وصف باومان العولمة بأنّها سلبية وضارّة لأنها قائمة على الابتزاز والاحتكار من القوي عسكريا على الأضعف منه
ساهم
عالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان (1925-2017) بمؤلفاته الكثيفة ونظريّاته القيّمة
في نقد الحداثة، لم يكتفِ باومان في نقد الحداثة كنظامٍ سياديّ سياسيّ وفقط، بل توجّه
إلى الحداثة بكافة انشغالاتها المادية والإنسانية. كتب مجموعته الشهيرة المعروفة
"السوائل"، وتحوي 8 مؤلفات، بعناوين (الحداثة السائلة، المراقبة السائلة،
الحب السائل، الحياة السائلة، الأزمنة السائلة، الشر السائل، الثقافة السائلة، الخوف
السائل) تناول فيها تفكيك الحداثة كنظام حياتيّ وإنسانيّ بأوجهها وتفصيلاتها المُختلفة.
نتناول
هنا أبرز ما فَككه في كتاب الخوف السائل، والذي نشره باومان بالإنجليزية عام 2006،
وتمت ترجمته للعربية بواسطة حجاج أبو جبر عام 2017، عن منشورات الشبكة العربية للأبحاث،
في بيروت.
أصل
الخوف
تُشير
دكتورة العلوم السياسة هبة رؤوف عزت وهي التي قدمت الطبعة العربية لمجموعة السوائل،
إلى فكرة الانتقال الذي حدث للخوف في زمن الحداثة، انتقال من وصف الخوف بأنه حالة عامّة
اشتراكيّة، يعتمد المواطن فيها على الدولة لتقليص هذا الخوف، إلى حالة خاصة ضمن مُهمّات
الإنسان الفردانية ولا علاقة للدولة بها، أي إن الدولة تجردت من توفير الوظائف، والتأمينات
الصحية، والأمن، وسبل الحياة الكريمة من مأكل وملبسٍ وكرامة، وأصبح الخلاص من الخوف
مُهمّة الإنسان وحده، عن طريق استئجار شركات الأمن لِحمايته، وتوفير سبل راحته المعيشية
عن طريق أمواله.
في تعريفه
للخوف وأصوله، قال باومان أنّه شعور تتملّكه غريزيا الكائنات الحيّة، الإنسان مثل الحيوان
ينتابه الخوف، إلّا أن الإنسان يمتلك خوفا آخر، لامتيازه بالعقل والإدراك والضمير عن
الحيوان. أيضا شبّه الخوف بالدائرة المُفرغة، إذ ظنّ الإنسان الأوروبي في العصور الوسطى
عند مشارف بدايات الحداثة، أن الخوف سينتهي مع بدايات تحكم العقل في الطبيعة الكونية،
واستطاعة العلم مقاومة أي شعورٍ إنسانيّ يدل على الخوف والقلق، وهذا ما لم يحدث.
في عصرنا
الحالي، وسط أفضل التقنيات الحداثية، وقف العالم كلّه خائفا من فيروس كورونا (كوفيد
19)، الشيء الذي لا يُرى ولكنّه استطاع القضاء على حياة الإنسان وحوّله من كائنٍ يتعايش
يوميا مع محيطه إلى العدم. كما يؤكد زيجمونت أنه يُمكن تدارك الخوف والتصدي له، لكن
عند معرفة شكل وجوده، متى ومن أين يأتي وما حجمه وما قدرات الإنسان لمقاومته، لكن طالما
بقي هذا الخوف مجهولا للإنسان، لن يستطيع الثاني محو هذا الخوف بداخله.
ممّا
نخاف؟
الموت
هو الخوف الأول للإنسان، أي قصة مهما حدثت أو رُويتْ لنا، سيكون بعدها حدثا آخر، سنستمر
ونواصل، أيًا كان الموقف وصعوبته أو استحالته، وحده الموت الذي لا يقبل تلك المُعادلة.
فالإنسان الذي يفقد روحه، يذهب إلى عالم غيبيّ. بعد الموت، يصوّر عقل كل إنسان هذا
العالم حسب إيمانه ومعتقده، فالكثير من الناس يؤمنون بوجود حساب بعد الموت، جنة للفائزين
والذي رضي عنهم الربّ، ونار للخاسرين الذي لم يرضى عنهم. لكن، يبقى هذا الغيب قيد الخوف،
لعدم لمس هذا الغيب بمدلولٍ ماديّ، فلا يستطيع العلم أن يجاوب على سؤال، الروح التي
خرجت من الجسد، أين ذهبت؟ وهل هي الآن فائزة وسعيدة تعيش حياة أُخرى؟ أم أنها تعيسة
شقيّة؟ بغتة الموت أيضا مِن مُسببات الخوف، فلسفة جهلنا بميعاد انتهاء دنيانا شيء مثير
للقلق، لأن الموت هنا يعد خوفا كبيرا ومجهولا متى يأتي وما وراءه.
أما
الشرّ فهو متلازم للخوف، الأول شيء خارجي يولّد شعور داخلي وهو الثاني -أي الخوف-.
والشرَّ هنا شيء مُحيّر في تعريفه كمفهوم ثابت وواضح، فأي القواعد التي نستطيع من خلالها
الحكم على الأفعال بوصفها شرّا أو خيرا. لكن، باومان يفسره بأنّه خرق لِلقواعد الأخلاقية
وفعل الآثام التي من خلالها وبالضرورة يتأذى أنُاس آخرين، والأخلاق هنا مُستمدّة من
التعاليم الإلهية، لذلك أي خرق لها هو شرٌ دنيويّ له حساباته عند الناس وعند الله.
وبعيدا
عن الشرّ البشري المُتمثل في الفعل الأخلاقي للبشر، مثل الكذب والسرقة والقتل والتعذيب،
يوجد الشرّ الكوني مثل الكوارث الطبيعية الكثيرة التي من خلالها يُصاب الناس بالأمراض،
بالعجز، وحتى الموت. وهذه هي المشكلة العصرية التي واجهت الكثيرين، الذين لم يستطيعوا
تفسير هذا الشرّ ووجوده واستطاعته القضاء على الناس بطريقة غير عادلة في الدنيا، ما
أدى لِلانتقال إلى سؤال "وجود الله"، بما أن الله عادل وخيّر، لماذا لم يُوقف
هذا الوحش الشرير عند سعيه للقضاء علينا، وكان الرد من الكثيرين أن الله يعرف الشرّ،
والشر فلسفة من فلسفات الدنيا، تدخل ضمن العقاب والابتلاء، والعدل كفلسفةٍ محققة ليس
له وجود كامل في الحياة الدنيويّة، ولذلك توجد حياة أٌخرويّة لاكتمال العدل والخير
كفلسفة تُعوض الناس عن الشرَّ والظلم الذين قابلوه في دنياهم.
ينتقل
باومان إلى ما سمّاه "الهلع الذي لا يمكن إدارته" ويقصد الهلع -الشرّ- التي
تسببه السلطة بشكلٍ عام، سلطة الحروب، الأنظمة، التي تمتلك الرؤوس النووية وكافة أسلحة
الدمار الشامل القادرة على أن تدمر الكون بما عليه. هذه السلطة فِي قِدمها وحداثيّها
استطاعت أن تٌبيد شعوبا بأكملها عن الطريق القتل أو العزل أو الاستعباد، فشرّ السلطة
هنا بالنسبة للإنسان المُستهدف منها هلعٌ لا يمكن إدارته أو التحكم فيه أو منعه، إذ
لو اتخذت أي سلطة قرار وقوع شرّها على أي إنسان ليس من صفوتها، لن يستطيع أحد إيقاف
تنفيذ هذا الشرّ، وهذا ما نظّر له مفكرون كثيرون انتقدوا سيادة السلطة الحديثة، مثل
أغامبين وفوكو وفرانز فانون وغيرهم.
أهوال
العولمة
وصف
باومان العولمة بأنّها سلبية وضارّة، العولمة التي تأسست وسادت المجتمعات وحوّلتها
إلى قرية صغيرة، وذلك لأن طريقة ربط المُجتمعات هُنا غير عادلة، بل قائمة على الابتزاز
والاحتكار من القوي عسكريا على الأضعف منه، لذلك المجموعة القوية التي تتربّع على عرش
السلطات العسكرية والسياسيّة والاقتصادية، وهم المتنافسون دائما على ثروات الأغلبية
الذين يتم قمعهم دائما بفضل القوة الأمنية التي صنعتها تلك النخبة لحراستها من هؤلاء
المستضعفين.
وممن
ناحية أُخرى، يرى الاجتماعيّ الفرنسي روبرت كاستل (1933-1993) أنّه بالفعل قد قلّت
احتمالات وقوع الشرَّ عن العصور الوسطى وما قبلها، -ويخص هنا الغرب- الولايات المتحدة
الأمريكية وأوروبا، فمن خلال العلم استطاعت السلطات الحالية، التنبؤ بالأمراض، ومعالجتها،
وحتى في الأوبئة الجماعيّة، يستطيع العلم إنقاذ ما يمكن إنقاذه مقارنةً بالماضي، وهو
مُحق في ذلك. فقد حققت منظومة الحداثة الغربية لإنسانها الغربي قدرا كبيرا من النجاة
من الشرّ سواء الكوني أو البشري. لكن، هذا لا يعني تقليل أو محو الخوف لدى الإنسان،
كما قالت هبة عزت في مقدمة الكتاب أن الإنسان مهما ابتعدت عنه احتمالات الشرّ إلّا
أنّه مهووس دائما بالبحث عن الأمان وتقليل شعور الخوف. فالحداثيّ هنا دائما ما يسعى
بشكلٍ فردانيّ، بعدما خصخصت الدولة الخوف، إلى المزيد والمزيد من التنافسيّة بتقليل
شعور الخوف من حوله مقارنة بغيره من الذوات الفردانية الأُخرى التي استطاعت حماية نفسها
بقدرٍ أعلى من غيرها.
نهايةً،
يُقرّ باومان باستحالة الفرار من الخوف والشرَّ، على أن التقليل منهما أمر ليس مستحيلا،
بل وهو واجب على كلٍ من المثقفين بتعاونهم مع المجتمع بكل فئاته، لإنهاء حالة السيطرة
والسيادة من صفوة السلطة وأتباعهم المُستفيدين الوحيدين من النظام الحداثي الذي جعل
الإنسان مادة لا يتملّكها شعور الرضا، وراكضة بشكلٍ دائم حول الشعور بالسعادة واللذّات،
غاضة البصر عن الشرور والأضرار التي تقع على ذواتها أو ذواتٍ أُخرى.