بالطبع سيكون على رأس هؤلاء النادمين على هذه المؤسسة البيروقراطية الموظفون والمصريون الذين يحصلون على مداخيل منها لم تتأثر بأزمة الدولار ولا بالتضخم، يضاف إليهم كل مقدمي الخدمات الكثيرة، كما هو حال أصحاب الفنادق والمطاعم وسيارات الأجرة الذين ستتضرر مصالحهم المستمرة منذ عقود طويلة. لكن الأهم من كل هؤلاء، هي الأنظمة السياسية العربية التي تعودت استعمال سياسي فج لهذه المؤسسة التي فقدت شرعيتها منذ زمان، في عيون الأغلبية الساحقة من المواطنين.
أنظمة عادت في المدة الأخيرة إلى نوع من الاهتمام بهذه المؤسسة بعد انحسار موجة الربيع العربي التي كانت ترفض فيها استقبال مؤتمراتها الدورية العادية التي اضطربت أكثر مع جائحة كورونا. خلال الفترة التي كان منتظر فيها أن تستقبل الجزائر مؤتمر الجامعة، الذي تم أخيرا بعد سلسلة تأجيلات في تشرين الثاني/نوفمبر من 2022.
الجزائر التي حاول رئيسها استغلال المؤتمر للحصول على نوع من الحضور على المستوى العربي، بعد انتخابه رئيسا للجزائر التي كانت معزولة على المستوى العربي والدولي بفعل السياسة الرسمية للرئيس بوتفليقة، الذي توقف عن الكلام والسفر إلى خارج البلد منذ 2012. هو الذي جاء أصلا لإيصال صوت الجزائر إلى الخارج! عزلة مازالت الدبلوماسية الجزائرية تعمل المستحيل للخروج منها أفريقيّا وعربيّا للعودة إلى احتلال مواقعها القديمة.
ليفشل هذا المؤتمر في التصدي للنزاع الجزائري المغربي، الذي كان يمكن أن تتم المبادرة به لو حضر للقمة العاهل المغربي محمد السادس.
ليفشل هذا المؤتمر في التصدي للنزاع الجزائري المغربي ،الذي كان يمكن أن تتم المبادرة به لو حضر للقمة العاهل المغربي محمد السادس، مما خفض بقوة من أهمية هذا اللقاء العربي الذي لم يحضره ولي العهد السعودي، مما جعل الرئيس الجزائري يرد عليه بالغياب عن مؤتمر جدّة سنة بعد ذلك. رئيس جزائري أحس بعملية تغييب له من قبل الدبلوماسية
السعودية التي لم تستشره مسبقا، كما تفترض الأعراف الدبلوماسية، في عودة سوريا التي كانت من الداعمين لها في مؤتمر الجزائر قبل جدة، ولا في توجيه الدعوة للرئيس الاكراني لحضور الجلسة الافتتاحية، رغم أن الجزائر كانت هي رئيسة الدورة لغاية انطلاق أشغال مؤتمر جدة.
كان يفترض أن تكون حاضرة في كل هذه المشاورات الموازية التي قررت مصير المؤتمر قبل انعقاده، جعلت الكثير من الجزائريين يلاحظون غياب وزير الخارجية السابق رمطان لعمامرة بشبكة علاقاته وتمرسه على اللعبة الدبلوماسية العربية. فرض في الأخير على المنظمين إلغاء الجلسة الختامية التي لم يعد لها داع، لتتحول القمة إلى كلمات رسمية تفوه بها من حضر من الملوك والرؤساء العرب، قاطعها أمير قطر احتجاجا على حضور الرئيس السوري؛ تأكيدا للاستمرارية التي تميز الدبلوماسية القطرية في التعامل مع الفظاعات التي اقترفت في حق الشعب السوري، من قبل نظام عاد الى «حضنه العربي» وكأن شيئا لم يكن.
تفرد سعودي بمصير هذه القمة، بمساعدة طابور الدول الداعمة كمصر التي أكدت مؤتمرات القمة في السنوات الأخيرة وما يحصل على الساحة الإقليمية، تغييبها لصالح فاعلين جدد من أصحاب المال والإعلام، على غرار الإمارات التي تبدو كمن لم يعد يهتم بمصير هذه الجامعة ومؤتمراتها، بعد أن نجحت في شق طريق لدبلوماسيتها، يعتمد على قراءة براغماتية خاصة جدا، مبنية على قوتها المالية وتحالفاتها الدولية وتخليها على أي غطاء أيديولوجي، إلا فيما يتعلق بالعداء للإسلام السياسي الذي استمر كبوصلة تحكم سياسة الدولة ونخبها الحاكمة.
يفسر تدخلها في ليبيا البعيدة لصالح حفتر واليمن لما هو أكثر من المال والسياسة واستقبال الذهب السوداني، و«التخلاط» في تونس وغيرها من أنواع الحضور المتنمر الأخرى لهذه الدولة الصغيرة، التي عرفت كيف تسير في اتجاه الرياح، لتبدو أكثر قوة مما يسمح لها به حجمها الفعلي.
ليكون أهم ما ميّز مؤتمر جدة هو غياب التنسيق داخل البيت الخليجي الذي بدا منقسما على ذاته، وفشل في أن يحافظ على واجهته الشكلية التي تعود عليها، كما عكسه مستوى حضور الملوك والسلاطين في هذا المؤتمر. قد يكون له علاقة بتعامل السعودية مع مؤتمر القمة العربي وكأنه شأن سعودي خالص، لا حاجة إلى أخذ استشارة أو رأي أي طرف – بما فيها الدولة التي تترأس الدورة الأخيرة! –، سياسة تم تبريرها إعلاميا لاحقا وكأنه نوع من «الديمقراطية» في العلاقات بين هذه الدول، ليس مطلوبا منها أن تتوافق حول كل شيء، كما كان يحصل في السابق.
نفس الانقسام وأكثر ظهر به القطب المغاربي في هذا المؤتمر الذي تم فيه تغييب دول المنطقة المغاربية، التي كانت في وقت مضى تحافظ على نوع من الانسجام في مواقفها، على الأقل عندما يتعلق الأمر بالقضايا الكبرى التي تحظى بإجماع. لم يعد يعبر عنه داخل مؤتمرات الجامعة التي فقدت بذلك أهم أدوارها الشكلية، الحفاظ على إجماع شكلي يسوق للرأي العام والشعوب، التي بدأت تظهر بين نخبها تيارات قوية تذهب في اتجاه المطالبة بالانسحاب من هذه الجامعة التي لم يعد لها أي دور، أو على الأقل إصلاحها بشكل جذري كحد أدنى، كما طالبت الجزائر أكثر من مرة دون نجاح كبير، لم تعرف كيف تسوّقه؛ نتيجة تغول الإعلام الخليجي على الساحة العربية.
إصلاح يبدأ بخطوات قد يكون على رأسها تدوير منصب الأمين العام، الذي لم يعد ما يبرر سيطرة دولة المقر عليه بهذا الشكل الأبدي الذي يظهر وكأنه معاد لقيم العصر، كما يظهر داخل منظمات دولية وإقليمية مشابهة.
منطقة مغاربية من مصلحة دولها وشعوبها الاهتمام أكثر بقضاياها الداخلية، لم تعول يوما على حلها داخل هذا الإطار العربي الرسمي الذي تمثله الجامعة، رغم النجاحات التي حققتها الدبلوماسية السعودية في وقت مضى، كما كان الحال مع مبادرة الملك فهد في اللقاء الذي جمع الرئيس الشاذلي بالملك الحسن الثاني -1982- على الحدود الجزائرية المغربية.
كانت بداية جيدة لتجاوز أزمة الصحراء والبناء على ما يجمع بين الشعبين، بدل التركيز على تعميق الخلافات، سياسة ما زالت المنطقة المغاربية في حاجة إليها، بعد استفحال النزاع الجزائري – المغاربي الذي يصر القادة المغاربيون على أنهم يعرفون بعضهملبعضا بما فيه الكفاية، ومن ثم ليسوا في حاجة إلى وساطة خارجية، حتى ولو كانت من الجامعة العربية التي بقي الملف تاريخيا بعيدا عنها.