كتاب عربي 21

أجساد الرؤساء العرب وهي تشدو بالألحان

1300x600
فوجئت بأحد الكتاب يقول معلقاً على خطاب قيس سعيد الأخير، الذي وصف المظاهرة الشعبية ضده بالمسرحية: انظروا إلى لغة جسده، فنظرتُ، فعجبت أن يكون لجسده لغة وبيان وبلاغات وبرهان، فقد كنت مأخوذاً بلغة لسانه وبيانه وبياض أسنانه وقوة جنانه، حتى غفلت عن لغة جسده الفصيحة، لو عملنا بنصيحة المتنبي عن نيوب الليث البارزة التي ظنناها بسمة ما وقعنا في المصيدة.

لم يكن خطاباً، كان الرئيس المعجزة ينهش لحم الكلمات، وكان جمهوره يصفّر تصفيرات سوقية، وهو غير ظاهر، ربما كانت أصواتا مسجلة، وكأن الجمهور يشاهد عرضاً لراقصة عارية، ولم نشاهد الجمهور الذي نقدّر أنه كان قليلاً، ربما كان الحرس الرئاسي في خطاب المسرحية هو الجمهور.

لغة الجسد تعبير معاصر يعود إلى قرنين مصرومين، وهي لغة بصرية حروفها حركات اليد وعلامات الترقيم في الوجه وفواصل القدم وكلمات الكتف، وجمل تسارع الأنفاس وتغير نبرات الصوت، ولها تفسيرات وتأويلات لا يعرفها إلا الضالعون بعلوم هذه اللغة ومجازاتها، وهي ليست سماعية كاللغة التي علّمها الله لآدم عليه السلام.

يزعم بعض علماء حركات الجسد أن لغة البصر أقوى من لغة السمع. وقد اخترع شارلي شابلن في عهد السينما الصامتة ببلاغات الحركات ومجاز الإيماءات؛ أفضل فواكه الكوميديا على الإطلاق. أما الكوميديا العربية، فهي سماعية، العرب لغتهم بيان باللسان، وديوانهم هو الشعر.

لم تكن للغة الجسد كل هذه الأهمية قبل عصر الصورة وعصيرها، حتى إني صادفت ثلاثين مقلداً لمبروك عطية، الصوت لمبروك عطية والحركات للمقلدين.

إن عدنا إلى النصوص المقدسة والمرويات التراثية لن نجد ذلك الاهتمام المعاصر بلغة الجسد، وإلا ما علا اسم عنترة بطلاً للعرب، وهو أسود، يقول زهير بن أبي سلمى:

لِسَانُ الفَتَى نِصْفٌ وَنِصْفٌ فُـؤَادُهُ   فَلَمْ يَبْـقَ إَلا صُورَةُ اللَّحْمِ وَالـدَّمِ

ولم أعرف ماذا كان جورج بوش يجترَّ بين فكيه عندما صاح فيه أحد الضباط وهو يوبخه على غزو العراق، ويتهمه بقتل مليون عراقي بريء، لا بد أنه كان يجترُّ خزيه، فقال متخلّصاً من الحَرَج: هذه هي أمريكا التي يستطيع فيها من يشاء أن ينتقد الرئيس. ونضيف: ويستطيع الرئيس أن يفعل ما يشاء ويفلت من العقاب.

تقوم أحياناً مصانع الفوتوشوب بإعادة تقطيع حركات جسد الضحية تمثيلاً به أو سخرية منه. ولم تكن لحافظ الأسد لغة جسد، لأنه كان يحب دور المخرج لا دور الممثل، وكان السيف هو أفضل الناطقين بالضاد في عهده، كان صنماً حيّاً، وصنماً ميتاً، والأصنام ليس لها لغة جسد.

إذا أخرست التلفزيون سيظهر لك هتلر وهو يخطب عصبياً وكأنه يتألم من مغص أو حصى في المثانة، وبدا لي أمس قيس سعيد شبيها بأحد أشرار أفلام الخيال العلمي، كوحوش الزومبي أو "غولوم"؛ وحش فيلم سيد الخواتم. وأظن أني لو كنت تونسياً لانتخبته كما فعل منصف المرزوقي، وأنّ الغنوشي أيضاً انخدع به لأن خصمه القروي كان فاسداً ظاهر الفساد. لقد اشتهر قيس سعيد بعد انقلابه الأبيض - وهو أبيض حتى الآن - حتى صار بشهرة محمد البوعزيزي الذي أحرق نفسه، فكلاهما حارقان، واحد لنفسه، والثاني لنفسه ولتونس.

ووجدت أن رؤساءنا المعاصرين جميعاً يجيدون مشية الهيدبى ومشية الخيزلى على السجاد الأحمر، ويحتالون على الشعوب بلغتي التمساح الشهيرتين؛ لغة دموع التماسيح، ولغة الجذع الطافي. وقد انتحلهما عبد الناصر والأسد وصدام حسين وعبد الفتاح السيسي وقيس سعيد، فقد بكت تماسيح العرب ولعبت لعبة الجذع الطافي حتى تصل إلى فريسة المجد الدامي.

ووجدت أيضاً أن عبد الفتاح السيسي كان أشهر الرؤساء ببلاغات لغة الجسد الفاضحة وهو أفصحهم جسدا، فتجده في حضرة بوتين وحضرة ترامب خاشعاً كالخادم وخجولاً مثل العذراء في خدرها، ثم يصير في مصر كالأسد في عرينه. لكن لغة جسده يخونها الإخلاص للحال والمقام، يمكن أن نتذكر عندما تحدث عن سرت وقال: سرت خط أحمر، فظهر خطه الأحمر وردياً بسبب رقته الظاهرة. وهو يعقد يديه على بطنه عندما يتقدم نحو المنبر، ولا أعرف ما تفسير هذه الجملة الجسدية.

أما الملك المغربي، فهو صخرة منصوبة، وليس له لغة جسد ظاهرة، فهي لغة الشعب الذي يركع منحنياً لتقبيل يده وأيدي أبنائه مع مسافة أمان كبيرة؛ هي أكبر من مسافة الذين يركعون لتقبيل يد الملكة البريطانية.

وكان بشار الأسد شديد الخجل من الكاميرا عند أول ظهور له وأبوه يدفعه لوداع جثمان أخيه باسل، ثم تعلّم الفصاحة والفلسفة بيديه وقدميه وفكيه.

وأُعجب كاتب السطور بجواب الداعية أحمد ديدات عن سؤال حركات الصلاة، وهي كلمات تقال بالجسد، فقال عن رفع اليدين في تكبيرة الإحرام: ألا ترى الكاوبوي يرفع مسدسه في وجه شخص فيرفع يديه مسلماً؟ فتسليم الصلاة عبادة وخضوع من غير مسدس، أما في خشوع الصلاة ووصف لغتها، فذكر المتسول الذي يطأطئ رأسه وينكسه، ويتباكى حتى يثير عطف المتصدقين، فكذلك المصلّي يتوسل ربه في الصلاة.

لغة الجسد المقصودة لغة لاإرادية غالبا. أمس عدنا مريضاً انفجرت أمعاؤه، وهو شاب في الثالثة والثلاثين، وسألناه عن علته فقال: السبب هو التوتر. وهو شاب عفيف لم يعرف امرأة في حياته وجامعته برلين تموج ببنات بني الأصفر الكاسيات العاريات، وقد أطلقن كثيراً من النيران الصديقة حتى طرحنه بين أيدي الجراحين. تُعادل دورُ عرض الأزياء سوقَ عكاظ في الجاهلية، حيث تتبارى النساء بقول الشعر البصري، وعادة ما تتزين أجساد الزعماء العرب بكثير من الأوسمة العسكرية البراقة في حروب المطابخ والأسرّة والملاهي.

يبدأ الرئيس التمساح بحيلة الجذع الطافي، ويعود إلى أرذل العمر جذعاً طافياً من غير فكين، وهو ما رأينا عليه بو تفليقة، جسداً أميّاً لا ينطق حرفاً واحداً.

كان يمكن الحديث عن لغات أجساد المعتقلين في السجون، التي يعاد تشكيلها على هيئة أقواس أو أسلاك، وأجساد الكلمات، وكيف يتحول الفعل إلى اسم أو إلى صفة أو مضاف إليه، أو يذكر أو يؤنث.. أو لغات أجساد المدن التي تهرم وتشيخ وتموت أيضاً.

سبب صمت أجساد الأسلاف هو بلاغة عقولهم، وقد كتب الجاحظ نصا فريدا في تحري لغة الجسد في كتابه الحيوان يصف فيه جسد قاضي البصرة عبد الله بن سوار. وتجد في الشعر العربي تصويرا بديعا للغات الجسد، مثل وصف امرئ القيس للغة جسد الليل:

فَقُلْتُ لَهُ لما تَمَطّى بصلبه   وأردَف أعجازاً وناءَ بكلْكلِ

وقد طال كثيرا وناء بكلكل ثقيل.

twitter.com/OmarImaromar