حين أتحدث عن رجل الأعمال وإمبراطور
الإعلام في
مصر، المهندس
محمد الأمين، الذي تم القبض عليه وحبسه بتهم أخلاقية، فأنا أتحدث عن معرفة مباشرة بالرجل حتى وإن لم تكن عميقة، حيث عملت معه وبطلب منه في تأسيس صحيفته اليومية "الوطن" التي كان يرأس تحريرها الصحفي مجدي الجلاد.
تلقيت اتصالا هاتفيا ذات يوم من العام 2012 من محمد الأمين يطلب مني التعاون معه في تأسيس صحيفة الوطن التي كان بصدد تأسيسها في ذلك الوقت، كجزء من إمبراطوريته الإعلامية الصاعدة والتي كانت تضم قناة سي بي سي وقناة مودرن وشركة إعلانات، وأخبرني أن ترشيحي جاء من صديق مشترك، وأن الجريدة التي يعتزم تأسيسها ستكون باسم الوطن وستكون لكل أبناء الوطن، وأنه حريص على تمثيل كل التيارات فيها حتى تعبر عن تلك الرؤية.
لم أكن أعرف الرجل معرفة شخصية، لكن اسمه كان قد بدأ في الظهور كرجل أعمال مهتم بالمجال الإعلامي. أبديت له تخوفاتي، وأن الرؤية التي يطرحها رغم معقوليتها الظاهرية وقبولي لها من حيث المبدأ؛ إلا أن شخص رئيس التحرير المقترح (مجدي الجلاد) لن يكون قادرا على تحقيق هذه الرؤية الحالمة، فهو ذو مواقف عدائية واضحة من التيار الإسلامي وخاصة الإخوان، وكان قبل شهور قليلة من ثورة يناير صاحب أكبر جريمة إعلامية بتصوير عرض فني لطلاب الأزهر يحاكون فيه عمليات المقاومة الفلسطينية باعتبار ذلك العرض "مليشيات الإخوان في الأزهر"، وهو ما ترتب عليه فصل وحبس عدد كبير من الطلاب والأساتذة في حينه.
استمع الأمين لملاحظاتي، ثم رد بأن وجودي مع الجلاد سيكون ضامنا لعدم تكرار ذلك، ولتحقيق فكرة التوازن في الطرح الصحفي، وأبلغني أنه اختار شخصيات أخرى من مدارس سياسية ومهنية متنوعة لتكون ضمن هيئة تحرير الجريدة الجديدة، وهو الأسلوب ذاته الذي طبقه على قناته سي بي سي التي اعتمدت بشكل أساسي على المذيعة لميس الحديدي، والمذيع خيري رمضان، وهما من فلول نظام مبارك، وإلى جانبهما شخصيات تمثل ألوان الطيف الثوري حينذاك، ومنهم الشاعر عبد الرحمن يوسف والشيخ مظهر شاهين والدكتور معتز بالله عبد الفتاح وآخرين، وبدت القناة وتاليا الصحيفة وكأنهما صوت الثورة المصرية، قبل أن تتحولا أو يظهر وجههما الحقيقي كونهما خنجرين في خاصرة الثورة.
أعرف مصادر ثروته التي طفت بشكل مباشر، ولم يكن مقنعا أبدا أنها ثروة عصامية كوّنها الرجل من خلال عمله في الكويت لمدة 16 أو عشرين عاما، لقد ظهر مثل النباتات الطفيلية التي تنمو سريعا في أوقات قياسية.
بعد قليل تلقيت اتصالا من مجدي الجلاد يدعوني لزيارته في المكتب لنتحدث بالتفصيل في ما عرضه محمد الأمين، ذهبت إليه وأنا أعرفه قبل ذلك بسنوات مذ كان صحفيا في مجلة الأهرام العربي، وكنت صحفيا بجريدة الشعب، تحدثنا بكل شفافية، وصارحته بجرائمه السابقة ومنها جريمة طلاب الأزهر، وانحيازاته السياسية السافرة ضد التيار الإسلامي الذي أنتمي شخصيا إليه. رد بأننا سنكون أمام صفحة جديدة مختلفة تماما، وأنني سأكون شاهدا وضامنا للتوازن المهني في الجريدة التي زعم أنها ستكون لكل التيارات بدون انحياز لأحد، وطلب مني موافاته أولا بأول بأي ملاحظات على ما تنشره الصحيفة، وهو ما فعلته، وكان سببا في عودة الخلاف بيننا، ورفضي للاستمرار في الجريدة بعد خروجها على الوعود السابقة.
التقيت الأمين مرات قليلة سواء في مكتبه بمبنى الصحيفة ذاته، أو في مناسبات اجتماعية أخرى. كنت حريصا خلال فترة وجودي التي لم تتجاوز ثلاثة شهور أن أعرف سر هذا الرجل الغامض، وأعرف مصادر ثروته التي طفت بشكل مباشر، ولم يكن مقنعا أبدا أنها ثروة عصامية كوّنها الرجل من خلال عمله في الكويت لمدة 16 أو عشرين عاما، لقد ظهر مثل النباتات الطفيلية التي تنمو سريعا في أوقات قياسية. استخدمت كل حواسّي الصحفية لمحاولة معرفة الحقيقة لكنني أعترف أنني فشلت، ورغم ذلك زادت شكوكي حول أصل وفصل تلك الثروة، وأنها ليست ثروته، وأنه مجرد واجهة لشيء آخر، لكنني لم أمسك مستندا على هذا "الشيء" الآخر!!
لم أكن وحدي من فشل في هذه المهمة، ولم يكن الأمين وحده محل تلك الشكوك وإن كان أبرز تلك الحالات، فعقب ثورة يناير مباشرة شهدت مصر انفجارا إعلاميا بعد عقود من الكبت والقمع، تأسست عدة صحف وقنوات، وقفزت رواتب الصحفيين والإعلاميين إلى أرقام قياسية غير مسبوقة (بعضها كان بالملايين)، ولم تكن حصيلة الإعلانات التجارية وهي المصدر الرئيسي لمداخيل تلك القنوات والصحف كافية لتغطية تلك الرواتب والنفقات.
كانت القنوات التلفزيونية والصحف هي مصدر قوة لملاكها من رجال الأعمال في تلك الفترة، وكانت بعض النظم الخليجية المعادية للثورة تستخدم بعضهم كستار لضخ الأموال المسمومة، وبناء ترسانات إعلامية قوية، وكان ذلك يتم غالبا بمعرفة الأجهزة الأمنية
كانت الأرقام التي ترددها حكومة الرئيس مرسي أن جملة إنفاق تلك القنوات تتجاوز ستة مليارات جنيه (مليار دولار بأسعار تلك الفترة)، بينما حصيلة الإعلانات بحدود مليار ونصف المليار جنيه فقط، ما يعني أن هناك فجوة قيمتها 4.5 مليار جنيه هي الأموال المشبوهة التي دخلت إلى سوق الإعلام، ولم تستطع إدارة الرئيس مرسي معرفة مصادرها، لأن الجهات التي تمتلك المعلومات أو يمكنها البحث والتحري، وهي الأجهزة الأمنية والرقابية، كانت ترفض التعاون مع الرئاسة باعتراف بعض قياداتهم لاحقا.
كانت القنوات التلفزيونية والصحف هي مصدر قوة لملاكها من
رجال الأعمال في تلك الفترة، وكانت بعض النظم الخليجية المعادية للثورة تستخدم بعضهم كستار لضخ الأموال المسمومة، وبناء ترسانات إعلامية قوية، وكان ذلك يتم غالبا بمعرفة الأجهزة الأمنية (بعضها ظل صلبا وممسكا بالخيوط مثل المخابرات العامة والحربية، وبعضها تعرض لضربة كبرى مثل أمن الدولة ولكن كبار ضباطه كانوا يعملون مستشارين لتلك الدول)، وكانت خطة الخداع الاستراتيجي تقضي بأن تبالغ تلك القنوات والصحف ذات التمويل المسمم في الولاء للثورة والثوار، فتظهر أمام الرأي العام كأنها الصوت الأكثر تطرفا ثوريا، لتكون الخطوة التالية هي تشويه الثورة بطريقة ممنهجة، وصولا إلى حشد الناس للانقلاب عليها، وعلى مكاسبها، وأهمها الدستور الجديد والرئيس المدني المنتخب. وقد مثلت تلك القنوات مع ملاكها، وبعض ضيوفها ونجومها الغطاء المدني للانقلاب العسكري في 3 تموز/ يوليو 2013.
في الفترة الأولى لحكم الرئيس مرسي كان محمد الأمين وغيره من رجال الأعمال حريصون على التزلف للإخوان، والتواصل معهم، وخاصة من خلال المرشد السابق مهدي عاكف، ولكنهم أظهروا الوجه الآخر بمجرد أن حددت ماكينة الانقلاب موعدا للتنفيذ، فسخّروا أموالهم وقنواتهم وموظفيهم في تلك الجولة.
عقب الانقلاب العسكري كان محمد الأمين ومن على شاكلته من رجال الأعمال ملاك القنوات يشعرون بالزهو، وأنهم أصحاب الفضل في إزاحة الإخوان، وإيصال السيسي إلى الحكم. كانوا يبالغون في الشعور بقوتهم، متجاهلين أن الفاعل الحقيقي هو الجيش وليست قنواتهم التي كانت مجرد بوق للحشد والتعبئة
كان مقر شركة محمد الأمين في منطقة الدقي، والتي تضم أيضا مكاتب جريدة الوطن حيث كنت أعمل، أحد مراكز الثورة المضادة، وهذا ما لاحظته مبكرا، ومع اعتراضي أيضا على السياسات التحريرية والتغطيات الصحفية المعادية للرئيس بشكل فظ، فكان ذلك سببا كافيا للافتراق. ولا أنسى يوم إعلان نتيجة الانتخابات الرئاسية في جولة الإعادة بين الدكتور مرسي والفريق أحمد شفيق، وكيف تحولت مكاتب الجريدة إلى سرادق عزاء بعد تلك النتيجة. لقد كان غالبية المسئولين في الجريدة وهم في نفس الوقت المسئولين التحريريين عن القناة التلفزيونية؛ ركنا ركينا في حملة الفريق شفيق، بينما كنت مستشارا إعلاميا في حملة مرسي. وقد مكنتني زمالتهم من معرفة طرق تفكيرهم، وتوقعت أنهم سيبادرون لإعلان نتيجة الانتخابات صباح اليوم التالي للانتخابات بفوز أحمد شفيق دون أرقام حقيقية، ليضعوا حملة مرسي في أزمة، فكانت نصيحتي لإدارة حملة مرسي بإعلان النتيجة في وقت مبكر بما تجمّع لدينا من محاضر فرز حقيقية، وهو ما حدث فعلا الساعة الرابعة فجر اليوم التالي، وهو ما أفشل الخطة المضادة مبكرا.
عقب الانقلاب العسكري كان محمد الأمين ومن على شاكلته من رجال الأعمال ملاك القنوات يشعرون بالزهو، وأنهم أصحاب الفضل في إزاحة الإخوان، وإيصال
السيسي إلى الحكم. كانوا يبالغون في الشعور بقوتهم، متجاهلين أن الفاعل الحقيقي هو الجيش وليست قنواتهم التي كانت مجرد بوق للحشد والتعبئة. وبدأت الرسائل المشفرة بينهم وبين السيسي الذي كرر أكثر من مرة أنه لا يحمل فواتير مستحقة لأحد، وكان يقصدهم مع آخرين في الداخل والخارج، بل إنه عمد للتخلص تباعا من أبرز الوجوه الإعلامية التي كانت تنتفخ بتلك القناعات. وكان رد القنوات وملاكها على السيسي هو إظهار اللجان الخاوية مرتين، في الاستفتاء على الدستور يناير 2014، وفي الانتخابات الرئاسية للسيسي نفسه تاليا. وأسرّها السيسي في نفسه، لكنه بدأ تجهيز خطته للانتقام منهم، وكانت البداية بإجبارهم على دفع أتاوات كبيرة لصندوق السيسي"تحيا مصر"، ثم كانت الخطوة التالية هي إجبارهم على التخلي عن قنواتهم وصحفهم، ونقل ملكيتها بأثمان بخسة أو ربما بلا ثمن للشركات التي أنشأتها المخابرات، وتم دمجها أخيرا في شركة واحدة هي الشركة المتحدة التي أصبحت تهيمن على 90 في المائة من وسائل الإعلام والإعلان وسوق الترفيه والدراما في مصر.
ضمن هذه الخطة تم الاستيلاء على مجموعة قنوات وصحف محمد الأمين (سي بي سي، ومودرن، وجريدة الوطن.. الخ) التي كانت تمثل درة الإعلام الخاص في مصر بعد الثورة، كما تمت السيطرة على مجموعة قنوات الحياة لصاحبها السيد البدوي، رئيس حزب الوفد الذي أجبر على اعتزال السياسة أيضا، وتكرر الأمر مع رجل الأعمال نجيب ساويرس الذي أجبر على التخلي عن قنوات "أون تي في" والتنازل عن حصته في جريدة المصري اليوم، كما تمت السيطرة عبر عناصر قريبة من الأجهزة الأمنية على الحزب الذي أسسه "المصريين الأحرار"، وإن لم يستطع النظام فعل المزيد له نظرا لما يتمتع به من دعم دولي.
تبدو المعركة عاصفة داخل معسكر الانقلاب، ويسابق السيسي الزمن للتخلص من أكبر داعمي حكمه خاصة في مراحله الأولى، وهو يسعى لبناء دولته الجديدة بعاصمتها ورموزها وعلمها ونشيدها ودستورها
وكانت أحدث الحلقات في هذه الخطة هي إجبار رجل الأعمال صلاح دياب على بيع صحيفة المصري اليوم للشركة المتحدة التابعة للمخابرات، بعد حبسه لبعض الوقت بتهم تجارية وتهديده بغلق شركاته، وكذا إجبار رجل الأعمال حسن راتب على التخلي عن شبكة قنوات المحور للشركة ذاتها قبل أن يتم الزج به في السجن بتهمة الاتجار غير الشرعي في الآثار. واليوم يلحق به محمد الأمين في السجن بتهم الاتجار في البشر، وقبل أيام تم القبض على الإعلامي توفيق عكاشة، صاحب قناة الفراعين الذي كان يصف نفسه بـ"مفجر ثورة 30 يونيو"، بتهم جنائية أيضا، كما تم إجبار رجل الأعمال أحمد أبو هشيمة على ترك جريدة وموقع اليوم السابع، وإبعاد خالد صلاح من رئاسته للجريدة، وتم إجباره على التنازل عن شركته حديد المصريين لغريمه السابق أحمد عز، أحد رموز عهد مبارك، والحبل على الجرار كما يقولون.
تبدو المعركة عاصفة داخل معسكر الانقلاب، ويسابق السيسي الزمن للتخلص من أكبر داعمي حكمه خاصة في مراحله الأولى، وهو يسعى لبناء دولته الجديدة بعاصمتها ورموزها وعلمها ونشيدها ودستورها. كما أن مجال الأعمال في هذه الدولة الجديدة سيكون مرتكزا على الجيش، مع السماح لشركات القطاع الخاص بالحصول على الفتات مما يرغب عنه الجيش، على أن يكون ذلك في الغالب بأوامر مباشرة، وبأسعار غير عادلة، لا يملك رجال الأعمال حق رفضها.
معركة التصفيات التي يقودها السيسي ضد رجال الأعمال ونفوذهم، سواء المالي أو الإعلامي، ستستمر لبعض الوقت، لكن هل سيظل هؤلاء المليارديرات مكتوفي الأيدي في مواجهته؟ الأيام ستجيب.. وحتى ذلك الوقت فإن الشعب يتفرج ويسعد، ويدعو "اللهم أهلك الظالمين بالظالمين وأخرجنا من بينهم سالمين".
twitter.com/kotbelaraby