قبل أيام، بث المدون
المصري عبد الله الشريف فيديو بعنوان "
تسريب مستشاري السيسي"، استمعنا فيه إلى اثنين من مستشاري منظومة الانقلاب في مصر (فاروق وميرفت) يتبادلان الحديث عن "عمولات" مليونية تم تحصيلها بالفعل، وملايين أخرى تحدثا عن كيفية تحصيلها، عبر التلاعب في الأوراق الرسمية، وهو ما يسميه المصريون "تستيف الأوراق"، أي ضرورة أن تبدو كل الإجراءات (على الورق) "مظبوطة وتمام".. وبذلك، يكون اللصوص في "أمان تام"!
وهذا الصنف من اللصوص هم أكثر مَن يشعر بالأمان (في مصر) هذه الأيام؛ ولِمَ لا ومنظومة العدالة من شرطة ونيابة وقضاء؛ مشغولة (كليا) بمطاردة "أهل الشر" (حسب تسمية
السيسي لمناهضي الانقلاب على الشرعية الدستورية)، فتقتل منهم مَن تقتل أثناء الاعتقال، وتحاكم مَن تحاكم، وتعدم مَن تعدم، وتسجن مَن تسجن، وكله بـ"الآنون". والمجتمع الدولي يرى ويسمع، ولا يحرك ساكنا، ومن يسمون أنفسهم "معارضة الخارج" باللا شيء مشغولون، والإخوان في انقسامهم غارقون!
بدلا من التحقيق في الواقعة، ومحاسبة أطرافها الذين ينهبون الملايين من قوت الشعب المصري الذي يعيش ثلثاه تحت خط الفقر، استنفرت منظومة الانقلاب أجهزتها كافة؛ لتنفي صحة التسريب
وبدلا من التحقيق في الواقعة، ومحاسبة أطرافها الذين ينهبون الملايين من قوت الشعب المصري الذي يعيش ثلثاه تحت خط الفقر، استنفرت منظومة الانقلاب أجهزتها كافة؛ لتنفي صحة التسريب!.. فقد ظهرت على شاشات الانقلاب شخصيتان اعتادتا النصب والاحتيال "أقرتا واعترفتا" بأنهما طرفا المحادثة المُسربة، كما ظهر شخص ثالث ادعى أنه هو الذي زوّد الشريف بهذا التسريب "المفبرك"!.. وقد نسف الشريف هذه الروايات جميعا، في فيديو لاحق بعنوان "
بلاغ للنائب العام".
كان هذا تسريب مستشاري السيسي، فماذا عن مستشاري الرئيس
مرسي؟
الرئيس مرسي لم يتقاضَ راتبا
على مدى ثماني سنوات خلت، لم تستطع منظومة الانقلاب اتهام الرئيس مرسي (رحمه الله) أو أي شخص من فريقه الرئاسي بـ"شبهة" فساد!.. فمما بات معلوما للكافة، أن الرئيس مرسي لم يكن يتقاضى راتبه الرئاسي (حوالي 30 ألف جنيه وقتذاك)، ولم يكن يتقاضى أية "عمولات" أو "أرباح" أو "بدلات"، وهي كثيرة ومتنوعة بنص "القانون" وتقدر بالملايين. وكان الدكتور أحمد عبد العاطي، مدير مكتب الرئيس، وبعض مساعدي الرئيس يحضرون طعام غداء الرئيس من بيوتهم!
وما لا يعرفه معظم المصريين، أن الذين دخلوا القصر الرئاسي مع الرئيس مرسي، لم يكن يتجاوز عددهم أربعين شخصا (من خمسة آلاف موظف بمؤسسة الرئاسة) تم توظيف ستة منهم فقط (أحدهم كاتب هذه السطور) وذلك لأسباب بيروقراطية، تتعلق بخلو الدرجة الوظيفية المراد إشغالها!.. فمن أين كان هؤلاء الأشخاص يحصلون على المال لتدبير شؤونهم؟!
الذين دخلوا القصر الرئاسي مع الرئيس مرسي، لم يكن يتجاوز عددهم أربعين شخصا (من خمسة آلاف موظف بمؤسسة الرئاسة) تم توظيف ستة منهم فقط (أحدهم كاتب هذه السطور) وذلك لأسباب بيروقراطية
الإجابة بكل وضوح: لم يدخل أي من هؤلاء القصر الرئاسي طمعا في منصب أو مغنم، وإنما دخلوه مع الرئيس؛ ليعينوه على أداء مهمتة التي كلفه بها الشعب تكليفا حقيقيا، من خلال انتخابات شهد العالم بنزاهتها، فكان منهم ميسور الحال الذي استغنى عن راتبه، ومنهم مَن كان أكثر يسرا، فلم يتردد في دفع رواتب معاونيه من جيبه الخاص، ومنهم مَن كان يتلقى مساعدات من عائلته (مثلي)!
حكايتي مع الوظيفة
التحقت برئاسة الجمهورية في أول كانون الثاني/ يناير 2013، بعد أن أنجزت مهمتي مستشاراً إعلاميا في الجمعية التأسيسية لكتابة دستور 2012، على إثر استدعاء عاجل من أحد مستشاري الرئيس.. ويومها، تم تكليفي بملف "اتحاد الإذاعة والتلفزيون" المعروف باسم "ماسبيرو"..
مكثت ثلاثة شهور لا أتقاضى راتبا؛ لأن المعنيين بالتوظيف لم يجدوا درجة وظيفية خالية، تناسب موقعي في الرئاسة، حسب إفادتهم.. فكانت ابنتي حبيبة (استشهدت في مجزرة رابعة العدوية) ترسل لي ما يعينني على تدبير شؤوني، وكانت تعمل صحفية بصحيفة "جلف نيوز" الإماراتية براتب مجزٍ.. وكان من هذه الشؤون، استضافة الشخصيات التي لم يكن ممكنا استضافتها في مكتبي بالرئاسة؛ نظريا لحساسية وظائفها، وكانت الاستضافة تتم في "كافيهات" حي مصر الجديدة باهظة الفواتير..
استمر ذلك حتى داهمتني أزمة قلبية، زرت على إثرها مستشفى "الجمعية الطبية الإسلامية" بمدينة نصر (صادرها الانقلاب لاحقا؛ بحجة أنها تابعة لجماعة إرهابية، أي الإخوان المسلمين)، فأخبرني الطبيب أني بحاجة لتركيب دعامات، ونصحني بإجراء هذه العملية في مستشفى "المقاولون العرب"، وهو مشفى خاص مرتفع التكاليف!.. فمن أين لي بهذه التكاليف؟!
في اليوم التالي، ذهبت إلى مكتبي، وقد بدا عليّ الإعياء الشديد، الأمر الذي أزعج زميلي الدكتور سامح العيسوي (أستاذ مناظير بالقصر العيني تم انتدابه للعمل في الرئاسة) فغادر من فوره، ثم عاد بعد ساعة أو ساعتين ليخبرني بصدور قرار عاجل بتوظيفي؛ كي أتمكن من دخول مستشفى "وادي النيل" التابعة للمخابرات العامة لإجراء ما يلزم.
بعد الانقلاب، جاءني اتصال من رئاسة الجمهورية.. قيل لي خلاله: لقد تم تحويل ملفك لرئاسة الوزراء للتصرف، ويتوجب عليك الحضور لعمل "إخلاء طرف".. ذهبت إلى قصر عابدين.. وهناك، عدّد لي الموظف "امتيازات كثيرة"، ثم سألني: هل استفدت من هذه الامتيازات؟.. وكانت هذه هي المرة الأولى التي أسمع فيها بهذه الامتيازات!
لم يدخل أي من هؤلاء القصر الرئاسي طمعا في منصب أو مغنم، وإنما دخلوه مع الرئيس؛ ليعينوه على أداء مهمتة التي كلفه بها الشعب تكليفا حقيقيا، من خلال انتخابات شهد العالم بنزاهتها
العيسوي يؤسس وحدة الرصد من جيبه الخاص
عندما ذهبت وزميلي الدكتور سامح العيسوي إلى المبنى الذي كان مخصصا لجمال مبارك، في أرض الحرس الجمهوري؛ لتفقده وبحث كيفية الاستفادة منه، وجدنا قاعة مليئة بالحواسيب، ففكرنا أن نضيف إليها "كروت" لاستقبال البث الفضائي، وبذلك نكون قد أنشأنا "وحدة رصد" لما يصدر عن الإعلام المصري الذي لم يكن مصريا!
سألنا العقيد (ش) المسؤول عن المبنى: كم يستغرق تركيب هذه الكروت؟.. فقال من شهر ونصف إلى شهرين؛ وذلك لضرورة عمل مناقصات توريد وتركيب، ثم تشكيل لجنة لفض المظاريف و.. و.. فسألته: كم ثمن هذه الكروت، وكم يستغرق تركيبها إذا توفر ثمنها؟.. فقال: حوالي 10 آلاف جنيه، ويستغرق تركيبها أسبوعا على الأكثر.
فتح الدكتور سامح حقيبته، وأخرج منها المبلغ (وكان ميسور الحال، ورث عن والده شركة مقاولات) وأعطاه للعقيد (ش)، وخلال أسبوع تم تركيب كروت التقاط البث الفضائي، وأسسنا وحدة الرصد الإعلامي بالرئاسة، وتم اختيار عدد من الشباب من الجنسين للقيام بمهمة الرصد، وكان الدكتور العيسوي يصرف لهم رواتب شهرية من "جيبه الخاص"؛ لعدم إمكانية توظيفهم، بسبب النظام البيروقراطي الذي أشرت إليه في ثنايا هذا المقال، ولم يكن ممكنا مطالبة خزينة الرئاسة بهذه المصاريف؛ لأنها لم تُصرف "وفق الأصول"!
twitter.com/AAAzizMisr