آراء ثقافية

"الانتحار" كسُّلْوَةِ

الانتحار - فورين بوليسي

ما الذي ألجأني إلى الخوض في هذا؟


سألت نفسي عندما عجزت عن متابعة قراءة ومشاهدة تفاصيل وقائع محاكمة، جرت الاثنين الماضي، في مدينة المنصورة، وتسبب عجزي هذا، في حيرة حيث لم أعد أتذكر لماذا بحثت وحفظت هذا الكم من الموضوعات المنشورة في مواقع إخبارية والمقاطع المصورة العديدة التي تصور المحاكمة.

فقلت: لأجرب حكمة الحرفي الماهر: ترتيب كل من الفك والتركيب متعاكسين، فأخر ما تركبه، هو أول ما تفكه، والعكس.


وهكذا استعدت المسار معكوسا، ووصلت للبداية.

كنت أعاود قراءة "الانتحار" في ترجمته العربية، فقد قرأت كتاب إميل دوركهايم، المنشور في أصله الفرنسي عام 1897، منذ سنوات، وقدرت أنه على الرغم من المسافة الزمنية، الكبيرة نسبيا، بين كتابته وقراءتي له، فإن الإبداع في البحث الاجتماعي، بالمنهج العلمي، ظل محتفظا بفاعليته. وسبب عودتي إلى "الانتحار" لم يكن متعلقا بموضوعه الرئيسي، بل لأني كنت بصدد قراءة مقال طويل عن الاقتصاد المصري، وقد أشار الكاتب في هامش إلى أن بعض خبراء البنك الدولى يستندون إلى "اللامعيارية" التي ذكرها دوركهايم في كتابه، كأحد الأسباب في "معضلة" سبب قيام الثورة المصرية في 25 يناير، وقلت: ما الحاجة إلى قراءة الكتاب كله لأجد "اللامعيارية" التي يستندون إليها، فلأقلب صفحاته، لعل المصادفة تهديني إلى الموقع الذي ترد فيه فأقف على نصه، بنصه. ولكن التقليب لم يجدي، فقلت: في المعاودة فوائد جمة، لعل أبرزها هو مقارنة التأثير الماضي بالتأثير الجديد الذي ستحدثه المعاودة، وبدأت القراءة.

بعد ساعتين من القراءة المتواصلة توقفت، وخطر لي أن أرى كيف هي ملاحظات دوركهايم في الواقع، وأين سأقع على هذا الواقع إلا عبر الحاسوب (كتبت الجملة الآن وتوقفت لدقائق أفكر: أي بؤس هذا حين أتخيل أن "الواقع" أضحى بهذه الأبعاد، وقلت: سجل هذه وأتركها لوقت آخر) وكتبت: انتحار مصر، كنت أقصد بالطبع البحث عن وقائع الانتحار، وكنت أنوي أن أحدد لمحرك البحث "الزمن" وقدرت أن شهرا كافيا، لكن صديقي (محرك البحث جوجل) قذف بسرعة مذهلة، كعادته بهذا العنوان: "رسالة خطية تكشف ملابسات انتحار مقيم مصري بالكويت"، قرأت الأسطر الأولى، وحفظت المنشور، ثم دخلت في حركات آلية، وعنوان يفضى إلى عنوان، وجريمة إلى أخرى، ثلاث ساعات، دون لحظة توقف، حتى تملكت مني الحيرة: ما الذي ألجأني إلى الخوض في هذا؟

في صباح اليوم التالي عاينت الحصاد، بمزاج رائق، نسبيا، ووجدت عجائب في الملف.

عناوين لا رابط ظاهر بينها: "وزير المالية: الوطنية للصحافة طلبت دعم 700 مليون جنيه سنويا". "الصحافة و"النواب" ومخالفة الدستور" (محمد سعد عبد الحفيظ). "العنف وجرائمه فى مصر" (جورج إسحاق). وعشرات على نفس المنوال: مقالات رأي، وتحقيقات، وكتب بصيغة "بي دي إف"، ورحت أبحث عن خيط ناظم، فكيف لي أن أتصرف بطريقة آلية بحتة هكذا، هذا على أخف وصف إهدار، لابد من تنظيم، ومنهج، فقلت: لا بد أن هناك ما هو مشترك بين كل هذا، وقلت لأجرب فلو عثرت على ثلاثة عناوين عن نفس الموضوع ستكون الآلية العشوائية لها بعض الفائدة، ووجدتها: محاكمة المنصورة.

ففي نفس الموقع الخبري، الذي يمكن استعراض عناوينه كلها في أقل من خمس دقائق، كان هناك ثلاثة موضوعات، منها عنوانان يفصل بين نشر الأول (بدء ثاني جلسات محاكمة إمام وخطيب متهم بهتك عرض طفلة في منزله بالدقهلية) والثاني (جنايات المنصورة: المؤبد لإمام وخطيب مسجد هتك عرض طفلة بالدقهلية) أقل من ساعتين، فتسألت: هل هذا موضوع له هذا القدر من الأهمية الخبرية، فبحثت وحفظت وتكون الملف الهائل الثاني.

وكنت ما أزل مع "الانتحار"، كمنهج وطريقة تفكير، فقلت: في جنايات المنصورة جريمة هائلة البشاعة، لكن التغطية الإعلامية، هي ما يستحق البحث، لكن قبل البحث في هذه المسألة ورد لذهني أن هناك أكثر من جريمة اجتماعية أسبق في الحدوث، وأعمق في الآثر، ولكنها لا تبدو مدانة بالقدر الكافي، ومرتكبوها كثر، في مقدمتهم الدولة، بذات نفسها، ذلك أني توقفت عند معلومتين: الأم عمرها 27 سنة، والضحية (ابنتها) عمرها 12 سنة، فمتى تزوجت؟ تزوجت وهي طفلة، من المحتمل في عمر لا يزيد كثيرا عن عمر ابنتها، ثم أن الابنة يتيمة، توفي أبوها قبل أربع سنوات، والأم فقيرة، تسعى على رزقها كيفما تقدرها مقوماتها (تزوجت طفلة، فهل تعلمت، هل تجيد القراءة والكتابة أم انها أمية؟).


توقفت أيضا عند سيل المناصب والرتب والأسماء: هيئة المحكمة بأسمائهم تتصدر الخبرين: المستشارون وأمانة السر، والمحامي العام الأول لنيابات جنوب الدقهلية، ورئيس مباحاث المركز، ومدير المديرية، ولا ذكر لأحد من هيئة الدفاع!

الفرق بين نص الخبرين أربع كلمات فقط: قررت (بدلا من أجلت)، ومنطوق الحكم (السجن المؤبد).

توقفت أيضا عند البث المباشر لأحد المواقع الخبرية الشهيرة ولمدة أكثر من نصف ساعة، وفكرت في ما ذكره عبد الحفيظ "في مايو الماضي أحالت الحكومة مشروع قانون بتعديل بعض أحكام قانون العقوبات، التعديلات كانت تتضمن عقوبات سالبة للحريات. مشروع التعديل تضمن مادة تعاقب بالحبس والغرامة كل من صوّر أو سجل أو بث أو نشر أو عرض كلمات أو صورا لوقائع جلسة مخصصة لنظر دعوى جنائية أثناء انعقادها بأى وسيلة كانت، دون تصريح...أثناء مناقشة تلك المادة فى البرلمان انتبه السادة النواب إلى أن النص الحكومي به مخالفة دستورية صريحة، فتم إلغاء عقوبة الحبس، بينما اكتفى المجلس بعقوبة الغرامة المالية وهي ليست بقليلة".

ثم توقفت عند ما ذكره تاليا: "ترسانة القوانين السالبة للحريات والمقيدة لاستقلال وسائل الإعلام، وضعت مصر في ذيل الدول التى تحترم حرية الصحافة في معظم التقارير الدولية المعنية بقياس حال الصحافة والإعلام وحرية الرأى والتعبير، فتصنيف مصر في آخر تقرير لمنظمة «مراسلون بلا حدود»، جاء في المرتبة 166 ضمن 180 دولة حول العالم شملها التقرير".

فتولدت هواجس، وثار حدس: هل هناك تعمد في إظهار أخبار الجريمة بصور هائلة؟ أم أن الجرائم كما ذكر إسحاق "أصبحت منتشرة بشكل كبير، وليس من المعقول أن تُبرر هذه الجرائم وفقا للحالة المزاجية أو العصبية التى مر بها الجانى، فهناك الكثير من الأسباب التى تؤدى إلى العنف والقتل".

ثم أعادني إلى الكويت ما ذكره، إسحاق عن "الحادثة الأغرب والمثيرة للجدل أن اثنين من طلاب الجامعة، أحدها فى كلية الطب والآخر فى كلية الهندسة، استأجرا غرفة فى أحد الفنادق بمدينة الإسكندرية وقررا الانتحار لأنهما لا يستطيعان العيش فى مجتمع يسوده الكذب والظلم.. ألا تستدعى هذه الظاهرة دراسة جادة لهذا الجيل الشاب الذى يعتبر ثروة مصر القومية! هل تمر مصر من هذه الحادثة دون أن تتواصل كل الأجهزة مع الشباب لمعرفة ماذا يضايقهم فى حياتهم المعيشية؟.. لو أجرينا استفتاء بين الشباب لوجدنا أن أغلبهم غير راض عن حياته".


ففي رسالته إلى ابنته (كما ذكرت الصحف الكويتية) أشار المنتحر الخمسيني إلى "عدم استطاعته العيش، ولم يعد بإمكانه أن يوفر لأسرته سبل العيش في نفس المستوى الذي اعتادوا عليه، خاصة بعد الاستغناء عنه كمستشار قانوني من جهة حكومية".

وكنت لم أصل بعد إلى "اللامعيارية" كما ذكرها دوركهايم، فبحثت عنها، ويمكن أن أصوغها بحيث يبدو خطأي في كتابة "انتحار مصر" كأنه حدس، لكني لا أفضل الانسياق إلى الخاطرة اللغوية الأولى، وأتريث، ولذلك سأكتب: تحليل دوركهايم مرتبط بلحظة رصده التاريخي، بحال الدولة والمجتمع والأسرة والدين وقته، وفي المجتمعات الأورروبية، لكن منهجه ما زال صالحا، وأهم أسس هذا المنهج أن مختلف الظواهر الاجتماعية، حتى تلك التي تبدو نتيجة ظروف "شخصية" وسمات "فردية" هي نتاج وقائع وظروف اجتماعية، مسئول المجتمع بأكمله عنها، وهكذا يهدينا دوركهايم مفهوم اللامعيارية واقترانه بظاهرة الانتحار متعددة الوجوه، ويمكن بالطبع أن يكون نفس المنهج صالحا لمختلف "الجرائم" مع اعتبار لفروقها الموضوعية، أما الانتحار اللامعياري، بحسب دوركهايم، فيحدث عندما تضطرب ضوابط المجتمع، نتيجة متغييرات اقتصادية مؤثرة، وليس مهما ما إذا كانت إيجابية (الانتعاش الاقتصادي، مثلا) أو سلبية (الكساد الاقتصادي، مثلا)، فكلاهما يؤدي لنتيجة اجتماعية واحدة، وهي: ارتباك وتعطل مؤسسات المجمتع الأولية: الأسرية، والدينية، والطبقية، عن الوفاء بدورها "السلطوي" على أعضائها، وبذلك تنطلق تيارات اللامعيارية ـ الإحساس بانعدام الجذور وانعدام المعاييرـ وتقود هذه التيارات إلى الزيادة في معدلات الانتحار المعياري. 

ولإزالة الاستغراب التلقائي من الوصول لنتيجة واحدة لواقعين اقتصاديين متضادين: الانتعاش والكساد، يذكر دوركهايم أن النجاح المفاجئ ربما يقود الأفراد بعيداً عن البنيات التقليدية التى نشأوا فيها، فمثلا قد يؤدي النجاح الاقتصادي بالفرد إلى ترك عمله ومسكنه والحي الذي عاش فيه وينتقل إلى طبقة وواقع مغاير، وربما إلى ما هو أبعد اجتماعيا، وهذا ينتج شعورا بالاغتراب، ربما يكون أعقد مما يولده الكساد من متغييرات، والأكثر تعقيدا أن دورات الانتعاش والكساد، بطبيعة النظام الرأسمالي، متعاقبة، فإن نتائج أحدها حين لا تفضي إلى تحقق اجتماعي مستقر، نسبيا، تؤتي آثارا هائلة.

سأكمل "الانتحار"، لكني سأختم، بذكر أنه بين قراءتي الأولى وبين معاودتي هذه الأيام وقع من الأحداث الجسام في حياة المصريين ما لا حصر له، لكني إذ أعود لدوركهايم، انتبه إلى أنه كان يستحيل عليه أن يجرى بحثه من دون تلك التقارير والاحصاءات الدقيقة عن حالات الانتحار، وأتذكر أنه حين قرأته لأول مرة كان كان قد مضى خمسة عشر عاما على توقف وزارة الدخلية المصرية عن نشر تقرير الأمن العام فحتي عام 1996، ظلت مصلحة الأمن العام تصدر تقريرا سنويا، وتبادر بإرساله إلى كل المؤسسات الصحفية والإعلامية، وإلى العلماء والدارسين في المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، وأساتذة علم الإجرام في كليات الآداب بكل الجامعات المصرية، وبدءا من عام 1997، صدرت تعليمات سرية من وزير الداخلية لمصلحة الأمن العام، بحظر توزيع أو إتاحة "تقرير الأمن العام" للاطلاع عليه إلا بإذن مسبق من الإدارة العامة للإعلام بوزارة الداخلية، يحدد فيه مقدم طلب الاطلاع علي التقرير، البيانات التي يريد الحصول عليها، والهدف من حصوله علي هذه البيانات، وقد استند هذا الحظر إلي مبرر عجيب هو: حماية الأمن العام!

وفي السنوات السبع الأخيرة لم يعد أحد يحاول التقدم بمثل هذا الطلب، لأن التجربة أفادت بـ "استحالة" الاستجابة.

كان التقرير الأمن العام يتضمن تصنيفا إحصائيا لكل الجرائم التي وقعت في كل محافظات مصر، سواء كانت جنايات أو جنحا، مصنفة تصنيفا دقيقا حسب نوع الجناية أو الجنحة، وفي غياب مثل هذا التقرير يستحيل إجراء أي بحث علمي عن الجريمة في مصر، ولا يتبقى سوى الانطباعات التي تتولد عن الإعلام.

وإصدار تقرير الأمن العام سنويا إجراء كانت تلتزم به الداخلية منذ وضع خطوطه الإحصائية ومنهجيته الأولى حكمدار القاهرة، البريطاني راسل باشا، الذي شغل المنصب لفترة طويلة للغاية (1918- 1946)، وظلت وزارة الداخلية بعده ملتزمة بمتابعة التقليد العلمي، حتى ظهرت "الحاجة للمنع"، ولم يعد من منهجية إلا الحدس والانطباعات، والخيالات، ومنها تخييل: ماذا سيفيد منهج دوركهايم، وتقليد راسل في ظل المنع؟، بل ماذا سيستفاد منهما لو كانا بيننا في مصر؟، وسأذهب الآن إلى "الانتحار"، كسُّلْوَةِ.