لثلاثة فصول ظلت كلمة "الهُرَاء" عالقة في
ذهني؛ فمنذ بداية الربيع الماضي أنشأت ملفا جمعت فيه مادة معتبرة عن "مؤتمر
القاهرة"، وبمرور الأيام تضخم الملف دون تحديد لما سيفضي إليه تراكمها، ومع
الصيف خف الحماس قليلا، وفي الخريف بدلت تسمية الملف وظهر "الهُرَاءُ"؛
ذلك أن شعورا عميقا بالشك بدأ يتسلل إلى طريقة نظري لمثل هذا النزوع، نزوع
المقارنات
التاريخية إلى ما حدث لواقعنا وحالنا كعرب.
ظهر "الهُرَاءُ"، إذا، كشك، وحين دققت معنى
الكلمة تبين لي أنها قد تكون مناسبة كحل وسط: سأمضى في "جمع"
و"تصنيف" المادة، وقد تفعل الأيام معها ما هو جدير بها. ومع دخول الشتاء
نفضت عني الكسل ومضيت أنظر إلى ملفي، وأنا أردد بصوت مسموع لن أقول (هذا ظني) كَلاَم
هُرَاءٍ، أي كَلاَم هَذَيَانٍ، غَيْر خَاضِعٍ لِمَنْطِقٍ، فلست رَجُل هُرَاء، أي
كَثِير الْكَلاَمِ بِلاَ مَعْنىً، لكن الأعوام المائة المنصرمة من حياة العرب تبدو
بالفعل هُرَاء، أي هَذَيانا، كلاما كثيرا فاسدا لا نظام له ولا رابط بين جُمله
وفِقَره، أو كلمات أو عبارات دون معنى لها.
* * *
أنشأت الملف فور قراءة مقال كتبه محمد
عبد المنعم الشاذلي، عضو المجلس
المصري للشئون الخارجية، تحت عنوان "صفحة مطوية من التاريخ.. مؤتمر القاهرة"
(صحيفة "الشروق" المصرية، 11 آذار/ مارس الماضي)، وكان أكثر ما لفت
انتباهي فيه مشاعر الأسف والأسى، والغبطة أيضا.
ففي
الفقرة الأولى يعرض للحدث: "يشهد شهر مارس الجاري، وتحديدا الأيام من 12 إلى
30 منه مئوية حدث طواه النسيان رغم أهميته، وهو مؤتمر القاهرة الذي نظمه وزير
المستعمرات البريطاني آنذاك ونستون تشرشل. وأقيم المؤتمر في معلم من أجمل وأفخم
النماذج المعمارية على نيل القاهرة، وهو فندق سميراميس القديم الذي هدمناه للأسف
بأيدينا".
وفي
الفقرة الثانية يفصل للمشاركين في المؤتمر، معلقا بتقيمات تاريخية حفزتني للبحث
والتقصي: "شارك في المؤتمر إلى جانب تشرشل أساطين ورموز الفكر الإمبريالي البريطاني،
مثل لورانس الذي جعلنا غسيل المخ الغربي نطلق عليه لورانس العرب رغم أنه بلا جدال
لورانس الإمبراطورية البريطانية وأجهزة استخباراتها، وكان يشغل وقتها منصب مستشار
لوزير المستعمرات، إضافة إلى المارشال اللنبي القائد العسكرى الشهير الذي احتل
فلسطين والقدس خلال الحرب العالمية الأولى وكان وقت المؤتمر المندوب السامي البريطاني
في مصر، فضلا عن السير بيرسي كوكس المندوب السامي البريطاني في العراق، والذي شغل
منصب المندوب البريطاني المقيم في منطقة الخليج قبل الحرب العالمية الأولى ووطد
علاقاته مع القبائل العربية والمشايخ، ومنهم ابن سعود وآل الصباح، ونجح في
اجتذابهم إلى جانب بريطانيا وشجعهم على الانشقاق عن الأتراك. وصحب السير بيرسي
كوكس معه سكرتيرته المخلصة جيرترود بيل التي كان لها دور كبير في توطيد الحكم
الهاشمي في العراق، وهي رغم خدمتها الكبيرة للاستعمار البريطاني إلا أني لا أملك
إخفاء إعجابي بها، وهي السيدة التي أجادت لغات عديدة، منها العربية والتركية
والروسية. وكانت فارسة جابت الأرض من الشام إلى القسطنطينية على صهوة جوادها،
وكانت تجيد الرماية والقتل بالسيف، ولقبت في وقتها بأميرة الصحراء. وأغبط بريطانيا
عليها، وأتمنى أن يكون لدينا في عالمنا العربي المئات مثلها. كان حاضرا أيضا السير
هربرت صامويل، المندوب السامي البريطاني في فلسطين".
* *
*
نقلت فقرتين من مقال الشاذلي، ليس فقط اعترافا بفضله في
ما سأكتبه تاليا، بل بالأساس كي أنقل تعبيراته الدالة. ويتبقى أن أنقل من المقال
فقرة ثالثة تمثل "خلاصة" مقال الشاذلي: "نجح مؤتمر
القاهرة في تهدئة الأوضاع التي كانت تهدد بريطانيا، فراضت أبناء الشريف حسين
بتعويض فيصل بعرش العراق بدلا من عرش سوريا، ومنحت عبد الله إمارة شرق الأردن،
ومنحت مصر استقلالا منقوصا لم يحل بينها وبين اقتحام قصر عابدين لإجبار الملك على
تعيين رئيس وزراء ترضى عنه. أما الفلسطينيون الذين تضرروا من وعد بلفور فلم يُسمح
لوفدهم من حضور المؤتمر، ثم مهدوا الأمر للوكالة اليهودية حتى سنحت لهم الفرصة
لإعلان دولة إسرائيل".
* *
*
الوصف الأكثر دقة، وربما "جمالا" لمؤتمر
القاهرة صاغه تشرشل نفسه، ربما تأثرا بأجواء ألف ليلة وليلة، أو ما سمي في بعض
الترجمات الغربية "الليالي العربية"، فإذا كان عدد المشاركين في المؤتمر
أربعين شخصية من وزارة المستعمرات والقادة العسكريين والإدارات البريطانية الاستعمارية
في البلاد العربية، مازحهم وزير المستعمرات قائلا، وهم يستعدون للتموضوع لإلتقاط
صورة تذكارية: "أنا أسد بين أربعين حرامي".
كان "الأربعون حرامي" يحاولون رسم خرائط قسرية
لـ"الشرق الأوسط"، وهو المصطلح الاستعماري الذي يصف رقعة جغرافية بعيدا
عن أي معيار أو مفهوم قومي أو وطني أو اجتماعي أو ثقافي/ حضاري، وقد رسخ في
الذاكرة وأضحت له أسانيده "العلمية" الزائفة، بتوالي الهزائم والنكبات.
وتذكر الموسوعة الفلسطينية أن "إدارة
السياسة البريطانية في الوطن العربي (كانت) قد نُقلت في مطلع سنة 1913 من وزارة
الخارجية إلى وزارة المستعمرات التي تولاها ونستون تشرشل؛ الذي قام بإنشاء دائرة
لشؤون الشرق الأوسط (قبل شهر واحد من انعقاد المؤتمر)، واستدعى لورنس ليكون
مستشاراً رئيساً في الوزارة. وأشار تشرشل في مجلس العموم إلى أن الحكومة
البريطانية قررت عقد مؤتمرين في القاهرة والقدس أوائل آذار/ مارس لغرضين: أولهما
خفض النفقات البريطانية التي يتطلبها وجود الإدارات والحاميات البريطانية في
الشرق، وثانيهما مراجعة الوضع البريطاني في مناطق المشرق العربي ووضع خطط
استعمارية موحدة لمستقبل السياسة البريطانية في تلك المناطق، وإعداد الطرق الجديدة
لإدارتها بمردود أكبر ونفقات أقل".
أما
الدافع الأهم وراء عقد المؤتمر فقد تمثل في البحث عن "حلول" سياسية
لمواجهة مقاومة الوجود (الاحتلال) البريطاني في العراق، وتمثلت مظاهر تلك المقاومة
في: ثورة 1920 في العراق، والتي شارك فيها السنة والشيعة والأكراد في جبهة واحدة،
وقد قمعها الاحتلال البريطاني بوحشية بالغة، حيث "قتلوا خلالها عشرين ألف
عراقي باستخدام مكثف لسلاح الطيران وقصفت الطائرات الثوار لأول مرة بالغازات
السامة من الجو"، وانهيار الحكم العربي في دمشق ووصول الأمير عبد الله إلى
شرقي الأردن، وتهديداته بإثارة حرب ضد الوجود الفرنسي في سوريا، وردود الفعل
العنيفة في فلسطين ضد سياسة إقامة الوطن القومي اليهودي. كل هذا مثّل تهديدا
للوجود الاستعماري استدعى عقد المؤتمر في القاهرة.
وقد
شكل المؤتمر ثلاث لجان، هي: اللجنة المالية واللجنة العسكرية واللجنة السياسية،
والأخيرة أهمها، وقد ترأس تشرشل جلساتها ولعب لورنس الدور الرئيس فيها. وتضمن جدول الأعمال ثلاثة مواضيع، هي: موضوع
الالتزامات البريطانية في "ساحل الإمارات المتصالحة على شاطئ الخليج وعدن"،
وموضوع العراق، وموضوع فلسطين وفيه شرقي الأردن، هذا إلى جانب مسائل عسكرية ومالية
أخرى.
وبحسب
ما جاء في الموسوعة الفلسطينية، فإن "الأمير عبد الله (ابن الشريف حسين) بعث رسالة
إلى تشرشل أثناء انعقاد المؤتمر شرح له فيها الأسباب التي دفعته إلى المجيء إلى
عمان، وأكد أنه لا يحمل أية نية عدوانية ضد فلسطين، وطلب منه مقابلته في فلسطين أو
في أي مكان آخر ليعبر له عن إيمانه بالصداقة المتبادلة، وليشرح له أماني الشعوب
المتعلقة بمستقبل وطنهم". وقد وعده تشرشل بلقائه في القدس.
* *
*
العودة
إلى "مؤتمر القاهرة"، أو إلى "صفحة مطوية من التاريخ" كما
يصفه مقال الشاذلي، تبدو لي هذه الأيام على جانب كبير من الأهمية، فالمقارنة
الأولية بين حال العرب في تلك الأيام وحالهم في هذه اللحظة تظهر مشابهات عجيبة.
فالمقاومة والثورة والرغبة في التغيير والتحرر تبدو الآن أعمق وأكثر إلحاحا، وإذ
نظر المرء إلى هذه الرقعة الجغرافية، وقارنها بباقي بقاع الأرض ستبدو الأعوام المائة
بالفعل في قبضة "الهُبَاء". وهذا ما سأحاول التنقيب فيه.