رغم أن كل هذه العهود التي مرت على
مصر تصدرها رؤساء من خلفية عسكرية، بخلاف السنة اليتيمة للرئيس المدني د. محمد مرسي، رحمه الله، لكن هذه الطبيعة العسكرية لم تمنع من وجود حراك فكري ثقافي أدبي، في عهود ثلاثة:
ففي عهد عبد الناصر، رغم هيمنة الدولة على كل المؤسسات عبر تأميمها وتواجد الضباط فيها، لكن هذا لم يمنع أن تقود الدولة بوصلة
الثقافة عبر نشاط واسع، من خلال سلاسل ثقافية تصدرها دور النشر الحكومية بأسعار زهيدة، ومن خلال إنشاء إذاعة القرآن الكريم، وتوسع دور مصر رسميا في الدعوة الدينية في أفريقيا بشكل خاص، وترجمة معاني القرآن الكريم للعديد من اللغات عبر المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية الذي كان يرأسه الضابط محمد توفيق عويضة، ومن خلال تبني الدولة لإنتاج أفلام جادة عبر المؤسسة المصرية العامة للسينما، ومسرح الدولة الذي كان له نشاط واسع وجاد، وبرامج ثقافية وفكرية عديدة في الإذاعة والتليفزيون.
وفي عهد السادات، ومع توسع أجواء الحرية السياسية، زاد زخم الحركة الثقافية، وبدا تنوعها، في ظل تنافس أيديولوجي كانت ساحته الرئيسة في الجامعات بين التيار الإسلامي والتيار اليساري، وانتعش سوق نشر الكتاب، وبدأت الصحافة الحزبية بعد إقرار تجربة المنابر السياسية ثم الأحزاب، وصراع الأفكار بين الأقطاب الثلاثة: الإخوان، واليسار، والوفد.. توازى ذلك مع حراك ثقافي وأيديولوجي واسع، ليقوم كل فريق باستقطاب جماهيري لأيديولوجيته بعد 18 عاما من حقبة الحزب والتنظيم السياسي الواحد.
ثم جاء عهد مبارك، ورسخت الاتجاهات والأحزاب السياسية حضورها، عبر قنوات وآليات فكرية وثقافية وأدبية متنوعة، ورغم أن الدولة واصلت خنق المجال السياسي أمام الأحزاب السياسية، مقابل إفساح المجال المحسوب والمنضبط للإخوان كآلية أخرى لهذا الخنق، لكن الشاهد أنه كانت هناك مساحة لا بأس بها من حرية التعبير، في الصحافة والإعلام، بل والسينما التي شهدت إنتاج أفلام تنتقد سياسات الدولة وخياراتها، بشكل مباشر، ليس في عهودها السابقة، بل في عهد مبارك نفسه، فضلا عن مشروع القراءة للجميع ومكتبة الأسرة الذي تبنته زوجة مبارك، وكان له حضور مشكور وفاعل في الحراك الثقافي والأدبي والفكري..
في عهد السيسي، فقد تراجع كل هذا الزخم، في المساحة الممنوحة لحرية الصحافة والإعلام وتداول الأفكار، وزادت القيود الرقابية من المنبع على أي نشاط ثقافي وأدبي وفكري، بل وحتى في المجال الفني احتكرت بعض مؤسسات الدولة شركات الإنتاج السينمائي، كما احتكرت منصات القنوات الفضائية
وفي كل المراحل الثلاث السابقة، كانت الصالونات الثقافية لا تنقطع، سواء صالونات لقامات وشخصيات معروفة، أو صالونات تقيمها بعض السفارات العربية والأجنبية، أو صالونات تقيمها الدولة ذاتها، مثل الصالون الثقافي لدار الأوبرا المصرية برعاية وزارة الثقافة.
أما في عهد
السيسي، فقد تراجع كل هذا الزخم، في المساحة الممنوحة لحرية الصحافة والإعلام وتداول الأفكار، وزادت القيود الرقابية من المنبع على أي نشاط ثقافي وأدبي وفكري، بل وحتى في المجال الفني احتكرت بعض مؤسسات الدولة شركات الإنتاج السينمائي، كما احتكرت منصات القنوات الفضائية الخاصة عبر شرائها من تلك الأجهزة أو أفراد تابعين لها..
أما الصحافة فحدث ولا حرج فقد أصبحت كلها حصريا تتحدث بلسان واحد، وأصبحت مانشيتاتها واحدة تقريبا بصياغات متقاربة. ولا تحدثني عن صحف معارضة، لأحزاب معارضة، قارن فقط بين صحيفة الوفد في عهد مبارك ورئاسة تحريرها في ظل مصطفى شردي وسعيد عبد الخالق، وفي عهدها الحالي.. وقد يكون مفهوما أن يكون هذا الاحتكار في المجال الإعلامي والتضييق على الحراك الثقافي والأدبي والفكري.. أقول قد يكون مفهوما ومبررا في العامين الأولين، بعد إبعاده الإخوان، وحسم الموقف لصالح الدولة الجديدة، لكن ما مبرر استمرار ذلك بعد سحق كل المخاوف من عودة فزاعة الإخوان؟ ولعل بعض العقلاء في النظام يدركون أن أطول الرؤساء عمرا في السلطة؛ يرجع طول فترة حكمه إلى أنه ترك مجالا محسوبا للتنفيس، ووازن بين القبضة الأمنية التي كانت قائمة وبين الحراك السياسي والثقافي والفكري الذي منح النظام مشروعية استمراره على مدى ثلاثة عقود.
ليس غريبا استبعاد ما تردد حول استبعاد كتب نجيب محفوظ من مكتبات هيئة قصور الثقافة، إن صح الخبر وحتى لو لم يصح، فالواقع يشهد بتجميد الحراك الثقافي والأدبي وممارسة الإقصاء لكل صاحب رأي مخالف، فكما تم إقصاء كل القامات الفكرية والإعلامية
لذلك ليس غريبا استبعاد ما تردد حول
استبعاد كتب نجيب محفوظ من مكتبات هيئة قصور الثقافة، إن صح الخبر وحتى لو لم يصح، فالواقع يشهد بتجميد الحراك الثقافي والأدبي وممارسة الإقصاء لكل صاحب رأي مخالف، فكما تم إقصاء كل القامات الفكرية والإعلامية، مثل د. نادر فرجاني، ود. علاء الأسواني، وحافظ الميرازي، ويسري فودة، وبلال فضل الذي تم منع مسلسله أهل اسكندرية قبل سنوات.. فلا غرابة في المنع لأي شخص وأي اتجاه، ولو كان مناهضا للإخوان وداعما للسلطة، وخاصة أن كتب وروايات نجيب محفوظ تحمل بالفعل إسقاطات قوية ضد
الاستبداد، وهذه نماذج من كلماته على ألسنة شخوصه:
- كلما هان خارج الحارة، زاد طغيانا داخلها (الحرافيش).
- كل ابن كلب غرّته قوتُه يزعم لنا أنه الوصي المختار، وأن الشعب قاصر (السكرية).
- الذين يحملون للوطن حباً حقيقياً هم الذين ينتقدونه أشد النقد، بينما لا يقدم المنافقون سوى الطبل والزمر في الزفة (المرايا).
- ما الحيلة؟.. أمامنا رجل يدّعي الزعامة وبيده مسدس (حديث الصباح والمساء).