استعدادات حثيثة لإطلاق موجة احتجاجات في مدن مختلفة بتونس، استعدادا لتحرك شعبي كبير بالعاصمة يوم الرابع عشر من كانون الثاني/ يناير.. هذا خبر أول، والخبر الثاني أن الانقلاب يستعد لقمع غير مسبوق. اتضح المعسكران بلا لبس، مع شعور عام بأن قنوات الحوار مقطوعة بينهما. اعتقال السيد نور الدين البحيري، الشخص الثاني في حزب
النهضة والعقل المدبر ورجل الحوار فيها منذ زمن ابن علي، قطع آخر قنوات الحوار، حتى أن الرئيس رفض الرد على مكالمة رئيس البرلمان لتهدئة الخواطر والإبقاء على قناة اتصال.
الندوة الصحفية لوزير الداخلية ليلة الرابع من كانون الثاني/ يناير كشفت أنه ليس للانقلاب ملفات تستحق الذهاب إلى القضاء، لقد سقطت المحاكمات الإعلامية قبل الذهاب إلى المحكمة (يمكن لجماعة النهضة مد أرجلهم في المجالس). سنكتب بحذر عن احتمال جميل يوم الرابع عشر يقرب نهاية الانقلاب.
إضراب الجوع كسر حاجز الريبة بين فرقاء السياسة
كتبنا دوما أن عقدة السياسة في
تونس هي التنافي بين طيف واسع من النخبة وبين الإسلاميين، وهي بذرة شريرة انزرعت منذ السبعينات ولم ترتق النخبة إلى تجاوزها، رغم ردهات عمل مشترك ضد الدكتاتورية (مثل حركة 18 تشرين الأول/ أكتوبر 2005). غنائم الثورة كشفت كثيرا من سوء الطباع السياسية وكسرت وحدة خلقتها الثورة، ولكن إضراب الجوع المفتوح في العاصمة كسر حواجز التردد لدى الكثيرين وفتح حوارا حذرا؛ ولكنه مدفوع بشوق حقيقي إلى التجاوز، ونظن به خيرا و/ أو نعلق عليه آمالا.
إضراب الجوع أدخل اضطرابا كبيرا على طمأنينة الانقلاب وحزامه، ونراه يضطرب، وقد ظهر الاضطراب جليا في لسان وزير الداخلية الذي جف في الندوة الصحفية. عمل الإضراب على كسر الاستقطاب (يسار/ ضد إسلاميين)، وأحدث اختراقا حقيقيا في الجدار الصلد، لذلك نرى محاولة إعادة الاستقطاب تفشل. ونظن أن جبهة سياسية ديمقراطية تتشكل بهدوء حذر، هذه الجبهة تستعد لمزيد من التصعيد في الشارع وتفكر في الحسم، خاصة وأن جبهة الانقلاب لا تجد وسائل دفاع فعالة غير استعمال أجهزة الدولة ضد الشارع، ككل دكتاتورية فاقدة للمصداقية والشرعية.
في التصورات الأولية لما بعد الانقلاب والتي تناقش علنا (وهذا ليس تسريبا) حديث عن قوائم ائتلافية تضم فرقاء متفقين على مبادئ الثورة والإنقاذ الفعلي للدولة؛ تنزل انتخابات قادمة لا يشك المتحاورون في حدوثها، وقد يقربها يوم الرابع عشر حتى تصير برنامجا للتنفيذ.
المعولون على مكاسب الانقلاب يكشفون خيبتهم
نعاين انكماش دائرة المتحمسين للانقلاب. هناك إعلاميون مستقلون شعروا بتقلص مساحة الحرية وهم يتمردون، وهناك طبقة الإداريين الصامتة/ المحافظة أصابها ذهول من قانون المالية (مرسوم) وهم يرون علومهم الإدارية تصير عبئا عليهم، فقد تربوا على شكل مستقر للإدارة يعملون داخله بنظام دقيق، وهم يتكلمون الآن عن تخريب قانوني للدولة.
في الأثناء تتحرك لوبيات اقتصادية/ مالية جهوية بالأساس تتوجس من انفجار الشارع، وتحاول الاستباق بفرض بدائل قبل أن تخسر من موالاتها لانقلاب فاشل. يمكن القول إن طبقة رجال المال قد نفضت أيديها من الانقلاب ولا تريد دفع كلفته، وهي تعمل بدورها على ما بعده (لا نراها تعود إلى
الديمقراطية ولكنها لم تعد قطعا مع الانقلاب) وهذه بعض معارك ما بعد الانقلاب.
تقدم استطلاعات رأي مختلفة (وبعضها فاقد لكل مصداقية) نسب رضا عالية عن الرئيس، ولكن إذا كان أنصار الرئيس من طينة الذين يطلقون علينا موجات البذاءة في وسائل التواصل فإننا نرجح أن لا يخرج هؤلاء إلى الشارع للدفاع عن خيارهم، فهم جبناء متخفون وراء أسماء مستعارة أو لعلهم مجرد برمجيات غبية تكتب جملا جاهزة. يبقى شارع الديمقراطية في مواجهة القوة الصلبة؛ التي نراها بعد ندوة الوزير تحولت إلى مسخرة شعبية. ظهور الوزير خيب ظن قواته قبل خصومه، فلا شيء فيه يوحي بقوة القيادة ولا حجتها.
القمع سيرتد على القامع
أن يستعد الشارع للدفاع عن الديمقراطية فهذا حقه ما لم يجنح إلى عنف منفلت، أن تحمي القوة الصلبة المؤسسات فهذا واجبها، لكن إذا قُمعت حركة الشارع بقوة وشراسة كما هو متوقع فإن الثمن سيدفعه الانقلاب، فالعيون عليه من كل الجهات، ونعتقد أنه قد تلقى تحذيرات خارجية تراقب الوضع وتخشى بدورها انفلاته.
نستشعر انغلاق المنقلب عن كل حوار وعدم مبالاته بكل الأصوات المحذرة من القمع في الداخل والخارج، لكن الضغط الهادئ والقوي في آن واحد الذي مارسه إضراب الجوع نقل الأزمة برمتها إلى الانقلاب فجعله يتخبط. الجمل المبتورة التي يتداولها حزامه الإعلامي (وهو نفس حزام ابن علي) تكشف أن سردية التصحيح قد سقطت نهائيا، وأنه يعجز عن تأليف سردية أخرى.
هل سيكون يوم الرابع عشر عيد الثورة الذي حاول الانقلاب إفراغه من مضمونه عيدا ثانيا لها؟ يقول المتفائلون إنه سقط وأن يوم 14 هو يوم الاحتفال العظيم، وأقول بواقعية إن تحرك عيد الثورة سيوجه رسالة قوية وحاسمة وأخيرة للقوة الصلبة لتقرر موقعها القادم، ولا نرى لها موقعا إلا بجانب الشارع الديمقراطي، لتبدأ الترتيبات الجدية لما بعد الانقلاب تحت سقف الدستور. الأيام العشرة القادمة ستكون حاسمة.