حين سألت كارولاين لوكاس، النائبة البريطانية عن حزب الخضر، وزير الدولة للشؤون الخارجية والتنمية، عما إذا كانت الحكومة البريطانية تدعم، ماديا، مشاريع متعلقة بالطاقة الغازية في بلدان أخرى، أجابها الوزير أن الحكومة مستمرة في دعم مشروع شركة جنرال إلكتريك للطاقة في العراق. مما يتماشى مع سياسة بريطانيا في العراق.
مع العلم أن شركة جنرال إلكتريك، أمريكية متعددة الجنسيات صُنفت كواحدة من 300 أكبر شركة في الولايات المتحدة من حيث إجمالي الإيرادات. تمكنت الشركة، بضغوط من الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، عام 2017 من الفوز بعقد قيمته أكثر من 1.2 مليار دولار «لتنفيذ مشاريع قطاع الطاقة التي ستؤمن إمدادات طاقة موثوقة في جميع أنحاء البلاد».
كما اتفقت الحكومة البريطانية على توفير ضمان للشركة مع أخرى بريطانية بقيمة 155 مليون دولار «لتعزيز قطاع الطاقة في العراق. كما يوفر إنشاء المشاريع أيضًا فرصًا ضخمة -ومثيرة للغاية- للمُصدرين في المملكة المتحدة» حسب وزير التجارة الدولية الذي تجاهل، وهو يعلن سروره بالاتفاقيات، أن يذكر نسبة الربح الذي ستحصل عليه بريطانيا مقابل توفير الضمان.
اعتبرت لوكاس جواب وزير الدولة وافيا. فالمهم،
من وجهة نظر السياسي البريطاني، سواء كان يساريا أو محافظا، هو استمرار الإعلان أن
الحكومة البريطانية تتعاون مع الحكومة العراقية في توفير الخدمات والاستقرار للشعب
العراقي، أما الهيمنة الاقتصادية ومن خلالها السياسية، إثر الغزو والاحتلال، فأمر
غالبا ما يتم تجنب الإشارة إليه علنيا. لذلك كان من الطبيعي ألا تطرح لوكاس، رغم
كونها يسارية، سؤالا آخر عن مدى نجاح المشاريع المدعومة بتحسين وضع الشعب العراقي،
فعلا، والذي تتحمل بريطانيا جزءا كبيرا من انهياره.
فإذا كانت الحكومة تدعم مشاريع الطاقة منذ إسقاط نظام صدام عام 2003 وتوقيع العقود يتجدد مع زيارة كل وزير كهرباء عراقي إلى لندن، لماذا، إذن، يتظاهر العراقيون، خاصة في الصيف، وهم يحملون تابوتا يدعى الكهرباء؟ لماذا يُضحي المتظاهرون بحياتهم، ويسقط الآلاف منهم قتلى وجرحى، في كل المواسم؟ ما مدى استفادة بريطانيا من دعمها الشركات البريطانية والأمريكية وغيرها ومعظمها يحظى بعقود خيالية تحت شعار إصلاح وتجديد وزيادة القدرة على تزويد العراقيين بالكهرباء؟ وكيف بات ما يحصل عليه المواطن من الكهرباء، يوميا، لا يزيد على الخمس ساعات في بيئة، تصل فيها درجة الحرارة أكثر من 52؟ ولم، مع كل المشاريع المعلن عنها، لا يزال العراق المستورد الأول للكهرباء من إيران؟ لماذا لم يتم، حتى الآن، العمل على معالجة حوالي 16 مليار متر مكعب من الغاز المشتعل لاستخدامه في محطات الطاقة، مما يوفر 5.2 مليار دولار ويلغي الحاجة للاستيراد من إيران؟ أم أن ذلك هو بالضبط ما يجب أن يحدث؟
في سردية أسباب انقطاع الكهرباء، على الرغم من
صرف ما يزيد على 50 مليار دولار منذ احتلال البلد، تبرر التصريحات الرسمية،
العراقية والبريطانية والأمريكية، فضلا عن التقارير ذات الاختصاص، الانقطاع بأنه
ناتج عن أسباب تقنية عدة يعود بعضها إلى تسعينيات القرن الماضي، ومن ثم التخريب
الذي لحق البلاد جراء الغزو الأمريكي البريطاني أولا ثم تنظيم الدولة الإسلامية
ثانيا.
ومن بين الأسباب التي يُشار إليها، غالبا، هو زيادة عدد السكان، واستخدام المكيفات وزيادة الاستهلاك وعدم دفع قوائم الكهرباء والغاز. وهي أسباب، تشير إلى واقع سياسي واقتصادي متدهور، بكل المستويات، يتطلب حلولا آنية سريعة واستراتيجية، لضمان المحافظة على حياة وكرامة المواطن وليس توجيه اللوم إليه. ولن يتحقق هذا ما لم تتوفر الإرادة السياسية المستقلة للحكومة، وتمتع البلد بالسيادة، وتنظيفه من فيروس الفساد.
إذ يبقى السبب الرئيسي لعدم
تنفيذ أي من المشاريع هو الفساد، كعملة صعبة، سارية المفعول، في حقل التزود
بالكهرباء وعلى مستويين، بواسطة الاحتيال في العقود الحكومية مع جهات خارجية من
جهة ومافيا المّولدات على المستوى المحلي من جهة أخرى.
محليا، تتحكم مافيا المّولدات، بكل ما له
علاقة بالكهرباء من تكلفة وتوزيع، وللسياسيين والميليشيات حصص فيها. لذلك لايزال
معدل تلبية حاجات الفرد من الكهرباء واحدا من أدنى المعدلات في الشرق الأوسط.
أما العقود الخارجية، فان في تقرير حديث
لتشاتام هاوس، بعنوان «الفساد المقبول سياسياً وعوائق الإصلاح في العراق» أمثلة عن
الاحتيال في العقود الحكومية عن طريق استخدام شركات صورية. أحدها «العقد الذي
وقعته وزارة الكهرباء العراقية مع شركة «باور أنجنز» البريطانية، لبناء 29 محطة
كهرباء، في مدينة الناصرية، جنوب العراق. وقد دفعت الحكومة مبلغ العقد وقدره 21
مليون دولار لتجد أن الشركة مزورة. ومع ذلك لم تقم الحكومة بفصل أو معاقبة
المتورطين في صياغة العقد أو رفع دعوى قضائية. وكشفت وثيقة رسمية أخرى عن خسارة 8
ملايين دولار من المديرية العامة لإنتاج الطاقة الشمالية».
ومن يتابع مقابلات الساسة العراقيين
التلفزيونية، سيجد أن اتهامات الفساد المتبادلة حول العقود الخارجية، مع عديد
البلدان، تكاد تكون خيالية، ومع ذلك تمر بلا محاسبة.
ولا يقتصر إفلات العراقيين الفاسدين من
المحاسبة والعقاب على داخل العراق لوحده، بل يمتد إلى بريطانيا وأمريكا إذا كان
المسؤول الفاسد من حملة جنسية أحد البلدين أو حاصلا على الإقامة الخاصة برجال الأعمال.
وباستثناء نوفل حمادي السلطان، محافظ نينوى السابق، الذي فرضت عليه الحكومة
البريطانية العقوبات، في الشهر الماضي، لأنه «حّول الأموال العامة المخصصة لجهود
إعادة الإعمار، ومنح العقود وغيرها من ممتلكات الدولة، بشكل غير صحيح إلى
بريطانيا» فان «رجال الأعمال» العراقيين يجدون في بريطانيا وأمريكا ملاذا آمنا إلى
حد كبير.
ولم لا وقد تم تهريب 150 مليار دولار من أموال النفط العراقي في صفقات فاسدة منذ غزوه؟ وهل هناك من هو أكثر احتضانا لهذه الأموال من الغزاة؟ مما يعني أن تحويل أموال الفساد والتهريب من بلدان العالم المضطربة، الغنية منها والفقيرة، ينتهي في بورصات وبنوك وعقارات بلدان حروب التدخل والغزو، مؤشرا إلى أن العالم يعيش مرحلة جديدة من النهب الإمبريالي، غير المباشر، بامتياز. حيث تتنصل هذه الدول من تكلفة الاحتلال أو ضرورات تأهيل أنظمة تابعة مستقرة، مستبدلة إياها باستمرار الفوضى والتمزق والنهب، من قبل أنظمة محلية فاسدة، ليست تحت مسؤوليتها العسكرية المباشرة، مع ضمان انتهاء ما يُنهب إلى «الملاذ الاقتصادي الآمن».
(القدس العربي)