هذا هو السؤال الذي يطرحه أكثر من طرف، داخل البلدين وعلى المستوى الدولي، بعد الإعلان عن قطع العلاقات الدبلوماسية بين المغرب والجزائر، الذي كان هذه المرة، على غير العادة من طرف الجزائر، التي يبدو أن الدبلوماسية المغربية قد نجحت في استفزازها لتبادر بالقطيعة، بعد الإعلان عن الموقف المغربي المؤيد لما سمي باستقلال منطقة القبائل، الذي أعلن عنه ممثله في الأمم المتحدة.. والتماطل الرسمي في تقديم توضيحات حول هذا الموقف الغريب، كان ينتظرها الطرف الجزائري في وقتها وبشكل رسمي. هذا الموقف الغريب تحديدا، هو الذي يكون قد استهلك الصبر الجزائري.
محطات أخرى، يمكن أن تفسر الإعلان عن القطيعة، بين البلدين، في هذا الوقت بالذات، على غرار قضية التجسس (بيغاسوس) التي تم توجيه أصابع الاتهام بصددها الى المغرب، من قبل منظمات دولية، والكثير من الصحف العالمية مثل «لوموند» الفرنسية، إضافة إلى الحضور الإسرائيلي المريب بالقرب من حدود الجزائر.
تم التعبير عبر عنه علنا هذه المرة وبشكل مستفز ـ وليس بشكل سري كما كان حاصلا لعقود ـ بتصريح لوزير خارجية إسرائيل وهو في زيارة رسمية للمغرب، حول قلق بلده من التقارب الإيراني ـ الجزائري والدور الذي تلعبه الدبلوماسية الجزائرية، في رفض قبول إسرائيل عضوا مراقبا في منظمة الاتحاد الافريقي.
حضور إسرائيلي يعكس موازين القوى الجديدة التي لم تعد لصالح المعسكر الذي قادته الدبلوماسية الجزائرية الغائبة لعقدين من الزمن، سمح أثناءها لإسرائيل بالعودة بقوة إلى القارة الافريقية.. تفكر الدبلوماسية المغربية، كما يبدو ـ العائدة إلى المجموعة الافريقية ـ بالاستقواء بها في صراعها ضد الجزائر.
محطات، رغم أهميتها، لا يمكن أن تفسر لنا ما وصلته العلاقات بين البلدين من توتر، يمكن ان يؤدي، لا قدر الله، إلى ما هو أخطر في الأسابيع والشهور المقبلة، إذا استمر الجو المكهرب نفسه بين البلدين، بكل الفلتان الذي يمكن أن يتولد عنه عن قصد أو غير قصد.
عودة إلى الخلفية السياسية ـ النفسية التي تربط بين النظامين والنخبتين الرسميتين في البلدين، بالتراكمات التي عرفتها العلاقات بين البلدين، يمكن أن تفسر لنا الكثير، بعد اختفاء تلك العلاقات المعروفة التي كانت تربط في السابق بين المسؤولين في البلدين، التي وصلت إلى حد المصاهرة والدراسة في الجامعات نفسها.. والنضال في الاتحادات الطلابية والأحزاب نفسها.
كانت الأرضية التي بنيت عليها الفكرة المغاربية وهي في عز قوتها، خلال مرحلة النضال الوطني ولغاية العقود الأولى من استقلال البلدين.
نخب الدولة الوطنية في الجزائر والمغرب تحولت إلى منتج وحيد للأفكار والتصورات، وهي التي تخلق الأزمة والتي تفكها عكس الوضع الحالي الذي اختفت فيه مثل هذه العلاقات وساد فيه الجفاء والتباعد بين النخب السياسية الحاكمة، في البلدين، وزاد فيه مستوى الجهل بالطرف الآخر والكثير من الأحكام المسبقة، كما تعكسه النكسة التي تعيشها الفكرة المغاربية في الوقت الحالي، التي لم تجد مثل هذا الحامل الاجتماعي، الذي كانت تملكه في السابق، لتفشل في بناء حامل جديد بعد الاستقلال، حين اكتفى كل نظام سياسي بما لديه من مشروع وطني مغلق تم بناؤه في عزلة عن محيطه القريب في كل المجالات، بما فيها تلك التي كان يمكن تصور حد أدنى من التنسيق والتعاون، على غرار المجال الاقتصادي، بين بلدين جارين، تربطهما حدود مشتركة بمئات الكيلومترات، تحولا إلى لقمة سائغة أمام القوى الأجنبية التي استغلت تنافسهما في كل المجالات، بما فيها العسكري الذي تحول، مع زيادة التوتر الى استنزاف لقدرات البلدين، على حساب التنمية الاجتماعية، في بلدين محتاجين، لكل دينار ودرهم.
التسيير السياسي الداخلي في البلدين، لم يساعد من جهته، على ترك مجال للمجتمع بفاعليه المختلفين، لكي يلعب دورا في الدفاع عن العمل المشترك، وعدم الوصول الى هذه القطيعة، أو ما هو أسوأ منها في المستقبل، لا قدر الله، فلم يسمح لفئات اجتماعية مختلفة على غرار البورجوازية الوطنية في البلدين، ببناء مصالح مشتركة، كان يمكن ان تكون حاجزا أمام تهور الأنظمة السياسية وتغولها، وهي تحتكر الكلام باسم الوطن ومصالح المواطنين، من منظارها هي في وقت التعاون والتنافس.. الحرب والسلم. مواطنون في البلدين ما زالوا، رغم كل الذي حصل، قريبين جدا وجدانيا من بعضهم بعضا، كما تؤكده أكبر التجمعات الشعبية التي ما زال مسموحا بها لهم في البلدين، ملاعب كرة القدم، عكس ما تروج له وسائل الإعلام العمومية والخاصة التي احتكر الكلام باسمها «محللون» «وخبراء استراتيجيون» من البلدين، زادوا الوضع غموضا.. لم يساعدوا بكل تأكيد على توضيح الرؤية لا للمواطن ولا للملاحظ الأجنبي، ولا من باب أولى لنخب الدولة الوطنية، التي تحولت إلى منتج وحيد للأفكار والتصورات، هي التي تخلق الأزمة وهي التي تفكها.
«كلمنجية « يروجون للخطاب السياسي الرسمي، من دون أدنى إضافة معرفية، ما يحيلنا إلى الموقف المفترض للمثقفين والنخب، الذي يكثر الحديث عنه بمناسبة كل أزمة، كموقف مستقل وممثل لمصالح الشعوب العليا عكس ما يخبرنا به الواقع، الذي يقول إن هذه النخب ـ كمنتج لنظام تعليم وطني سيئ وغير فعال، في البلدين ـ ما زالت في أغلبيتها مرتبطة بالخطاب الرسمي في البلدين، بل تزايد عليه في غالب الأحيان وهي تقترب من طرح شعبوي خطير وقصير النظر، لا يراعي مصالح الشعوب ولا مستقبل علاقاتها. حالة ثقافية تجد تعبيراتها الأكثر بروزا داخل الوسائط الاجتماعية التي استولت عليها فئات اجتماعية واسعة، من دون أفق، من الذين خرجوا لتوهم من الأمية الأبجدية، بعد استفادة محدودة من التعليم الذي منحته الدولة الوطنية بسخاء لفئات شعبية واسعة، بعد الاستقلال، تحولت عمليا الى قوة ضاغطة، بل إلى «الرأي العام» الذي يملك قابلية كبيرة للاستعمال والتوظيف، على حساب ما تبقى من قوة تأثير وحضور للنخب القليلة التي سكتت، أو غُيبت قسرا أو هاجرت، كما يمكن التأكد من حالة الإعلام الذي غاب عنه، كقاعدة عامة، الموقف العاقل والرصين. في وقت تعيش فيه الشعوب المغاربية محنة القطيعة بين كياناتها الوطنية التي بنتها في غياب الديمقراطية كممارسة، فكرة ومؤسسات، هي في أشد الحاجة إليها في وقت الأزمة التي تمر بها، والتي يمكن أن تعصف بكل بنائها، رغم ما توفر لها من تجانس ديني، ثقافي وعرقي، قل نظيره. قد لا يكون كافيا للخروج من منطق المواجهة الذي استولى على العقول والقلوب، بين نخب تربت في ظل القطيعة والجهل بالآخر، تعمل جهدها لتوريث ذلك إلى الشعوب.
عن صحيفة القدس العربي اللندنية