لولا أن المرشد العام لجماعة
الإخوان المسلمين، الأستاذ مهدي عاكف، نعى الزعيم التاريخي
المغربي عبد الكريم الخطيب، بعد وفاته في سنة 2008، وأكد في نعيه انتماءه للجماعة، ربما ظل كثيرون في المغرب يجهلون هذا الانتماء الذي لم يكن ذائعاً عنه، وهو ما مكّن البعض من المصريين من أن ينفروا خفافاً وثقالاً لنفي صلة حزب
العدالة والتنمية المغربي بجماعة الإخوان!
الإنكار له ما يبرره، فالحزب خرج من الانتخابات بخسارة فادحة، وإذا كانت هزيمته متوقعة، فإني أجزم بأن أكثر المتفائلين من أهل الحكم في المغرب لم يتوقعوا هذه الخسارة الكبيرة، التي تذكر بالبدايات. وقد حصل هذا الحزب (قبل تغيير اسمه)، في الانتخابات التي أجريت في عام 1997 على 12 مقعداً في البرلمان، وفي الانتخابات الحالية حصل على 13 مقعداً بعد عشر سنوات قضاها في الحكم.
شتان بين البداية المبشرة والنهاية الأليمة، ففي الانتخابات التالية في 2002 حصل على 42 مقعداً، ومن المؤكد أنه لن تقوم له قائمة بعد نتيجة الانتخابات الأخيرة، في الأمد المنظور، فقد كانت تجربته في الحكم بائسة
وشتان بين البداية المبشرة والنهاية الأليمة، ففي الانتخابات التالية في 2002 حصل على 42 مقعداً، ومن المؤكد أنه لن تقوم له قائمة بعد نتيجة الانتخابات الأخيرة، في الأمد المنظور، فقد كانت تجربته في الحكم بائسة؛ حيث قبل بالدنية في أمره، وفشل في إدارة الحكومة، وفرط فيها في الثوابت، فماذا بقي له؟!
وهذا التفريط، الذي جاء مسكوناً بالفشل، هو الذي عزز من حملة "الإنكار" لأن يكون حزب العدالة والتنمية امتداداً لجماعة الإخوان المسلمين، وهو إنكار يحدث كثيراً مع تجارب ليست جيدة، كأن تذكر بأن القوم كانوا في العراق مع الاحتلال الأمريكي، وكانوا في الجزائر مع العسكر الذين ارتكبوا المجازر هناك. وجزء من الإنكار مرده إلى الجهل، لأن من بين المصريين من يقتصر اهتمامهم على الداخل المصري، وإذ حولت وسائل التواصل الاجتماعي العالم إلى قرية صغيرة، فقد وجدوا أنفسهم مطالبين بالخوض في قضايا خارجية، فأوغلوا فيها بجهل.
وهناك من يعتقد أن الانقلاب العسكري كان على الانتخابات الجزائرية التي كان الفائز فيها هم الإخوان، وعندما كتبت ذات مرة إن القوم يمثلهم محفوظ نحناح، علق أحدهم إن نحناح ليس من الإخوان! فللتغطية على الجهل يكون اللجوء إلى "الفهلوة"، التي يجيدها بعض المصريين وتعد رأس مالهم!
هذا التفريط، الذي جاء مسكوناً بالفشل، هو الذي عزز من حملة "الإنكار" لأن يكون حزب العدالة والتنمية امتداداً لجماعة الإخوان المسلمين، وهو إنكار يحدث كثيراً مع تجارب ليست جيدة
من الباب العالي:
وحالة الإنكار التي يعيشها كثيرون الآن كانت سبباً في التغطية على حضور الجماعة في المغرب، من الباب العالي، ممثلاً في الزعيم التاريخي عبد الكريم الخطيب، صاحب التاريخ الطويل في مقاومة الاستعمار الفرنسي، وساهم في علاج المصابين من أبناء جلدته، وجمع التبرعات وسلمها للمقاومة، كما ساهم في تأسيس جيش التحرير، كواحد من خمسة انضم إليهم في وقت لاحق علال الفاسي وعبد الرحمن اليوسفي، وانتقل من قصر الاهتمام على المغرب، إلى ضرورة تحرير الجزائر وشمال أفريقيا من الاحتلال، بالمشاركة مع طليعة جزائرية قادت المقاومة؛ من بينها أحمد بن بلة ومحمد بوضياف!
وبلغ دوره في المقاومة حد أن جمال عبد الناصر عندما عرض دعم المقاومة المغربية، اشتُرط أن يكون هذا عن طريق عبد الكريم الخطيب. وقد انتفع بهذه المكانة في أن يخلص قائده التنظيمي من براثن الاعتقال في مصر، وقد تدخل محمد الخامس بنفسه، واستضافه المغرب مقرباً من الملك ومستشاره القانوني، وكان هذا الإخواني المصري هو طريق عبد الكريم الخطيب إلى الإخوان!
إنه توفيق الشاوي الإخواني المعروف، وزوج ابنة الفقيه الدستوري الذي هو أشهر من نار على علم، عبد الرزاق السنهوري. وكان الشاوي يدرس القانون في السوربون عندما تعرف على عبد الكريم الخطيب وإخوانه في المقاومة، ولم يكن وحده هناك فقد كان معه إخواني آخر يدعى "محمود عبد السعود"، قبل أن يلتقي بسعيد رمضان!
وبعد التحرير تقلد عبد الكريم الخطيب منصباً وزارياً، ولم يتوقف نضاله على مقاومة المحتل، وإنما امتد هذا النضال إلى دعوته للتعددية السياسية ورفض الأخذ بنظام الحزب الواحد، وهي الصيغة التي اعتمدتها كثير من الدول العربية بعد التحرير. وقد أسس في وقت لاحق حزب الحركة الشعبية الدستورية. وإن لم يُعرف انتماؤه التنظيمي، فقد كان حضوره الإسلامي معروفاً، وفي سنة 1973 اقترح تحويل حزبه إلى اسم "النهضة الإسلامية"، لكن هذا الاقتراح قوبل بالرفض من قبل الإدارة، ومن قبل قيادات الحزب أيضا، لكنه فتح الحزب للحركة الإسلامية المغربية في بداية التسعينات، قبل أن يتغير اسمه بعد ذلك إلى حزب العدالة والتنمية!
التنظيم الدولي:
ومن هنا كان الانتماء الإسلامي للحزب معروفاً، لكن الانتماء التنظيمي لم يكن معلناً، وإن كان الشارع المغربي يعرف أن العدالة والتنمية هم إخوان المغرب!
كان الانتماء الإسلامي للحزب معروفاً، لكن الانتماء التنظيمي لم يكن معلناً، وإن كان الشارع المغربي يعرف أن العدالة والتنمية هم إخوان المغرب!
وهذه الضبابية في العلاقة مردها، إلى عدم الإعلان عن الانتماء الذي أعلن عنه مرشد الإخوان مهدي عاكف، بعد وفاة عبد الكريم الخطيب (1921-2008)، ومن الواضح أن هناك حساسية من مثل هذا الانتماء، الذي لم نكن لنعرفه بالنسبة للنهضة التونسية، لولا ما أذيع في مرحلة النشأة والتكوين، من أن قادتها سافروا لأداء فريضة الحج، وكانت تسمى "الاتجاه الإسلامي"، عقب الإفراج عن حسن الهضيبي، المرشد العام الثاني للإخوان المسلمين، في بداية عهد السادات، وبايعوه في الأراضي المقدسة!
ولعل اللافت هنا أن جماعة الإخوان المسلمين ظلت لفترة طويلة تنكر وجود ما يسمى بالتنظيم الدولي للإخوان المسلمين، وعندما نشرت مجلة "روزا اليوسف" على غلافها وبعناوين زاعقة عن هذا التنظيم في بداية التسعينات، وكأنها وقعت على كنز ثمين من المعلومات، بعد أيام كنت في مكتب الإرشاد محاوراً المتحدث الرسمي باسم الجماعة المستشار مأمون الهضيبي (المرشد العام بعد ذلك) الذي نفى لي نفياً قاطعاً أن يكون هناك وجود للتنظيم الدولي للإخوان. وفي أزمة غزو الكويت وعندما أعلن كمال الهلباوي موقفا مختلفا عن موقف الجماعة باسم هذا التنظيم الدولي، أعلن الهضيبي أنه تم فصل الهلباوي من الجماعة، بعد أن أنكر صلته بها، كما أنكر وجود كيان باسم التنظيم الدولي!
حزب الإسلام السياسي:
فهل كانت هذه الحساسية هي السبب في عدم الإعلان عن ارتباط عبد الكريم الخطيب بالجماعة، وعدم إعلان أن العدالة والتنمية بعد أن صار حزب الحركة الإسلامية هو حزب إخواني؟!
العدالة والتنمية هو حزب الإسلام السياسي، مهما كان الولاء التنظيمي، وإذا كان خيار الجماهير بعد الربيع العربي هو اختيار الإسلاميين، باعتبارهم الذين كانوا ضحايا لأنظمة القمع ولأسباب أخرى (لأن السلفيين لم يكونوا ضحايا هذه الأنظمة)، فإن ملك المغرب كان من الذكاء بمكان، عندما تحايل على الثورات العربية بإجراء انتخابات نزيهة
مهما يكن الأمر، فإن العدالة والتنمية هو حزب الإسلام السياسي، مهما كان الولاء التنظيمي، وإذا كان خيار الجماهير بعد الربيع العربي هو اختيار
الإسلاميين، باعتبارهم الذين كانوا ضحايا لأنظمة القمع ولأسباب أخرى (لأن السلفيين لم يكونوا ضحايا هذه الأنظمة)، فإن ملك المغرب كان من الذكاء بمكان، عندما تحايل على الثورات العربية بإجراء انتخابات نزيهة، كانت نتيجتها أن جاء الإسلاميون للحكم بطريقة سلمية، وليفوزوا لدورتين على التوالي. لكن كانت المشكلة أن هذا الفوز لم يأت مع وجود شخصية قوية مثل عبد الكريم الخطيب، بل إن الشخصية المتماسكة التي ورثت رئاسة الحزب وتولت رئاسة الحكومة، "عبد الإله بنكيران"، اشترط ما يعرف بالمخزن (الدولة العميقة) ألا تشكل الحكومة التالية، وتمت الإشارة إلى شخص ضعيف، وهو ينتمي للإسلاميين. وكان المفروض أن الحزب يرفض هذا التوجيه، لكنه دافع عن خيار "المخزن"، وضحى بعبد الإله بنكيران، ورحب بالعثماني، وهي ذاتها التنازلات التي عرفتها تجربة النهضة التونسية، مقابل الحكم!
إنها شهوة حكم إذاً، كانت سببا في أن يساق القوم في تونس والمغرب إلى الموت وهم ينظرون، وفي مقابل هذا لم تتوقف التنازلات على الشكل، ولكن وصلت للثوابت، وبدوا في حالة سقوط ففقدوا معها الإرادة على التوقف عند مستوى معين، كما فقدوا الرغبة في التوقف، ظناً منهم أنهم سيستمرون في الحكم بقدر التفريط!
لقد مرر "المخزن" من خلالهم ما لا يمكن أن تمرره أي حكومة ذات توجه مغاير إلا بشق الأنفس، فكانت سياسة عفا الله عما سلف التي أسقطت حقوق الشعب على من هربوا الأموال ولم يؤدوا حق الدولة، وكانوا هم من قننوا القنب الهندي (المخدرات) زراعة، وإنتاجاً، ونقلاً، وتصديراً، وتسويقاً، وتصنيعاً.
ثم كانت ثالثة الأثافي في أن يمرروا هم التطبيع مع إسرائيل، ليجلس العثماني على مائدة بأمر من مدير المراسم، ولم يكن بنكيران هو الأفضل منه في الموضوع وإن اختلف في الشكل، وقد أيد اتفاق التطبيع مع العدو!
هذا الخروج من السلطة ليس خروجا يسمح بالعودة بعد دورة أو أكثر، فالتجربة أليمة، وتمثل درساً معتبراً في كيف يمكن الإجهاز على الخصم بدون إطلاق رصاصة أو فتح زنزانة، فقد سلمهم الملك حبل المشنقة ليشنقوا أنفسهم بأيديهم وأيدي الجماهير
وكانت النهاية الحقيقية، عندما قبلوا بأن يكونوا مجرد "خيال مآتة" في السلطة، فالحقائب الوزارية السيادية ليست لهم، وحتى في الوزارات التي تولوها فإن دور الوزير منهم لم يكن أكثر من دور مدير العموم بالوزارة، وهو وضع مُزر قبلوه على أنفسهم. وإذ فشلوا في حل المشكلات الاقتصادية، وساهموا في سحق الطبقة المتوسطة، فقد كان الملف الأخلاقي مما استخدم في النيل منهم، ولم يكونوا على مستوى المسؤولية، ليدركوا أن الخصم قوي، ويقف لهم بالمرصاد، لدرجة كشف علاقة تمت في الحلال بين وزيرين: سمية بنخلدون والحبيب شوباني، ليحملهما بنكيران على الاستقالة من وزارته، بعد تعامل الخصم معها على أنه فضيحة.
إن هذا الخروج من السلطة ليس خروجا يسمح بالعودة بعد دورة أو أكثر، فالتجربة أليمة، وتمثل درساً معتبراً في كيف يمكن الإجهاز على الخصم بدون إطلاق رصاصة أو فتح زنزانة، فقد سلمهم الملك حبل المشنقة ليشنقوا أنفسهم بأيديهم وأيدي الجماهير، التي اندفعت لانتخابهم من قبل.
جاءوا بالصندوق وغادروا بالصندوق، ودخلوا من الباب العالي (باب عبد الكريم الخطيب) وخرجوا من باب "سعد الدين العثماني".
يا لها من نهاية مأساوية!
twitter.com/selimazouz1