لم يعد خافيا مدى تأثير مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة على أفكار الناس وسلوكياتهم، في كافة الحقول والمجالات، لا سيما في المجال الديني، الذي يعجُّ بمئات آلاف المواد المصورة والمكتوبة، والتي يقوم بنشرها تباعا علماء ودعاة وطلبة علم شرعي، ومتدينون عاديون.
ووفقا لمراقبين فإنه يغلب على المواد الدينية المنشورة عبر مواقع ومنصات التواصل الاجتماعي النمطية المعهودة في صورتها الوعظية المباشرة، والاهتمام الشديد بأحاديث فضائل الأعمال، والترهيب من عذاب القبر ويوم القيامة، مع نزوع كثير من تلك المواد إلى الخوض في خلافات الاتجاهات الدينية المختلفة كالأشاعرة والصوفية والسلفية والمعتزلة والشيعة وغير ذلك.
غالب رواد مواقع التواصل الاجتماعي لا تستهويهم المنشورات والمقالات الطويلة، ولا تجذبهم المادة المصورة ذات الرتابة الدينية المعهودة، التي لا تعمد إلى تقديم المحتوى الديني بصورة مكثفة، تتجاوز المقدمات الطويلة، وتتخفف من المفردات الوعظية المتكلفة، وهو ما يقلل أعداد المتابعين والمشاهدين لتلك المواد بحسب ناشطين ومهتمين.
وفي هذا الإطار يصف الأكاديمي والتربوي الأردني، والناشط على مواقع التواصل الاجتماعي، الدكتور محمد الفقيه "الخطاب الديني المعاصر بمجمله بأنه لا يزال يخاطب جيل الشباب، ذاك الجيل المنفتح على كل فضاءات المعرفة من برج عاجٍ، ولا يزال يقدم إجابات القرن الثامن والتاسع عن أسئلة القرن الواحد والعشرين".
محمد الفقيه.. أكاديمي وتربوي أردني
وتابع: "وغالبا ما تكون إجاباتهم إجابات مدرسية؛ مما ترتب على ذلك عزوف الكثير من الشباب عن التفاعل مع الخطاب الديني بصورة إيجابية، بل أكثر من ذلك لقد ظهر في الأونة الأخيرة الحديث عن ظاهرة الردة في بعض المجتمعات الإسلامية" متسائلا "فهل أعدَّ الخطاب الديني المعاصر إجابات واضحة ومقنعة عن كثير من الإشكالات التي يقدمها الشباب"؟.
وردا على سؤال "عربي21" كيف يطور الخطاب الديني أداءه ليكون أكثر تأثيرا في مواقع التواصل الاجتماعي، قال الفقيه "يجب على الخطاب الديني المعاصر النزول من برجه العاجي، وعليه أن يعيش الواقع، وأن يكون ملما بأدوات المعرفة المعاصرة ومصادرها، مع ضرورة الاطلاع على الأيديولوجيات المعاصرة والإلمام بها لتتكون لديه ثقافة واسعة للوقوف على ما تتضمنه من أفكار".
وأضاف: "وعليه أن يكون قادرا على مناقشتها بأسلوب علمي بعيدا عن إصدار الفتاوى المعلبة الجاهزة، وكذلك فإن الخطاب الديني المعاصر يحتاج إلى إعادة النظر في كثير من الفتاوى الجاهزة والمستوردة من أزمنة وأمكنة بعيدة عن واقعنا المعاصر، ذلك أن الأحكام الشرعية والفتاوى هي نتاج تفاعل النص الديني الديني مع الواقع، وبناء على ذلك لا توجد فتاوى صالحة لكل زمان ومكان"، على حد قوله.
من جهتها رأت الباحثة والداعية السورية، الدكتورة لينة الحمصي أن تأثير الخطاب الديني على مواقع التواصل الاجتماعي "منه ما هو سلبي، ومنه ما هو إيجابي"، مضيفة "لكنني بدأت ألاحظ أن آثارة السلبية أكبر بكثير من آثاره الإيجابية، لأن تلك الوسائل أتاحت الفرصة لكل من هب ودب ليكتب وينشر ويناقش ويعلق ويتمادى على الكبار والصغار".
لينة الحمصي.. كاتبة وباحثة سورية
وأردفت: "الخطاب الديني الحاضر والمؤثر يحتاج إلى جمهور حاضر وجاهز للتلقي والتأثر.. حاضر بقلبه وعقله للاستماع والتعلم والتأدب مع المعلم، وهنا تبرز العلاقة الجدلية بين كفاءة المعلم (وهذا صعب في العالم الافتراضي الذي انفتح لكل الناس)، وبين جدية المتعلم الذي أصبح يتخبط بين الغث والسمين، فكاد يزهد بكليهما معا".
وعن أهمية الاهتمام بالمحتوى الديني المقدم، وطريقة عرضه على مواقع التواصل الاجتماعي، لفتت الداعية الحمصي، الناشطة في تقديم مواد دينية مصورة ومكتوبة عبر صفحاتها على تلك المواقع في حديثها لـ"عربي21" إلى أن "قوة التأثير ربما تأتي من الخطاب القصير المركز المبسط، فجمهور الفيسبوك، والواتس اليوم لا يرغب بسماع أو قراءة المطولات".
وتابعت: "لهذا أرى أن على من يريد التصدي للتعليم والتوجيه، وحتى يكون قادرا على النجاح والجذب والتأثير أن يبذل الجهد الكافي، ويتعب على إعداد المادة التي يريد تقديمها، ويجتهد في تلخيصها وتبسيطها، وأن يقدمها بلغة سلسة موضوعوية بسيطة محببة، وأن يحدد جمهوره المستهدف بدقة، لأن لكل جمهور طريقة في الخطاب".
بدوره لاحظ الناشط على مواقع التواصل الاجتماعي، جهاد إبراهيم أن "ما يظهره كثير من الدعاة على مواقع التواصل الاجتماعي في كثير من منشوراتهم وموادهم المصورة من اليقينية القطعية في أطروحاتهم وأحكامهم، يكون له آثار سلبية، لأنها في غالبها من جنس الأمور الظنية، وليست القطعية".
جهاد إبراهيم.. مدون أردني
وأضاف في حواره مع "عربي21": "ذلك الأداء لا يقلل من مصداقيتهم فقط، بل يؤثر على مرجعيتهم الفكرية والعقائدية، وممن نبه من العلماء السابقين على ضرورة التفريق مقامي الظن والقطع في مسائل الدين، إمام الحرمين الجويني الذي يقول في كتابه (غياث الأمم): "قد كثر في أبواب الإمامة الخبط والتخليط، والإفراط والتفريط، والسبب الظاهر في ذلك أن معظم الخائضين في هذا الفن يبتغون مسلك القطع في مجال الظن".
من جانبه قال الباحث الشرعي والداعية الأزهري، الدكتور إبراهيم شاذلي "لا يخفى أن الناس اليوم أصبحوا يقضون أغلب أوقاتهم على وسائل التواصل الاجتماعي، والمنصات الاجتماعية العديدة، وأصبح الدرس الديني التقليدي الذي كنت تذهب إليه، وربما يضيع منك وقت كبير حتى تدركه متاحا اليوم تحت يدك مباشرة".
وعن طرق الاستفادة الكبرى من مثل هذه الوسائل، رأى شاذلي أن ذلك "يتطلب عدة أمور؛ أولها: حسن استغلال هذه الوسائل، ويتأتى ذلك بالتمكن العلمي من مفردات الثقافة الإسلامية وكتب التراث الديني، لا سيما في مجالات التفسير والحديث والتفسير والأصول والتاريخ".
وأردف "لأن الملاحظ على أغلب الذين يدخلون إلى هذه المواقع من الدعاة وأهل الوعظ والنصح هشاشة الطرح الذي يقدمونه، وضعف معالجة القضايا التي تشغل الناس وتأصيلها تأصيلا مناسبا يراعي الإمكانيات والمتاح، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى انسحاب الدعاة والوعاظ بعيدا عن قضايا الشباب ومشكلات المجتمع إلى أحاديث وعظية لا يستطعيون أن يستلهموا منها كيف تعالج الواقع وكيف تشتبك معه".
إبراهيم شاذلي.. باحث شرعي وداعية أزهري
أما الأمر الثاني، تابع الداعية الأزهري شاذلي حديثه لـ"عربي21": "فيدور حول ما ألحاظه من أن الذين تمكنوا من العلم وأصبحت لهم قدم راسخة فيه لا يستطعيون مواكبة الواقع، ولا متطلبات العصر، فخطابهم تقليدي جدا، وبعيد عن الواقع، بل والأخطر في هذا النوع أنه يحاول أن يحاكم الواقع إلى أحداث تاريخية بعينها، وهو ينظر إلى الواقع من خلال هذه الأحداث، ولا ينظر إلى التاريخ من خلال الواقع، فيستفيد منه بقدر حاجة الواقع إلى التاريخ وليس العكس".
وحذر في ختام حديثه من "خطورة طلب الشهرة والظهور، فهي من أخطر ما بثته وسائل التواصل الاجتماعي وكرسته في أذهان الكثيرين، إذ بات بإمكان الإنسان ضعيف الثقافة العلمية أن يمتلك منصة يتابعه من خلالها الآلاف، وهو ما جعل الكثيرين يحرصون على تكثير عدد المتابعين، لتمكينهم من فهم دينهم وإدخاله في حياتهم لمعالجة واقعهم، ما تسبب في تقديم خطاب عاطفي يدغدغ مشاعر الناس، ولا يساهم في الامتثال لقيم الرسالة الحقيقية التي بها وعليها سيحاسب الناس".