لا شك في أن ظهور "سيف الإسلام
القذافي"، مرتديا عباءة والده وهو يقدم أوراق ترشحه للرئاسة، قد أثار حنق وغضب الملايين من الشعب الليبي، الذين ثاروا ضد والده الطاغية المجرم في ثورة عظيمة لم يستطع مواجهتها، فخاف وارتعد من شعبه الذي وصفه بالجرذان، ثم اختبأ في أنبوب للصرف الصحي وخرج منه كالفأر يرتعش ويرتجف طالباً العفو والرحمة، وهو الذي لم يرحم شعبه طيلة ما يزيد عن أربعة عقود، حكم فيها
ليبيا بالحديد والنار، وقهر شعبها وأذله واستحل دمه وماله وعرضه!!
كان مشهداً مستفزاً للغاية، وخاصة أن مَن جاء متحدياً مزهواً بنفسه مختالاً بزي أبيه؛ كان أثناء
الثورة قد أعاد أيضا استخدام وصف أبيه للثوار بـ"الجرذان"، رافعاً إصبعه مهدداً الليبيين بالويل والثبور، فقطعه الثوار بعدما تم القبض عليه، في مشهد لا يقل دراما عن مشهد القبض على أبيه، فقد بدا أشعث أغبر، تائها زائغ البصر لا يصدق ما حوله. فشتان بين المشهدين اللذين مر تفصل بينهما عشر سنوات!!
ماذا جرى في تلك السنوات العشر، والتي غيرت الصورة تماما وبدلت المشهد إلى النقيض كلية؟!
قد يبدو الحال في ليبيا وكأنه كابوس فظيع استيقظ الليبيون عليه مع تقدم الرجلين المطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية للترشح لرئاسة ليبيا، أي أن شبح الماضي الكئيب، بكل ما يحمله من مآس وجراح خلفت آلاماً لا تنسي ولا يمكن أن يمحوها الزمن، عاد ليطارد الليبيين من جديد
الكل يعرف تماماً ماذا حدث للثورة الليبية وكيف تربصت بها دول محور الشر في المنطقة، التي قادت الثورات المضادة ضد
ثورات الربيع العربي، من مركزها الدائم في أبو ظبي، وشاركتها الدول الاستعمارية التي لها أطماع في ليبيا (فرنسا وروسيا) وإرث استعماري قديم (إيطاليا).. تعاونت معا وتضافرت جهودها جميعا لمحاربة الثورة في مهدها، وزرعت الفتن بين الثوار لتقسيم ليبيا وإضعافها.
وحينما لم تستطع هذه الدول وأد الثور، استعانت بالمجرم العقيد المتقاعد "خليفة
حفتر" ليقوم بانقلابه على الحكومة الشرعية، ولكنه فشل تماماً في اقتحام العاصمة طرابلس رغم دعمه اللا محدود بالسلاح والمال والمقاتلين المرتزقة من مجموعة فاغنر الروسية الخاصة، بالإضافة إلى مرتزق تشاديين وسودانيين. وارتكب حفتر العديد من المجازر الوحشية وأصبح مطلوباً للمحكمة الجنائية الدولية، مثله مثل سيف الإسلام القذافي، الذي تحدى المحكمة الجنائية الدولية مستعيراً لفظ والده الشهير "طز في المحكمة الجنائية". ويبدو أن هذا اللفظ قريب للحقيقة، وإلا لما تجرأ أن يرشح نفسه ولم يمسه سوء، أو أن يتم القبض عليه فور خروجه من مخبئه وظهوره علانية أمام العالم!
قد يبدو الحال في ليبيا وكأنه كابوس فظيع استيقظ الليبيون عليه مع تقدم الرجلين المطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية للترشح لرئاسة ليبيا، أي أن شبح الماضي الكئيب، بكل ما يحمله من مآس وجراح خلفت آلاماً لا تنسي ولا يمكن أن يمحوها الزمن، عاد ليطارد الليبيين من جديد في حاضرهم ويحدد مستقبلهم الذي من المؤكد أنه لن يختلف عن ماضيهم كثيراً، حتى لو حاول هذا الماضي أن يتجمل بأدوات تجميل العصر، من حقوق الإنسان وحرية الفكر والتعبير، وما إلى ذلك من أدوات خادعة يسوّق بها نفسه في الانتخابات، وسرعان ما يُلقي بها في أول مزبلة تقابله ليسفر عن وجهه الفاشي الحقيقي، ويدشن لحكم ديكتاتوري مستبد. وليس قيس سعيد في تونس ببعيد عنا.
وقد اختار "سيف الإسلام القذافي" مدينة "سبها"، حيث عشيرته وعائلته، ليعلن منها ترشحه للرئاسة، وما أدراك ما "سبها"؟ فقد كان القذافي الأب يُحكم منها قبضته على ليبيا على مدار 42 عاماً، فأراد الابن أن يستمد قوته من حيث كانت قوة وبطش أبيه ليسترجع حكمه، وأمجاد الماضي التي تسكن في وجدانه وتداعب خياله، آملاً أن تعود الأيام الخوالي مرة أخرى، فتقمص شخصية أبيه واقتبس كلامه وحاكى حركاته وارتدي زيه التقليدي؛ ليدغدغ بذلك مشاعر أيتام وأرامل معمر القذافي.
المشهد في ليبيا يبدو ضبابياً أقرب إلى الكوميديا السوداء، فالمجرم المنقلب خليفة حفتر، الذي قتل الآلاف من الشعب الليبي وأحرق الأخضر واليابس، هو أيضا يخاطب الليبيين بالشعب الليبي العظيم، ويقدم نفسه على أنه المنقذ للبلاد
لقد دعا الليبيين إلى التوجه لمكاتب المفوضية العليا للانتخابات لاستلام بطاقاتهم الانتخابية لانتخابه مخاطبهم بكلام أبيه: "أيها الشعب الليبي العظيم.. قد دقت ساعة الحقيقة". ولا زلنا نتذكر كلمات القذافي الأب أثناء الثورة: "دقت ساعة الحقيقة، دقت ساعة الزحف دقت ساعة الانتصار"، ولكنه لم يتمكن من الزحف ولم يحقق الانتصار، فهل سيواصل ابنه الزحف ويحقق الانتصار وينتقم لأبيه؟! وهل سيمكنه الشعب الليبي بعد كل تضحياته الجسام من تحقيق ذلك لتضيع دماء شهدائه هدراً؟!
إن المشهد في ليبيا يبدو ضبابياً أقرب إلى الكوميديا السوداء، فالمجرم المنقلب خليفة حفتر، الذي قتل الآلاف من الشعب الليبي وأحرق الأخضر واليابس، هو أيضا يخاطب الليبيين بالشعب الليبي العظيم، ويقدم نفسه على أنه المنقذ للبلاد والعباد، وليس طالبا للسلطة!
إن القانون الذي سنه رئيس مجلس النواب "عقيلة صالح"، ولم يمرر مجلس الدولة مفصل على مقاس
القذافي الابن والمجرم حفتر، ويقصي أقوى منافس لهما من الترشح، وهو رئيس الحكومة "عبد الحميد الدبيبة"، لأن المادة 12 من القانون تمنعه من الترشح، إذ تشترط هذه المادة المريبة أن يتوقف المترشح لشغل منصب رئيس البلاد عن عمله في الدولة ثلاثة أشهر قبل تاريخ
إجراء الانتخابات..
لذلك اعتبر
الدبيبة في كلمة ألقاها "أن الانتخابات مفصلة على مقاس أشخاص بعينهم"، منبها إلى خطورة "تآمر طبقات سياسية تريد أن تتحكم في سيادة الليبيين وثرواتهم"..
وسط هذا المشهد السيريالي تصر الدول الغربية على إجراء الانتخابات في نهاية الشهر القادم، قبل أن يصدر الدستور ويقرر الشعب نوع الدولة التي يريدها ونظامها.. هل تكون جمهورية رئاسية أم برلمانية؟ وهل يفضل النظام الفيدرالي أم نظام الدولة المركزية؟ وقبل أن يتم تحديد صلاحيات السلطة التنفيذية ويضع ضوابط لمنع تداخل السلطات بعضها ببعض، وما إلى ذلك. فالانتخابات المزمع إجراؤها ليس لها أي أسس دستورية، وهذا ما عبر عنه الدبيبة قائلاً: "إن الليبيين مقبلون على انتخابات لا دستور فيها"، كما خرجت الجماهير في مظاهرات عدة رافضة لإجراء انتخابات بدون دستور..
وسط هذا المشهد السيريالي تصر الدول الغربية على إجراء الانتخابات في نهاية الشهر القادم، قبل أن يصدر الدستور ويقرر الشعب نوع الدولة التي يريدها ونظامها.. هل تكون جمهورية رئاسية أم برلمانية؟ وهل يفضل النظام الفيدرالي أم نظام الدولة المركزية؟ وقبل أن يتم تحديد صلاحيات السلطة التنفيذية ويضع ضوابط لمنع تداخل السلطات بعضها ببعض
ولنا أن نتساءل: لماذا يتحمس الغرب بشدة لإجراء الانتخابات في ليبيا، وآخرها المؤتمر الدولي الخاص بليبيا، الذي عقد في باريس قبل أسبوعين لتقديم الدعم للانتخابات الرئاسية، بينما يتلكأ بهذه الخطوة في السودان ويحثه على إعطاء مهلة لفترة انتقالية في البلاد؟!
فلماذا لم يفعل الغرب نفس الشيء في السودان ويطالب بانتخابات فورية؟ أو العكس ويعطوا المجلس الرئاسي الليبي الجديد وحكومة الوحدة الوطنية، مهلة ترتب فيها أوضاع البلاد وتهيئها لانتخابات حرة نزيهة، بعيداً عن أي ضغوطات وعواطف لا تأتي بنتائج سليمة تعبر عن رغبات الشعب الحقيقية؟
عادة لا إجابة لأي من تساؤلاتنا حول
موقف المجتمع الدولي، فهو مجتمع يكيل بمكيالين مختلفين تماما طبقا لأهوائه، مجتمع أعور ينظر بعين واحدة لمصلحته فقط. وليت حكامنا يفهمون ذلك رغم كل ما يلاقونه من ضياع لحقوقنا، ولكنهم للأسف لا يتعلمون من كل أخطائهم المتوالية والتي تقع كوارثها على شعوبهم الذين يدفعون دائما الثمن، فهم (الحكام) في حماية هذا المجتمع الدولي المنافق!
على كل حال، لقد ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن الانتخابات لم تعد شأناً ليبيا خالصاً، وإنما هي هدف دولي يحقق مصالح العديد من الدول التي تتناغم وتتضارب مصالحها في ليبيا..
أعتقد أنه من السفه أن نتساءل أين جامعة الدول العربية مما يحدث في ليبيا أو في غيرها من المناطق الساخنة في البلدان العربية التي تشهد اضطرابات أو أزمات؟ ولماذا لم تقم بإقامة وتنظيم المؤتمر الخاص بليبيا؟ فالجامعة العربية بالنسبة لنا قد ماتت منذ أمد بعيد، وأمينها العام لا يصحو إلا على صوت قاتليها في السعودية والإمارات. وهاتان الدولتان تسيران في الركب الدولي وتنفذان ما يطلبه منهما، فلماذا يزعجون الأمين العام ويقلقون منامه؟! فقط يقلقونه ويوقظونه إذا كان الأمر متعلقاً بتركيا وإيران، وحاشا لله إن كان الأمر متعلقا بالكيان الصهيوني، فلا أذن سمعت ولا عين رأت، فليبق نائما حتى ينهي الصهاينة مهمتهم العدوانية في غزة أو في القدس!!
ماذا نفعل وقد أصبح حال الأمة كله مؤسف؟ ألا نأسف على أن يصبح الكيان الصهيوني هو المعبر الذي يجب أن يسلكه كل طامع بالحكم في بلداننا العربية؟
للأسف.. ولقد تعبت من كتابة هذه الكلمة، ولكن ماذا نفعل وقد أصبح حال الأمة كله مؤسف؟ ألا نأسف على أن يصبح الكيان الصهيوني هو المعبر الذي يجب أن يسلكه كل طامع بالحكم في بلداننا العربية؟ لقد ذهب ابن حفتر إلى تل أبيب لمقابلة المسؤولين الصهاينة كي يضمن دعمهم لأبيه في الوصول إلى سدة الحكم، مع تقديمه شيكا على بياض لتطبيع ليبيا معه فور وصوله للحكم!
وأنا لا أستبعد أن يكون القذافي الابن قد قام بنفس تلك الخطوة من خلال قنوات اتصال خلفية، فهو تربطه علاقات وثيقة بعدد من الشخصيات الصهيونية منذ عهد والده، فقد كان حلقة الاتصال بين القذافي الأب وبين العدو الصهيوني..
أليس من الخزي والعار أن يكون الكيان الصهيوني هو قبلة كل مَن يأمل للوصول للحكم، وكل حاكم للحفاظ على كرسيه عليه أن يذهب لتل أبيب لأخذ البركات ويركع للصهاينة ويؤدي فروض الطاعة والولاء لعلهم يرضون وينعمون عليه بالكرسي؟ بئس هذا الكرسي الملطخ بدماء الشهداء، وبئس هؤلاء الحكام الأذلاء الخونة!!
twitter.com/amiraaboelfetou