سال حبر كثير عن بهجة سُنة أهل المشرق بانتصار حركة طالبان في أفغانستان وطردها للمحتل الأمريكي وحلفائه.. بعض هذا الكلام كان غرضياً، الهدف منه وسم هؤلاء بالتطرف، ما داموا يؤيدون حركة توصف بالأدبيات السياسية العالمية على أنها حركة قروسطية تضطهد النساء وتعادي الأقليات، وبعض هذا الكلام كان الهدف منه شرعنة الحرب الطائفية ضد سنة المشرق والتأكيد أنهم طائفيون بامتياز، وإنهم هم، وليس الطرف الآخر من أشعل حرباً طائفية في المنطقة ووضع جميع مكوناتها على حافة الخطر، والأخطر من كل ذلك، أراد البعض أن يقسم المنطقة إلى فسطاطين، المتطرفون، وهم غالبية سكان المشرق، والحداثيون الذين يواجهونهم، والذين وإن لم يكونوا منتمين للحضارة الغربية، إلا أنهم يشبهونها، وبالتالي على الغرب الانتباه لهذا الفارق وتحديد الحليف من العدو.
من غير المعروف ما هي المعايير والمقاييس التي استند لها أصحاب تلك المواقف في تأكيدهم على بهجة سُنّة المشرق بانتصار طالبان، المؤكد أنه لم يجري أي مركز استطلاع للرأي ليتم الاعتماد على نتائجه في تعميم هذا الحكم، كما لم تشهد بلاد المشرق مسيرات مؤيدة تعبيراً عن تلك البهجة، ولم يظهر ما يؤشر على تلك البهجة من قريب أو بعيد.
هل استند أولئك إلى إعلان "هيئة تحرير الشام" في مباركتها لطالبان بنصرها؟ إذا كان هذا هو المؤشر على ابتهاج سُنة المشرق، فهذا مؤشر خاطئ لسببين هامين.
ـ أولاً: شمل الفرح بانتصار طالبان أذرع إيران في المنطقة، من العراق إلى لبنان واليمن، كما أعلنت هذه الأذرع أن نصر طالبان قد يشكل نموذجاً يحتذي به من قبلها للعمل في ساحاتها ضد المحتل الأمريكي، وخرج أمين عام حزب الله حسن نصر الله، الذي بات بمثابة الناطق الرسمي لمحور إيران، معلناً أن الأحداث في أفغانستان هي تطورات مفصلية وستكون لها تداعيات على السياسات والأحلاف والعلاقات الدولية، أليست هذه بهجة؟.
وأيضاً انخرط في الفرح، بالنصر الطالباني، كامل الطيف اليساري في المنطقة، والذي يتشكّل من جميع الطوائف، معتبراً هذا النصر نهاية للإمبريالية الغربية ودرساً قاسياً لأعوانها في المنطقة، الذين آن الأوان لهم للتوبة والعودة إلى قمقم الأنظمة والتبرؤ من الفكر الليبرالي وإعادة صوغ تعريفاتهم للوطنية والحرية بما يتناسب والوقائع الطارئة وموازين القوى.
ـ ثانياً: إن "هيئة تحرير الشام" لا تمثل في الغالب سوى الأعضاء المنخرطين في صفوفها العسكرية، حتى أن بعض هؤلاء التحق بالهيئة من أجل الحصول على المرتب لإعالة نفسه وعائلته في ظل ظروف التهجير والتشرد، وتعرف الهيئة أنه لا حاضنة لها لا في إدلب ولا غيرها، وهي طرف موجود بحكم القوة وليس بسبب وجود رضاء شعبي عن توجهاتها وأسلوبها في الحكم.
وهذه ليست مشكلة "هيئة تحرير الشام" وحدها، بل إن جميع الأحزاب ذات الطابع الديني السني لم تلق قبولاً واسعاً في الأوساط المشرقية، ربما باستثناء "حماس" في فلسطين، لم يحقّق أي حزب أو تيار إجماعا من قبل سنة المشرق، وظلت هذه التكوينات منفصلة عن الجماهير، بدرجة لا تختلف عن الأحزاب السياسية الأخرى، القومية واليسارية.
ورغم الأزمة التي مر بها سُنة المشرق في العقد الأخير، إلا أنه لم يتشكّل وعي سني ولا رأي عام ضاغط بهذا الاتجاه، رغم أن الأطراف الأخرى مارست سياسات ببعد طائفي معلن، ورغم أن هذه الأطراف لديها اعتقاد أن سُنّة المشرق يقفون على قلب رجل واحد، وربطت تلك الأطراف بين ثورة سنّة المشرق ضد الأنظمة الحاكمة وبين ما يزعمون من صحوة وعيهم الطائفي، ربما لتبرير الهجوم المضاد ضدهم.
تؤكد الوقائع، أن سنّة المشرق، الغارقين في همومهم وأزماتهم، لم يهتموا بانتصار طالبان، الذين هاجمهم بسببه الآخرون معتبرينه إضافة لقوّة السُنة، وقد يكون محفزاً لهم لتغيير موازين القوى لصالحهم، لم يهتموا لأسباب عديدة:
ـ أولاً: لإدراكهم أن طالبان أقرب لتنظيمات أذاقت سنّة المشرق الويلات، القاعدة وأخواتها، وأن طالبان التي بنت علاقات مصالح مع إيران لن تهتم لا بالمشرق ولا بأهله.
ـ ثانياً: لأن سُنة المشرق، ينظرون للصراع من بعده القومي، فما فعلته إسرائيل، وكررته إيران بحذافيره، من اقتلاع وتغيير ديمغرافي، كان بدوافع وأسباب قومية بدرجة كبيرة، أما استخدامهم للدين فكان لأسباب غرضية، إما لجلب اليهود إلى فلسطين، أو لتشجيع شيعة المشرق على الانخراط في المشروع الإيراني.
ـ ثالثاً: لإدراك السُنّة استحالة تشكّل تكتل سني حتى في ذروة أقصى المخاطر، بدليل أن سنوات الأزمة لم تفرز مثل هذا التكتل وظل سنّة المنطقة منقسمين، بعضهم يؤيد الغرب وبعضهم يؤيد الشرق..وهكذا.
والحاصل، أن الأطراف الأخرى، في ادعاءاتهم بفرح سنة المشرق بانتصار طالبان، إنما يسقطون مخاوفهم وتصوراتهم وتقديراتهم على الوضع، حتى إنهم يتعاملون بخبث ظاهر، من خلال العمل على تحويل انتصار طالبان إلى مبرر إضافي لاضطهادهم والحرب عليهم.
أَفغانستان.. مَقْبرَة الإمبراطوريَّات
طالبان لم تتغير ولكنها انتصرت على أمريكا