"الناس محتاجون دوما للحلم، ولمن يشرح لهم طلاسم الحياة، ويمسك بأيديهم".
(1)
أنهيت في الأسابيع القليلة الماضية قراءة آخر الأعمال السردية للمفكر المغربي المتألق والمبدع الدكتور حسن أوريد المعنونة بـ"زينة الدنيا".
يعود تعرفي على هذا الاسم ـ أقصد حسن أوريد ـ إلى أواخر التسعينيات من القرن الماضي حين أصدر كتابه ـ أظنه الأول ـ الموسوم بـ "الإسلام والعولمة"، قرأته يومئذ، وأعجبت به، دون أن تكون لدي أي فكرة عن مؤلفه، لكن لفت نظري أن منظومة الكاتب المعرفية تتسم بكثير من السعة والعمق، إن كان في مستوى اطلاعه على الفكر الغربي ومتابعته له، أو كان في مستوى اطلاعه على الفكر العربي، والثقافة الإسلامية، مما دفعني إلى متابعة بعض ما ينشره آنذاك على صفحات جريدتي "الحياة اللندنية" و"الشرق الأوسط". بعيد ذلك سيبرز المؤلف غداة اعتلاء الملك محمد السادس للعرش متبوئا منصبا رسميا بالغ الحساسية والأهمية.
وعند إصدار العدد الأول من جريدة "تيلواح" الأمازيغية في إطار جمعية سوس العالمة للثقافة الأمازيغية أعدت نشر مقال سابق له ـ دون ربط أي اتصال به ـ بعنوان "الطوائف الثقافية بالمغرب" سبق أن نشره قبل سنوات على صفحات جريدة الشرق الاوسط.
بعد كتابه الأول تتالت رواياته الأدبية (آخرها رواية زينة الدنيا)، وكتاباته الفكرية والسياسية (آخرها كتاب "عالم بلا معالم ").
ومن الملاحظات التي لا تخفى على اللبيب المتتبع للساحة الفكرية والثقافية بالمغرب والعالم العربي عامة هو تراجع دور المفكر ومكانة المبدع داخل المجتمع، ومن أجلى صور التراجع هذا كساد سوق الكتاب بشتى أنواعه، لدرجة أن عدد النسخ المطبوعة في أي كتاب لا تكاد تصل ألف نسخة في أحسن الأحوال، ولا تنفذ في السوق إلا بعد انصرام عدة سنوات، وقلة قليلة من المؤلفين من يغامر بإعادة طبع مؤلفاته.
وقد استطاع الروائي حسن أوريد بعمق ابداعاته أن ينفذ إلى وجدان القارئ المغربي ما جعل طبع أعماله يعاد عدة مرات.
وثاني هذه الصور (أعني صور الكساد) عدم بروز ـ في العشرين سنة الأخيرة على الأقل ـ قامات فكرية يحظى إنتاجها بمتابعة منتظمة من قبل أصحاب الفكر، وعموم المهتمين بالثقافة، إن كان داخل المغرب أو خارجه، كما كان الشأن مع انتاجات العمالقة الكبار أمثال علال الفاسي، عبد الكريم غلاب، محمد عابد الجابري، وعبد الله العروي، وغيرهم.
وقليلة هي الأسماء التي تمكنت من ذلك، ولا غرو أن يكون الدكتور حسن أوريد واحدا من أربعة كتاب مغاربة أحياء حلقت أسماؤهم عاليا في سماء الفكر مغاربيا وعربيا، وحتى عالميا، يحق للمغرب أن يفخر بهم، وهؤلاء الأربعة الأحياء هم: طه عبد الرحمان في الفلسفة والمنطق، أحمد الريسوني في الفقه الإسلامي وعلم المقاصد، حسن أوريد في الفكر والإبداع الأدبي وعبد الإله بلقزيز في الفكر السياسي المعاصر.
(2)
"زينة الدنيا" رواية رائعة شكلا ومضمونا، كما وكيفا. على امتداد 640 صفحة.. يغوص بنا الكاتب في أعماق حقبة من حقب التاريخ الأندلسي، وما ارتبط بهذا التاريخ إنسانا، وأرضا، ونمط حياة، وقيم انسانية نبيلة. وهل الأندلس إلا ذاكرة مشتركة للإنسانية؟ ذاكرة تجلت حضارة الإسلام على أرضها الطيبة، حضارة دامت زهاء ثمانية قرون كاملة، انتهت بمأساة انسانية مؤسفة تستحق أن تجلى في رواية مخصوصة.
يقول محمد عبد الله عنان عن هذه الحضارة: "ثمانية قرون كاملة من نضال مضطرم بين العرب والإسبان، وصراع متصل بين الإسلام والنصرانية، وانقلابات وثورات لا نهاية لها في سبيل الغلبة والملك، ودول وإمارات كبرى وصغرى تتنازع تراث الدولة الأموية، وجهاد مستمر من الإسلام ليحتفظ بأرضه وسيادته.. ومن اسبانيا النصرانية لاستخلاص الحريات القومية من الفاتح، واستبسال الفاتح في الحرص على وطنه المكسوب والذود عن دينه ومدنيته.. تلك هي أدوار المأساة الأندلسية التي انتهت بذهاب دولة الإسلام في اسبانيا" (مواقف حاسمة في تاريخ الإسلام لمحمد عبد الله عنان، ص 192 طبعة 2/ 1934).
لا مبالغة إن قلنا إن الحضارة الأندلسية حضارة متفردة عن كل حضارات العالم، متفردة بنشأتها، متفردة بتعدد روافدها، متفردة بغناها وشموخها، متفردة بتراثها البديع في مختلف حقول المعرفة الإنسانية، متفردة في المصير الذي انتهت إليه. ولا تكتمل الصورة إلا بإبراز جانبيها معا: جانب زينة الدنيا، وجانب المصير المأساوي.
رواية زينة الدنيا هي أقرب إلى حقل الرواية التاريخية منها إلى أي حقل آخر، ليس معناه أنها فوق الزمان وفوق الواقع، بل العكس هو الصحيح، لأن هناك ـ بتعبير الكاتب نفسه ـ توظيف للتاريخ في قضايا آنية، وذلك أن النص التراثي ـ التاريخي ـ كما يقول الروائي بنسالم حميش ـ ليس أعمر منه، وأغنى بالواقعات والحالات والتجارب، ولا أي خزان أوسع منه لفرص إقامة الدلالات وتحريرها، وهو عمل صعب المراس ـ حسب حميش دائما ـ لا يوجد لظهور ثمراته اليانعة الممتعة إلا العكوف على تحصيل المواد التراثية التاريخية، والاجتهاد في استيعابها، وفهمها.
لكن إذا كانت زينة الدنيا رواية تاريخية هل هي من جنس الروايات التاريخية التقليدية التي عرف بها مثلا جورجي زيدان؟ أستبعد ذلك، إنها من جنس الرواية التاريخية التي تنظر بعين إلى الأحداث التاريخية، وبعين أخرى إلى الحاضر لفهمه من أجل تغييره نحو الأفضل.
مما يتميز به الكاتب انفتاحه على قوالب إبداعية أخرى في بعض فقرات روايته ـ كما رواياته السابقة خاصة رباط المتنبي ـ أقصد الإبداع الشعري الذي يتم استحضاره بكثرة.
علاوة على ما سبق، الرواية كثيفة من حيث التأملات الفلسفية في الاجتماع البشري، ومكتنزة بالأحداث التاريخية كما سطرها المؤرخون، مع قدرة فائقة على تحريك أشخاص الرواية حسب الزمان والمكان والحال، بغاية تثبيت جملة من المعاني في ذهن القارئ.
(3)
ماهي الرسائل الجوهرية المبثوثة في الرواية؟
من الصعب استخراج كل الرسائل الثاوية في ثنايا الرواية لأن الكاتب لديه قدرة فائقة على تكثيف المعاني والأفكار في جملة أو جملتين عبر جواب مقتضب لأحد شخوص الرواية عن سؤال ما.
أ ـ في الاستبداد والصراع الدموي على الحكم:
لاريب في أن الاستبداد هو أصل الداء في المجتمعات العربية والإسلامية المعاصرة، وهو داء قديم، وقد توقفت عنده الرواية في مقاطع كثيرة أبرز من خلالها الكاتب ـ وأجاد ـ خصائص الاستبداد والمستبد، من ذلك مثلا:
ـ "الفكر في مواجهة الاستبداد: كثيرون يستهينون بقوة الفكر، وقوة الكلمة في عملية التغيير الاجتماعي، وعن ذلك تساءل الكاتب قائلا: وماذا يستطيع الفكر أمام جبروت السلطان؟ ليكون الجواب صريحا وحاسما: لا شيء على المدى القصير. لكن الفكر هو بمثابة البذرة التي تنغرس في الأرض، تختمر، تشق أديم الأرض، تتفتق، ثم تكبر رويدا رويدا، إلى أن تصبح دوحا. عامل الزمن مهم. ولكن إذا لم تنغرس الفكرة لم تينع الشجرة ".
ـ سبب التصرفات الرعناء للمستبد: ورد في مقطع من الرواية "لم يكن المنصور أو ابن عامر شخصا وإنما نموذجا. نموذج يستمر في أشخاص آخرين، وأماكن مختلفة، وأزمنة متباينة، وكان سبب التصرفات الرعناء لابن عامر، أو أي مستبد على شاكلة ابن عامر، ضغط نفسي قوي يرين على كل متسلط، كان تعبيرا عن الضعف أو الخوف. كان اللجوء إلى القوة والبطش، والعنف، احتماء من الخوف ومن الهلع الذي يسكن كل متجبر".
ثم يقول في نفس المعنى: "كل حاكم مستبد يقع تحت سطوة الغيرة، والتوجس، والخوف، والأرق، حتى لا يأمن أقرب أقربائه. ليست تلك الأدواء قصرا على المنصور، وإنما هي أعراض المستبد".
ـ المستبد لا تهمه إلا السلطة: كان الذي يهم ابن عامر ـ رمز الاستبداد ـ هو السلطة، ولم يكن الإسلام إلا غطاء أيديولوجيا، و"المستبد يغيض منه الجانب الانساني، ولم يعد يهتم إلا بما يمكن أن يحفظ سلطانه، ويرضي غروره. ومن الأمور التي محت فيه الجانب الإنساني، ما كان يرى من خروج الجماهير تهتف باسمه، ومنها المدائح التي تتلى عليه، ومنها انكساراته كذلك، ومن ثم أضحى ابن عامر (رمز الاستبداد) وحشا ينقض على من يقف أمامه، وآلة تشتغل من غير إحساس، وهي الصفات التي انتقلت إلى مساعديه، كي يصبحوا هم كذلك على شاكلته، وحوشا ضارية، أو آلات طيعة، لم يعد هناك جانب إنساني في عملهم، ولم تعد العلاقة تنبني بين الحاكم والمحكوم إلا على الخوف والمصلحة ".
لا شيء يسمو على كرامة الإنسان. لا أقبل بهذا الثمن، إذا كان هو الثمن الذي تقتضيه تلك المنجزات. ألا يمكن أن تكون من المنجزات التي ينبغي أن يفخر بها الإنسان، منظومة تقر بكرامة الإنسان وحريته، وتقيم العلاقات بناء على المساواة؟ لا تنتهك كرامة أحد، ولا يفتن أحد، ولا يضام أحد..
ـ الشخص الذي يتقرب من السلطان يتأثر بالأحداث أكثر مما يؤثر فيها ذلك أن العالم ابن صمادح (رمز المثقف المستقل) كره نفسه منذ التحق بخدمة المنصور، وكره اليوم الذي مدحه، والقصيدة التي قربته إليه. كان يعتبر قربه من السلطان حظوة، لأنه كان يريد أن يعرف دائرة السلطان، ويأمل أن يؤثر في الأحداث، كان يمتلكه الغرور أنه يستطيع أن يحافظ على مسافة مع الأحداث، والأشخاص، والظواهر، وأن يبقي من ثمة على نزاهته وحريته. كان واهما. كل التجارب التي مر منها، وما أكثرها، لا ترقى إلى تجربته كشخص من خاصة المنصور، كشخص في معمعان السلطان، شخص يتأثر بالأحداث أكثر مما يؤثر فيها".
ـ بنية الاستبداد تحمل نقيضها وتحمل بذور فنائها: تجلى ذلك في قيام الابن عبد الله ضد أبيه السلطان، معترضا على سياسته، فما كان من الخليفة إلا أن قتل فلذة كبده بيده. هنا استخلص الكاتب أن نموذج ابن عامر يحمل بذور فنائه.. وتساءل: أي سلطة ستثبت وهي تقوم على الترهيب والترويع والغيلة والكذب والافتراء؟ ".
ـ المتسلط يوظف الإسلام لمصالحه وأهوائه، وذلك بأن يرفع راية الإسلام وهو لا يبغي إلا استعماله، ويحيل دعوته في الكرامة والعدل إلى و سيلة للقتل والنهب والسلب".
ـ الاستبداد بنية ومنظومة وليس فردا بعينه: لما قتل الحكم بن عبد الرحمان الناصر المسماة هندا تساءل الكاتب على لسان شخص في الرواية قائلا: هل حقا حز رأس هند؟ من الذي أعطى الأمر بذلك؟ الحكم؟ الحكم، الفتى الذي لا يقوى على قتل ذبابة، يقتل ويأمر بالقتل؟ كيف تحول ذاك الفتى الخجول إلى إنسان غليظ القلب؟ ثم استنتج قائلا على لسان شخص آخر من شخوص الرواية: لم يعد يؤاخذ الحكم، ولكن البنية التي أنجبت الحكم.." وفي مقطع أكثر تعبيرا عن هذه البنية: لم يعد المنصور يستمع إلى أحد، ولا يأبه برأي أحد، لا يريد من أي كان إلا أن يكون صدى أو أداة. لقد سكنته لوثة الجنون.
وتساءل ابن صمادح ـ رمز المثقف ـ هل مآل كل طاغية أن يركبه الجنون؟ ما الذي يصنع الجنون؟ عدة عناصر، منها الاستفراد بالسلطة والثروة والرأي، واليد الطولى، والبطش، وعالم الحاشية القائم على التملق، والتزلف، والمديح، والزيف، والخوف. الخوف هو الشعور المسيطر في أي نظام مطلق. يخشى الحاكم من أعدائه، وتخشى الحاشية من نزوات الحاكم وتقلباته، وتخاف الرعية من أزلام الحاكم. ثم يتمخض الجنون من عالم الخوف. يتلازم جنون الحاكم وخنوع الرعية. جنونه يبقي الرعية في الخنوع، وخنوعها يضاعف من جنونه. وفي لغة حاسمة يشدد الكاتب على أنه لا يمكن فصل اليد التي تبطش من خطاب يزين البطش ويمتدح صاحبه. واستدل بمقولة أفلاطون في المدينة الفاضلة التي تفيد أن الطبيب يستأصل العضو المريض كي يبقي الجسد، أما الطاغية فيستأصل العضو الجيد كي يبقي على الجسد المريض..
ـ الحكم المطلق ينبني على انشطار المجتمع: يقول الكاتب: كل حكم مطلق ينبني على انشطار المجتمع، ويسعى في الإبقاء على الانشطار أو تأجيجه، ويجد دعامته في الانشطار. وكل حكم ينبني على عقد اجتماعي لا يتأذى من الاختلاف، وقد يغتني من الاختلاف.
ـ المستبد يحسب أن حسم الأمور يكون بالقوة: يحسب أنه بالقوة يمكن أن يحسم كل شيء. القوة أداة. والسياسة تحل ما لا تستطيعه القوة، بالقوة تفرض رؤيتك على الآخر إلى حين. وبالسياسة تتوصل والآخر إلى حلول وسطى ملزمة لك وله".
بعد هذا الاستعراض لمحورية الحكم والصراع الدموي على السلطة، والتشريح الدقيق لمظاهر وأسباب الاستبداد ونفسية المستبد، أتساءل: هل تدخل هذه الرواية ضمن الأدب السياسي؟ ربما، لكن من الصعب الحسم في ذلك..
ب ـ فكرة الايمان بالإنسان (قدرته، إرادته، طموحه، كرامته): بعد المغامرات المثيرة التي انخرط فيها أحد شخوص الرواية للوصول إلى مطمحه، علق الكاتب بقوله "تبين أن للإنسان قدرات خارقة أمام الأهوال والأخطار لا تخطر على بال، ولا هو يتوقعها في ظروف عادية" إلى أن يقول "من المهم الاعتراف بالإنسان، أيا كان، كي يعطي أحسن ما عنده، ويصبح فاعلا في جماعة".. ثم يؤكد على فكرة غاية في الأهمية مفادها أن الانسان أسمى من أن يختزل في بعد، أو عرق، أو لسان، أو عقيدة، حصره في بعد هو مصدر من مصادر مأساة الإنسان، هو مصدر الحروب والأحقاد". وهنا يجعل الكاتب كرامة الإنسان وحريته فوق كل إنجاز: بسبب جنون السلطان يزج بأشخاص في السجن، وينفى آخرون، وتقطع رؤوس وأرزاق. لتبرير إنجازات. بهذا بنيت الأهرام، ومباني الإغريق والرومان، وإيوان كسرى.. والمعالم التي يفخر بها بنو الإنسان.
هل الأمر عادي، وطبيعي، والضريبة اللازمة للعظمة؟ كلا.
لا شيء يسمو على كرامة الإنسان. لا أقبل بهذا الثمن، إذا كان هو الثمن الذي تقتضيه تلك المنجزات.
ألا يمكن أن تكون من المنجزات التي ينبغي أن يفخر بها الإنسان، منظومة تقر بكرامة الإنسان وحريته، وتقيم العلاقات بناء على المساواة؟ لا تنتهك كرامة أحد، ولا يفتن أحد، ولا يضام أحد..
هو ذا الإنجاز الذي ينبغي للبشرية أن تفخر به.. إن قيل غدا إن عبد الرحمان (رمز من لا يؤمن بالإنسان) بنى وشيد، نفرت من قبري كي أقول إنه ذبح ابنه، وشوه وجه جارية، ويتم أطفالا، وثكل نساء.
العدالة الاجتماعية، المساواة بين جميع الفئات، احترام الحريات العامة والفردية، فتح المجال أمام العقل لينظر ويحلل ويبدع، تملك قيم التسامح والاختلاف المشترك، الايمان بكرامة الانسان، كلها معالم لعالم آخر نحلم به ونسعى إليه.
ت ـ الانتصار للتعددية والتنوع والعيش المشترك: لا يمكن فرض صورة نمطية على كل مكونات مجتمع، لأن كل مكون يحمل ذاكرة وهو نتاج مسار. ولذلك ـ يقول الكاتب ـ أرى ضرورة الاعتراف بالآخر، من أجل بناء عقد اجتماعي "والمكونات الأساسية لمجتمع كريم هي الحرية، والعدالة، والكرامة، وهي ما يحقق زينة الدنيا التي يقول شارحا لها: حينما تعيش أجناس مختلفة، في ذات الرقعة من دون شنآن، أو هيمنة فريق على آخر، فتلك زينة الدنيا، وحين تريد فرض تصور وحيد، فهي تجافيها، الاندلس أو زينة الدنيا على الأصح ليست رقعة جغرافية ولا لحظة تاريخية ذهبية" بل هي " تصور لا يقصي أحدًا، ويعترف لكل أحد بالوجود، والحق في حرية الفكر، ولسان التعبير، واختلاف الرأي، وتعدد العقيدة.
موضوعة الانتصار للعيش المشترك بين بني البشر مبثوثة في الرواية من بدايتها حتى نهايتها، سواء في التركيز على الحي المشترك بين أناس من ديانات مختلفة، أو الأحياء المتجاورة فيما بينها أي الحي المسيحي بجوار الحي اليهودي بجوار أحياء المسلمين، أو الزواج المختلط بينهم، أو في الجامع الأعظم الذي يعج بدروس الفقه، وعلم الكلام، وحلقات النظر، والفلسفة، في جو من الحرية ورحابة الصدر، أو في العادات اليومية في أعماق المجتمع كالأعياد والحفلات.
ج ـ العلاقة بين العرب والأمازيغ (البربر بلغة الرواية )
شكلت هذه التيمة محورا مهما في عدة سياقات من الرواية، ولا يخفى أن لها راهنيتها اليوم في بلدان المغرب الكبير. لقد استطاع الكاتب أن يبرز وضعية البربر المزرية، لكنه اقترح حلولا تمتح من فكرته الأساسية القائمة على الحرية والكرامة والمساواة والعيش المشترك.
عن حال الأمازيغ تصرح الرواية "الأمور سيئة بالنسبة إلى البربر.. ومتى كانت الأمور جيدة بالنسبة إليهم؟ يقومون بالعمل الشاق لفائدة الآخرين.. والآخرون يقطفون ثمار عملهم منذ طارق بن زياد، وللحصول على حقوقهم عليهم أن يتوحدوا. ولكي يتوحدوا عليهم أن يتوحد لسانهم، ولكي يتوحد لسانهم ينبغي أن تكون لهم قضية، ومن المستحيل أن يتوحدوا حول قضية، لأنهم لا يدرون أين تكون البداية، القضية أم اللغة؟"..
وفي خضم التلاسن الذي يقع أحيانا بين العرب والبربر واتهام بعضهم بعضا بشتى النعوت القدحية، كان الجواب شافيا: "الحقيقة توجد عند كل طرف، وليست حكرا على واحد منها، ليس هناك أناس جيدون، وآخرون أشرار، أو جماعة ذكية، وأخرى بليدة أو أقل ذكاء. و"المعرفة هي التي تزيد الانسان فهما، وكلم…
و"المعرفة هي التي تزيد الانسان فهما، وكلما ازداد المرء فهما كلما انهدمت الحواجز التي يقيمها الناس ليفاضلوا بين بني البشر، بين العرب والبربر، بين المسلمين والمسيحيين واليهود، بين من يؤمنون ومن لا يؤمنون"، وحتى في هذه القضية ـ أقصد العرب والبربر ـ فإن الكاتب يجعل أساس المشكل هو الاستبداد الذي لا يميز بين عربي وغير عربي، ولا فرق بينهما حين يرين عليهما الاستبداد الذي ينزع منهما انسانيتهما. وعما إذا كان العرب هم من يزاول الاستبداد؟ كان الجواب مفحما: قد يكون الاستبداد باسم البربر.. ليس هناك أمة لها وضع اعتباري، أو طبع مميز، أو أخرى تسكنها لعنة، نسكن جميعا في هذه الأرض، وينبغي أن نجد الصيغة المثلى للعيش المشترك، عربا وغير عرب، مسلمين وغير مسلمين، ونقارع جميعا الاستبداد "وبعبارة أكثر وضوحا يقول: انتسجت أواصر قوية بين العرب والبربر، في الأندلس وبلاد المغرب، وانصهروا حتى لا يمكن أن يفصل بينهما".
(4)
حاجتنا اليوم إلى زينة الدنيا
هذه قراءة سريعة في رواية زينة الدنيا. الغرض من ذلك المساهمة في إبراز الأفكار العميقة والحداثية التي سعى المؤلف إلى تضمينها فيها، وفي غيرها من أعماله الإبداعية. وهي معاني ما أحوج مجتمعاتنا اليوم إلى تبنيها، ونحن نعيش في عالم بلا معالم.
العدالة الاجتماعية، المساواة بين جميع الفئات، احترام الحريات العامة والفردية، فتح المجال أمام العقل لينظر ويحلل ويبدع، تملك قيم التسامح والاختلاف المشترك، الايمان بكرامة الانسان، كلها معالم لعالم آخر نحلم به ونسعى إليه.
*باحث مغربي
إسلاميو المغرب.. من هموم المرأة الحقيقية إلى الأجندة الدولية
النخب السياسية ومداخل التأثير.. دروس التجربة المغربية
رغم الضربات الموجعة الإخوان ما زالت قائمة.. ما أسرار بقائها؟