عقد لقاء ثلاثي عربي لافت في القاهرة الاثنين الماضي؛ ضمّ وزراء الخارجية ومسؤولي المخابرات في
مصر والأردن والسلطة
الفلسطينية. اللقاء جاء سياسيا وفلسطينيا بامتياز كما اتضح من البيان الختامي، مع إشارة إلى أنه امتداد للقاء القمة بين الزعماء، الذي كان قد عقد في القاهرة أيضا أوائل أيلول/ سبتمبر الماضي.
من حيث الشكل، بدا لافتا غياب وزير خارجية
السلطة الفلسطينية رياض المالكي عن اللقاء وحضور وزير الشؤون المدنية وعضو اللجنة المركزية لحركة فتح، حسين الشيخ، بدلا منه. ولم يتم تقديم تفسير علني مقنع لغياب المالكي، ما يؤكد الاستنتاج القائل بأن الشيخ يتصرف في الحقيقة خلال الفترة الأخيرة كوزير خارحية؛ ليس فقط لأنه أحد الأقوياء في حركة فتح، جناح
محمود عباس، وإنما لأنه مسؤول التنسيق والاتصال مع الجانب الإسرائيلي، ما يعطيه ميزة أيضا، تماما كما مسؤول مخابرات السلطة ماجد فرج، الذي يقال في أفضليته لخلافة الرئيس محمود عباس أنه يتمتع بعلاقات جيدة مع إسرائيل وأمريكا طبعا.
ثمة استنتاج آخر مناسب وضروري هنا؛ مفاده أن السياسة العربية للأسف تدار مباشرة من المخابرات والجنرالات، في تعبير صريح عن عسكرة السلطة في العالم العربي بما فيها السلطة، أو للدقة شبه السلطة الفلسطينية
في الشكل والمضمون أيضا، بدا لافتا حضور رؤساء أجهزة المخابرات لقاء يفترض أنه سياسي بامتياز، فإضافة إلى فرج، حضر مسؤول المخابرات المصرية عباس كامل ونظيره الأردني أحمد حسني، ما يؤكد أن اللقاء سياسي أمني. وثمة استنتاج آخر مناسب وضروري هنا؛ مفاده أن السياسة العربية للأسف تدار مباشرة من المخابرات والجنرالات، في تعبير صريح عن عسكرة السلطة في العالم العربي بما فيها السلطة، أو للدقة شبه السلطة الفلسطينية.
في المضمون، وكما جاء في البيان الختامي، فقد جرى نقاش ثلاثة ملفات فلسطينية بامتياز، تمثلت بالتهدئة في فلسطين لا قطاع غزة فقط، وإعادة الإعمار في القطاع وإيجاد أفق سياسي لتحقيق السلام.
كان ثمة ثرثرة إنشائية وزائدة أيضا عن تبادل وجهات النظر في الملفات الإقليمية والقضايا ذات الاهتمام المشترك.
في الحقيقة، تكشف - أو للدقة تفضح - العناوين الثلاثة ليس فقط أجندة اللقاء وما جرى فيه، وإنما أهدافه أيضا.
وفي ما يخص التهدئة في فلسطين، فيمكن اعتبار الأمر الهدف أو أحد الأهداف الرئيسية من الاجتماع، وثمة خشية رسمية عربية وإسرائيلية ودولية من انفجار الأوضاع ليس فقط في غزة، وإنما في الضفة الغربية أيضا بما فيها القدس، مع تصاعد التوتر وتزايد إرهاب وعنف المستوطنين وارتفاع منسوب الغضب الشعبي الفلسطيني، كما رأينا في برقة أخيرا وبيتا وسلوان والشيخ جراح قبل ذلك، واحتمال تحوّله إلى هبة شعبية عارمة. وهذا ما دفع الأطراف للاجتماع والحديث عن تهدئة في فلسطين لا في غزة فقط، كما جرت العادة.
في ما يخص التهدئة في فلسطين، فيمكن اعتبار الأمر الهدف أو أحد الأهداف الرئيسية من الاجتماع، وثمة خشية رسمية عربية وإسرائيلية ودولية من انفجار الأوضاع ليس فقط في غزة، وإنما في الضفة الغربية أيضا بما فيها القدس
كان لافتا طبعا ربط إعادة الاعمار في قطاع غزة بالتهدئة ليس فقط في القطاع، وإنما في الضفة الغربية أيضا. ومن هنا جاء الحديث عن التهدئة الشاملة في فلسطين.
ثمة محاولة واضحة أيضا لدعم قيادة السلطة وتشجيعها على فرض التهدئة في الضفة الغربية، كما إشراكها ولو سياسيا ومعنويا في عملية إعادة الإعمار بغزة، وتسويغ أي خطوات مصرية وحتى أردنية لاحقة بهذا الصدد، والقول إنها تأتي بعلم وإشراك السلطة، وبما يخدم الهدف الرئيسي والمركزي المتمثل بتقويتها وتحقيق التهدئة في فلسطين.
أما الحديث عن الأفق السياسي ودراسة عدد من المقترحات بغرض كسر الجمود الذي تشهده عملية السلام في الوقت الراهن، والإشارة التقليدية إلى حل الدولتين الذي يجسد قيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية المحتلة ضمن حدود حزيران/ يونيو 1967، وفق القانون الدولي ومبادرة السلام العربية؛ فكلام غير دقيق فيه تذاكٍ وخداع للنفس والجمهور، حيث لا أمل أبدا في استئناف عملية السلام على المدى المنظور، كما تعلن الحكومة الإسرائيلية دائما بما فيها جناحها اليساري بالمعنى الإسرائيلي طبعا، وكما تعلن أيضا أمريكا بصفتها الراعي الحصري للعملية، كذلك تم تجاوز وانتهاك المبادرة العربية بشكل فظ في اتفاقيات التطبيع الإبراهيمية التي أيّدتها وتؤيدها القاهرة، وانخرطت عمّان فيها بقوة في الفترة الأخيرة.
الحديث عن العملية السياسة والسلام برمته نظري فقط ودعائي، ويأتي في سياق مسايرة السلطة الفلسطينية وتقويتها ضمن الحفاظ على التهدئة، كما ضمن إضعاف أو تحجيم منافستها حماس، وهي المهام الموكلة للقاهرة وعمان من الولايات المتحدة وإسرائيل.
تبدو الدول العربية فيها وكأنها تؤدي دورا وظيفيا ضمن خطة أمريكية تحديدا، لذلك أتت إشارة البيان الختامي إلى بحث جهود إدارة جو بايدن، الهادفة إلى إنجاح بناء الثقة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، والالتزام بالاتفاقيات الموقعة، علما أن الجهود الأمريكية تنصب أساسا على تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للفلسطينيين في الضفة وغزة، بغرض التهدئة ومنع التصعيد
وللأسف، تبدو الدول العربية فيها وكأنها تؤدي دورا وظيفيا ضمن خطة أمريكية تحديدا، لذلك أتت إشارة البيان الختامي إلى بحث جهود إدارة جو بايدن، الهادفة إلى إنجاح بناء الثقة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، والالتزام بالاتفاقيات الموقعة، علما أن الجهود الأمريكية تنصب أساسا على تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للفلسطينيين في الضفة وغزة، بغرض التهدئة ومنع التصعيد، كما تقول واشنطن علنا، بأمل خلق أجواء تسمح باستئناف عملية التسوية وفق حل الدولتين على المدى البعيد، رغم أنه يبدو بعيدا، كما قال الرئيس جو بايدن أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة أيلول/ سبتمبر الماضي، وحتى مستحيلا في المدى المنظور حسب تعبير السفير الأمريكي لدى إسرائيل توماس نايدز في أثناء مناقشات تعيينه في الكونغرس.
وبناء على المعطيات السابقة كلها، يمكن الاستنتاج أننا أمام استخدام موصوف للقضية الفلسطينية لتحقيق أهداف ومصالح مصرية وأردنية ضيّقة وفئوية لإرضاء إسرائيل وأمريكا، والحصول على دعمهما لمواجهة التآكل في الشرعية والأزمات الداخلية المتفاقمة في البلدين.
وعموما، يعبر اللقاء شكلا ومضمونا عن المشهد السياسي العربي البائس، مع تمكن الثورة المضادة والسعي لتقوية سلطة محمود البائسة أيضا وغير الشرعية والفاقدة للحيلة؛ للحفاظ على سلطات بائسة أخرى في القاهرة وعمان.
يعبر اللقاء شكلا ومضمونا عن المشهد السياسي العربي البائس، مع تمكن الثورة المضادة والسعي لتقوية سلطة محمود البائسة أيضا وغير الشرعية والفاقدة للحيلة؛ للحفاظ على سلطات بائسة أخرى في القاهرة وعمان
وفي هذه النقطة تحديدا، لا بد من تذكر ليس فقط لقاء أيلول/ سبتمبر على مستوى القمة، الذي سعى إلى احتضان السلطة وتقويتها بعد ظهورها ضعيفة وعاجزة ومنفصلة وغير ذات صلة في أثناء هبة القدس ومعركة سيفها، وإنما لقاء آخر لا يقل أهمية أيضا، جرى في كانون ثاني/ يناير الماضي في رام الله، بعد إصدار الرئيس محمود عباس المرسوم الرئاسي القاضي بإجراء الحزمة الانتخابية بالتتابع لا التزامن، حيث هرع عباس كامل وأحمد حسني في اليوم التالي للقاء عباس والضغط باتجاه إعادة القيادي الفتحاوي المفصول محمد دحلان إلى صفوف الحركة؛ بحجة رصّ صفوفها وضمان عدم هزيمتها وفوز حماس، بمعنى الاطمئنان إلى انتخابات معلّبة تعيد إنتاج السلطة البائسة ذاتها. وعندما أيقن عباس استحالة إمكانية حدوث ذلك لأسباب فلسطينية ذاتية وموضوعية، ألغى الانتخابات وهرب من الاستحقاق بحجة عدم موافقة الاحتلال على إجرائها في القدس، في قرار يعبر عن حقيقة السلطة البائسة العاجزة والفاقدة للحيلة. لذلك أيضا لم يكن غريبا ألا نسمع حديثا جديا عن الانتخابات الفلسطينية والمصالحة، باعتبارها حجر الأساس للخروج من الواقع الراهن، والاكتفاء بإشارة عامة وفضفاضة إلى جهود تدعيم الصف الفلسطيني، دون رؤية أو خريطة طريق محددة.
أخيرا، ببساطة واختصار، يمثل اللقاء الثلاثي هروبا موصوفا إلى الأمام لأبعد مدى زمني ممكن، ورغم ذلك وحتما تنتظر الهاوية المجتمعين من حيث المنظومات السلطوية والنهج ولو بعد حين.