الكتاب: النخبة والحريّة: تونس في الثلث الأوّل من القرن العشرين
الكاتب: د. جمال الدّين دراويل
الناشر: دار سحنون للنشر والتوزيع
الطّبعة الأولى: 2011
عدد الصفحات: 439
مثلت عشر سنوات من تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس استثناء إيجابيا من بين الدّول التي شهدت ثورات وانتفاضات اجتماعية منذ انطلاق شرارة الربيع العربي من مدينة سيدي بوزيد التونسية ذات يوم من كانون أول (ديسمبر) 2010. استثناء عكس قدرة النخب السياسية والفكرية في تونس على إدارة الخلاف السياسي والإيديولوجي بين مختلف فرقاء المجتمع السياسي الانتقالي من تحت سقف الدستور.
وكان قبول التونسيين الخارجين لتوّهم من الثورة بفؤاد المبزّع، رئيس مجلس نوّاب نظام بن علي، رئيسا مؤقّتا للجمهورية بتاريخ 15 كانون الثاني (يناير) 2011 علامة بارزة على وعيهم بضرورة المحافظة على سنام الديمقراطية والتنازع من داخل خيمة الدستور. وبالرغم من حدّة التجاذبات السياسية طيلة حكم الترويكا بين 2012 و2014، والتي زادتها الاغتيالات السياسية لرمزي المعارضة في تونس في تلك الفترة تعقيدا، فقد نجح الفرقاء السياسيون في تونس في سن دستور 27 كانون الثاني (يناير) 2014 بأغلبية مطلقة في البرلمان.
جملة الإجراءات التي أقدم عليها الرئيس الحالي قيس سعيد ليلة 25 تموز (يوليو) 2021 والمتمثلة في "تجميد" عمل البرلمان وإقالة رئيس الحكومة وما رافقها من تنديد واسع من النخبة السياسية والمنظمات الدّولية وتنديد بـ"الانقلاب" الذي يهدد مستقبل التجربة الديمقراطية في تونس، يجعل من الضروري الحفر في مدى ترسّخ فكرة الحرية في المجتمعين الفكري والسياسي في تونس. عودة للبحث في جذور نبتة الحرية داخل النخبة التونسية منذ نهاية القرن 19 من خلال تقديم الصحفي والكاتب الحسين بن عمر لكتاب "النخبة والحرية: تونس في الثلث الأول من القرن العشرين" للدكتور جمال الدين دراويل.
مبحث الحرية
عنيت مدوّنات النهضة العربية الإسلامية ومفكّروها، مشرقا ومغربا، بمعالجة مبحث الحريّة منذ أواخر القرن التاسع عشر وإلى بداية القرن العشرين، وصولا إلى الحقبة الرّاهنة التي تعدّ فيها الحريّة منشطا حريّا بالمساءلة والنّقد و"مفهومًا مركّبًا متعددَ الأبعاد، تلتقي فيه إشكاليات متعددة يحيل بعضها إلى بعض بطريقة تفاعلية، وتمثّل مقاربته وإعادة صوغه وإنتاجه أساس طرح أسئلة التقدّم والتنمية والحداثة في المجتمعات العربية المعاصرة".
ولم تشذّ النخبة التونسيّة خلال الثلث الأوّل من القرن العشرين عن هذا الاهتمام العربي البيّن والباكر بمبحث الحريّة، سواء عبر كتب مفردة للحريّة أو كتب تتضمّن آراء وتحاليل متّصلة بها وبقضايا التحرر أو حتّى ما تعلّق بمقالات وأشعارَ ، مثّلت كلّها "مدوّنة غنيّة تجاوزت إلى حدّ بعيد الأطروحات النّهضويّة التي اتسمت بالعموم من ناحية، ولم تر حلولا خارج نطاق الدّولة السلطانيّة".
ولئن تحيل كتابات النخبة التونسية المذكورة على ما يقيم الدّليل القاطع على تطوّر وعيها وذهنيّتها وعلى حسن تفاعلها مع تحوّلات التاريخ حينها وما أحدثته من تغيّرات بنيويّة عميقة في المجتمعات الحديثة، فإن أبرز ما يميّزها هو إثباتها لقدرة النخبة الزيتونية ذات الثقافة التقليدية على تناول قضية الحريّة بكثير من الوعي والانفتاح اللازمين.
في هذا الإطار يتنزّل كتاب "النّخبة والحريّة: تونس في الثلث الأوّل من القرن العشرين" لمؤلّفه الدكتور جمال الدّين دراويل، والذي هو في الأصل رسالة دكتوراه نوقشت سنة 2007 بالجامعة التونسيّةّ. وقد اجتهد د. دراويل خلال هذا الكتاب، الذي اتخذ له الثلث الأوّل من القرن العشرين إطارا زمنيّا له وإشكالية الحرية ومتعلقاتها الفكرية والعملية أنموذجا للأفكار في الكشف عن الإشكاليات التالية:
ـ ما مدى تأثير التغيّرات التي شهدها التاريخ الحديث على الصعيدين الفكري والعملي في فكر النخبة التونسيّة ونضالاتها بوجه عام، وفي تناولها لمسألة الحرية وقضايا التحرر بوجه خاص؟
ـ هل تمّت معالجة مسألة الحرية وقضايا التحرير لدى هذه النخبة في نطاق
نشر رسالة النهضة والتنوير فحسب أم كان ذلك في سياق التأسيس للحركة الوطنيّة التونيّة والانخراط الفعلي في معترك التحرير الفكري والسياسي والاجتماعي؟
ـ كيف أمكن للنخبة الزيتونية ذات الثقافة التقليدية معالجة كبرى قضايا الفكر الحديث؟ وهل انكفأت إلى المنظومة الفكرية التقليدية واعتمدت على الموروث الفقهي القديم أم انفتحت على مكتسبات الفكر الحديث، في تناول مبحث الحريّة؟
اختيار الكاتب للثلث الأوّل من القرن العشرين كان وعيا منه بما عرفته تلك الفترة من "خصب" في مجال الإنتاج الفكري وفي مجال الحراك السياسي والاجتماعي، ارتبط في أساسه وجوهره بقضايا الحريّة والتحرر في المجالات الفكرية والسياسية والاجتماعية.
بنية الكتاب
بني كتاب "النخبة والحريّة: تونس في الثلث الأوّل من القرن العشرين" على تخطيط ضمّ مقدّمة وأربعة أبواب وخاتمة. قُسّم الباب الأوّل الذي خصّص لمفهوم الحريّة، بوصفها من أبرز إشكاليات الفكر الإنساني قديما وحديثا، وأكثرها تعقّدا وتشابكا، إلى فصلين: عني الفصل الأوّل منهما بتحليل مفهوم الحرية في المقاربة الحداثيّة من جهة المعجم والاصطلاح ومن خلال رصد حدّه الفلسفي والأخلاقي والسياسي. وعني الفصل الثاني بتحليل مفهوم الحريّة لدى النخبة الفكريّة والسياسيّة التونسية في الثلث الأوّل من القرن العشرين والكشف عن كيفيّة المعالجة اللغويّة لمفهوم الحريّة لدى هذه النّخبة، والبحث في منطوياتها الفلسفيّة والسياسيّة عندها.
وقسّم الباب الثاني الذي تولّى فيه الكاتب البحث في مجالات الحريّة وقانون الفكر المتحكّم في معالجتها إلى فصلين، في الفصل الأول تمّ البحث في مجالات الحريّة، الحرية الشخصيّة وحرية المعتقد وحرية الفكر والحرية السياسية، ورام المؤلف التماس قانون الفكر المتحكّم في معالجة إشكاليّة الحرية في الفصل الثاني من هذا الباب.
وتناول الكاتب بالبحث في الباب الثالث من الكتاب منطويات الحريّة ومتعلّقاتها لدى النّخبة الفكريّة ومتعلّقاتها لدى النّخبة الفكريّة والسياسيّة التونسيّة التونسية. وقام بتقسيم هذا الباب إلى فصلين اثنين: الفصل الأوّل منه نظر في منطويات الحريّة المتضمّنة أصلا في مفهوم الحرية وهي العقل والحقوق والتسامح. وخُصّص الفصل الثاني لتعقّب متعلّقات الحريّة والمقصود بها تلكم المفاهيم التي يقود البحث في قضيّة الحريّة إلى تناولها كالاستقلال والدستور والسلطة والاستبداد والتقدّم.
فيما خصص الباب الرابع من الكتاب للبحث في أبعاد الحريّة وانعكاساتها. وتضمّن الفصل الأوّل منه البحث في الانعكاسات الفكرية التي تدور حول أربع قضايا: تحرير المنظومة الفكرية والتعليمية أو تحرير الوعي، تحرير الإنسان، تحرير العمّال وتحرير المرأة. في حين اتجه الفصل الثاني من هذا الباب الرابع والأخير من الكتاب إلى النّبش في الانعكاسات السياسية والاجتماعيّة التي لاحت في تطور الحركة السياسيّة من حركة الشباب التونسي إلى الحزب الحر الدستوري القديم إلى الحزب الحر الدّستوري الجديد، فتأسيس الحركتين النّقابية والطّالبية.
الحرية هي قضيّة الوجود الإنساني
يرى د. جمال الدين دراويل أنّ مسألة الحرية تظلّ من أغنى المفاهيم الفلسفية وأعقدها وأكثرها تداولا وبسطا على البحث، وقدرة على التجدد والتوسّع لارتباطها بالإنسان وجودا وقيمة ودورا. وهو ما يسمح بالقول إنّ قضيّة الحرية في جوهرها، هي قضيّة الوجود الإنساني الكبرى في المجالين الفردي والجماهيري، وعلى الأصعدة الفكرية والسياسية والاجتماعية.
لقد أكسبت التحوّلات الواسعة التي شهدتها المجتمعات الأوروبية الحديثة لاسيّما خلال القرنين الثامن عشر (قرن الأنوار) والتاسع عشر (قرن عنفوان المنظومة الليبرالية) في مجال العلاقات الاجتماعية عامة وعلاقات الإنتاج خاصّة، وتزامن ذلك مع الثورة العلمية والصناعية والتقدّم الاقتصادي الباهر المتولّد عنها، مفهوم الحرية مدلولات جديدة تنطوي على تفريعات استوجبتها هذه التحوّلات الاجتماعية وما رافقها من ثورة فكرية هزت البنية التقليدية من قواعدها، ونهضة صناعية غيّرت شكل الحياة تغييرا وكان الإنسان منطلقها وغايتها.
الحرية من منظور كلامي إلى أداة تحرر وطني
يؤكّد د. جمال الدين دراويل أن تجاوز المفهوم التقليدي للحرية والذي لم يخرج عن دائرة الجبر والاختيار وإثبات حرّية الإرادة الإنسانية أو نفيها، أو باعتباره نقيض العبودية، كان نتاجا لانفتاح الفكر العربي الإسلامي على الفكر الأوروبي الحديث والمعاصر، ومعاينة تجربته داخليا (المدارس الحديثة والمؤسسات الاستعمارية) وخارجيا (الرّحلات والبعثات العلمية والديبلوماسية).
ساهم هذا الانفتاح على الفكر الأوروبي الحديث في تناول مسألة الحرية على غير الأسس التي ارتكزت عليها في التراث الفكري القديم، إذ قامت على تصوّر كلامي وأخلاقي متعال، لم ينظر في متعلقاتها الواقعية، بل نظر في أحسن الأحوال بالعدل والإنصاف باعتبارهما قيمتين أخلاقيتين متصلتين بالضمير والتقوى، فيما تناولها الطرح الحديث باعتبارها قضية وجودية في حقيقتها وجوهرها، تتصل بسيادة الإنسان النابعة من الإيمان بقيمة الفرد ومركزيته في الوجود عامة وفي المجتمع الإنساني خاصّة، وعيا بقدرة عقله وحرية إرادته على فهم العالم الذي يعيش فيه وجعله قابلا على الدّوام أن يسير إلى الأفضل.
الزيتونيّون التنويريّون والمنهج المقاصدي
يؤكّد د. جمال الدّين دراويل على حقيقة بحثيّة مفادها انفراد ما أسماه بالتنويريين الزيتونيين بتخصيص مسألة الحرية والتحرر الوطني بمؤلّفات مفردة أمكن لهم من خلالها تأسيس خطاب تحرري عقلي قدّم العقل على النّص وفتح الطريق لتأويل النصوص في إطار المنهج المقاصدي الغائي والرؤية الواقعيّة، موسّعا دائرة النظر والقراءة بغاية استيعاب المستجدّات وتقدير الضرورات ومراعاة المصالح بثقة وتبصّر، ومن أجل الانخراط القويم في معترك العصر، بدل القعود على هامش الحركة الحضارية والتغني بالمجد التليد والتنازل عن الحرية والمبادرة للآخرين.
ويحسب للزيتونيين تحرّكهم داخل المعترك الفكري الحديث لا خارجه –وأنهم- رغم ثقافتهم التقليدية- ليسوا أقلّ من غيرهم قدرة على مسايرة التحوّلات الفكريّة والتاريخيّة وعلى معالجة قضايا الحرية والتحرر، وأن كتاباتهم تشهد على أنّ هذه القضايا بمضامينها ودلالاتها الحديثة تمثّل هاجسا أساسيا يشتركون فيه مع ذوي الثقافة الفرنسية الليبراليّة من الصّادقين، في المستويين النظري والعملي.
كما إن النخبة الفكرية والسياسية التونسية في الثلث الأوّل من القرن العشرين لم تطرح قضايا الحرية والتحرر على خلفية الصّدام أو القطيعة مع الموروث الفكري العربي الإسلامي، وعلى أساس التوفيقية الإصلاحية التي تجاوزتها فكرا وممارسة، وإنّما على على أساس استثمار ما في الثقافة العربية الإسلامية من عناصر التحرر والتعقّل والتقدّم والتي تمثّل في الوقت ذاته جوهر الثقافة الغربية الحديثة، إذ رأوا أنّ الإسلام يدعّم "روح التحرر" ويدعو إلى "المدنيّة والتقدّم" وأنّ أوروبا الحديثة توفّر نماذج التحرر وأنماط التقدّم التي أثبتت نجاحها ونجاعتها.
وهذا القران بين الحرية ومتعلقاتها الفكرية الحديثة، والروح الوطنيّة ومستلزماتها من جهة، والثقافة العربية الإسلامية وما تختزنه من عناصر التحرر والتعقل والتقدّم من جهة أخرى، أعطى للتجربة التحديثية التونسية المعاصرة ضربا من الخصوصية قياسا بالتجارب التي عرفتها بعض المجتمعات العربية الإسلامية في الفترة ذاتها، وأدّت إلى صراع بين تيارين سلفي ظلّ على مسافة من الأفكار والتجارب الحديثة اعتقادا أنّها تتماهى مع الاستعمار و"الكفر"، وحداثي لم يعد الحل بالنسبة إليه إلا في مسايرة الغرب "حلوه ومرّه".
ومن الكتب المفردة التي تفرّد الزيتونيون بتخصيصها لمبحث الحرية نذكر: "روح التحرر في القرآن" للثعالبي (1905) و"الحرية في الإسلام" لمحمد الخضر حسين (1906) و"الحريّة ثمرة الجهاد" لأحمد توفيق المدني (1921) و"امرأتنا في الشريعة والمجتمع" للطاهر الحدّاد (1930).
ارتباط الحراك الفكري والسياسي بقضايا الحرية والتحرر
يرى د. جمال الدّين دراويل أنّ ما عرفه الثلث الأوّل من القرن العشرين بالبلاد التونسية، من حراك فكري وسياسي واجتماعي مرتبط في أساسه وجوهره بقضايا الحرية والتحرر، لم يعرف مثله بعد ذلك. وقد مثّل الثلث الأوّل من القرن العشرين بالنسبة للبلاد التونسية مرحلة العبور من "مسيرة الإصلاح النهضوي" التي انطلقت مع إصلاحيي القرن التاسع عشر إلى "معركة التحرر الوطني" بمختلف واجهتها التي تولاّها الشباب الذي تعلّم تعليما حديثا وانحدر من أوساط اجتماعية متوسطة وضعيفة، فأعطى للحركة الوطنية بعدا جماهيريا واسعا وسلك بها طريق الواقعية السياسية وصولا إلى تحقيق الاستقلال وبناء الدولة الوطنية الحديثة.