب اتجاههم إلى تأسيس حزب جديد.
في المقابل، قد يواجه الحزب الجديد حملة مضمونها أنه لا يؤتمن على الديمقراطية ولا تُقبل دعوى إيمانه بالدولة المدنية بعد رفضه نتائج انتخابات رئاسة الحزب، وقد تكون هذه الدعاية مؤثرة، ولا يمكن دحضها بسهولة.
علاوة على ما سبق، فإن المستقيلين سيعولون في سعيهم ليكونوا رقما في المعادلة السياسية على خبرتهم وشبكة علاقاتهم الداخلية والخارجية. وبرغم أهمية ذلك إلا أنه غير كافٍ في ظل تعقيدات الواقع الليبي، فقد اختاروا الانفصال عن التيار الإسلامي، ليبحثوا لهم عن موقع ضمن المشاريع السياسية المدنية.
ففي تصريح منشور لمحمد صوان؛ أكد على أنه يرفض فكرة المرجعية الإسلامية. وأكد قيادي في الحزب ضمن المستقيلين أن
الأحزاب السياسية ينبغي أن لا تقوم على عقيدة أو توجهات دينية، وهذا كفيل لتصنيفهم من قبل التيار الإسلامي أو الديني بأنهم حزب مدني. ومعظم التيار المدني في
ليبيا يجنح إلى الطرف الخصم ضمن معسكر الكرامة وغيره، فما أدري كيف سيكون وضع الحزب الجديد أمام هذه المفارقة الصعبة.
العدالة والتنمية التركي نجح نجاحا باهرا سياسيا بعد أن انفصل عن حزب السعادة وقاعدته الإسلامية، إلا أنه لا يصلح أن يكون مثلا يحتذى به للاختلاف الكبير في البيئة السياسية والاجتماعية الليبية والتركية، فالمجتمع التركي مدني علماني في غالبيته العظمى
العدالة والتنمية التركي نجح نجاحا باهرا سياسيا بعد أن انفصل عن حزب السعادة وقاعدته الإسلامية، إلا أنه لا يصلح أن يكون مثلا يحتذى به للاختلاف الكبير في البيئة السياسية والاجتماعية الليبية والتركية، فالمجتمع التركي مدني علماني في غالبيته العظمى عندما دخل العدالة والتنمية الانتخابات، ومماهاته بتوازن من قبل الحزب كانت ممكنة بل منتجة.
أيضا تجارب الأحزاب التي تشكلت حديثا، حتى قبيل الانتخابات بفترة قصيرة كما حصل لحزب الجمهورية الفرنسي برئاسة ماكرون، لا يمكن القياس عليها، والسبب يعود لطبيعة المرحلة التي مرت بها فرنسا وللتطورات التي تشهدها الدول الغربية، الأوروبية تحديدا، والتي لها علاقة بالتحولات الاجتماعية الكبيرة التي تراكمت منذ نحو نصف قرن، وكان من نتائجها صعود التيار اليميني المتطرف.