السياسة ليست نظرية فلسفية في الحكم ولا شعارات شعبوية تستثير عواطف الناس وحماستهم، إنما هي خضوع واع لواقع قد يكون من صنعنا وقد يكون من صنع غيرنا، واقع يفرض علينا فهمه وتفكيك عناصره وابتداع طرائق في التعاطي معه.
دعوة
قيس سعيد السبت (15 كانون الثاني/ يناير) الأمين العام للاتحاد العام
التونسي للشغل نور الدين الطبوبي، ودعوته "في شخصه وباعتباره أمينا عاما للاتحاد" (كما قال)، ومحتوى كلمته وما قدم به من قصة "غزل" ابن زيدون وولادة، أيضا امتداد جلسة اللقاء ثلاث ساعات ونصف.. كلها مؤشرات على أن قيس سعيد بدأ يسدل جناحيه ليحط على الأرض، أرض تابع اهتزازها البارحة في العاصمة، ووصلته ردود فعل منددة من أصقاع بعيدة، وتناهت إليه تحذيرات من أن الأزمة الاجتماعية لن تحلها شعاراته. فالناس لا يعتقدون بأن سعيد فيلسوف أو أديب أو نبي أو زعيم ثوري، إنما اعتقدوا أنه رجل صادق يحب الفقراء ويشعر بمسؤولية تجاه عثرة بغلة أو بيضة "رويحة"، ولن تشفع له اتهاماته للآخرين كما لم تشفع لمن سبقوه تبريرات فشلهم بكون معارضيهم منعوهم من العمل..
لقد بدا قيس سعيد في المدة الأخيرة متخبطا متوترا ومتقلب المزاج، ينبسط حينا وينشد دائما، ولا يلقي خطابا مفيدا خارج صخب التهديد والوعيد والشتائم والردود على ما يُبلغه إليه بعضـ"هم" من تدوينات مدوني ونشطاء الفضاء الأزرق.
بدا قيس سعيد في المدة الأخيرة متخبطا متوترا ومتقلب المزاج، ينبسط حينا وينشد دائما، ولا يلقي خطابا مفيدا خارج صخب التهديد والوعيد والشتائم
لم يعقد قيس سعيد يوم الخميس الماضي مجلسا وزاريا مثلما هو معتاد عليه، ليعقده السبت بعد احتجاجات الجمعة وما رافقها من عنف عناصر أمنية بالزي الرسمي أو الزي المدني، وما تبع ذلك من
حملات إدانة واسعة؛ إعلامية وحقوقية وسياسية وثقافية داخليا وخارجيا.
السيد نور الدين الطبوبي في تصريحه بعد اللقاء بدا متفائلا، وأكد وجهة نظر الاتحاد الثابتة الحريصة على حوار وطني يضمن مشاركة الأحزاب السياسية والمنظمات للخروج من الأزمة. الطبوبي يذكر دائما أنه لا حل للأزمة الاجتماعية إلا ضمن حل سياسي.
ولئن كان الطبوبي يتكلم عن
الحوار قناعة وقد سبق له عرض خطة للحوار على الرئيس، وهو لا يغفل عن شرف إشراف منظمة حشاد على حوار وطني في 2013، فإن قيس سعيد لا يمكن الاطمئنان إليه وهو يأتي للحوار مكرها بعد أن سدت أمامه مصادر الإقراض والمنح، وبعد تأكده من
اشتداد الأزمة الاجتماعية وما يمكن أن يترتب عنها من هزات اجتماعية في الفترة القادمة.
وهو يعي جيدا أن من "يتربص" بهم لن يمنحوه فرصة الإجهاز عليهم، ولهم تجاربهم في خوض تحريك الشوارع حين يكون لا بد من دفع الأذى كممارسة نضالية بعيدا عن توقع نتائج الربح والخسارة. وقيس يعلم أن الظرف مختلف، وأنه لا يملك تاريخ بورقيبة ولا خبرة ابن علي، وأن من يوجهونه إنما يدفعون به نحو الهاوية حين يزينون له ما هو بصدده، ولا يشيرون عليه برأي ولا ينبهونه إلى منزلق ولا يصارحونه بخطأ. لسنا نحكم على ضمائرهم، لا نصمهم بسوء النية إنما نصفهم بسوء التقدير، رغم ما يقال عن انتهازيين وغنائميين وفاسدي طباع لا تعنيهم مصلحة وطن ولا محاربة فساد ولا إصلاح أوضاع وصلاح حال، إنما تعنيهم مصالحهم ولا يتورعون عن استعمال كل الأساليب للتقرب وادعاء المناصرة، حتى وإن كان ذلك على حساب السلم الأهلي والحق والحقيقة، وعلى حساب أمن الناس وأعراضهم. لقد شهدت تونس تجارب دامية في عدة محطات من تاريخها حين تحول كثيرون إلى أظافر وسخة يبطش بها الاستبداد.
قيس سعيد لا يمكن الاطمئنان إليه وهو يأتي للحوار مكرها بعد أن سدت أمامه مصادر الإقراض والمنح، وبعد تأكده من اشتداد الأزمة الاجتماعية وما يمكن أن يترتب عنها من هزات اجتماعية في الفترة القادمة
الحوار الوطني بمعايير محددة وأهداف واضحة هو شرط خروج البلاد من أزمتها، وشرط "نجاة" الجميع من سوء عاقبة يدفع نحوها قيس سعيد بخطابه التحريضي وقاموس مفردات متعجرفة.
الحوار ليس مسلك عودة لما مضى ولا مسربا لتسريب الانقلاب، لا أحد يدافع عن مواطن فشل وكسل وعجز وتقصير تقتضي المحاسبة، ولا أحد أيضا يقبل بأن تطمس تجربة الحرية ودربة الديمقراطية في كوم شعبوية بائسة، وإنما المطلوب هو المراكمة على كل مكسب إيجابي بداية من نشأة الدولة الوطنية إلى اليوم، والاستفادة من الأخطاء، مع فتح ملفات الفساد والسرقات والتهرب والتهريب والجريمة أمام
سلطة قضائية لا تخضع إلا لسلطة القانون و"ضمير" القضاء، ولا تقبل بأن تكون "وظيفة" لدى "مشرع واحد".
ولئن كان الحوار مطلب العقلاء، فلا أعتقد أن البنية النفسية والذهنية لقيس سعيد تؤهله لكي يكون رئيسا جامعا مجمعا وحكما، "حكما" لا بتجميع السلطات بين يديه ولا بخزعبلات المنصة الالكترونية والاستفتاء الكرتوني، وإنما من خلال احترامه للدستور والحريات ومؤسسات الدولة ومن خلال الاحتكام إلى الشعب بآليات معلومة، سواء في تعديل الدستور أو في مراجعة النظام الانتخابي
والنظام السياسي.
رغم احتداد الأزمة وحاجة البلاد إلى كل أبنائها، فإن بعض المتطرفين أيديولوجيا استعادوا حنينهم إلى تجربة استئصال "عدوهم اللدود": حركة
النهضة ذات المرجعية الإسلامية.
تحليلات بعض خصوم النهضة يبنونها على فرضية "تصدع" الحركة بسبب استقالات واسعة بين العديد من رموزها ومن مناضليها في المكاتب الجهوية والمحلية، وحتى في مجالس الشورى المركزي والجهوية، وعدد من قياداتها الشبابية المرموقة. يرى هؤلاء أن "خصمهم" الكبير قد أصيب بالشيخوخة والتحلل، وأنهكته الخصومات الداخلية ولم يعد قادرا على خوض معارك سياسية أو ميدانية، ومن ثم فإن الطريق أصبح سالكا كي يعيدوا هم الانتشار؛ يملأون فراغات تركها جسم النهضة المنهك.
المقدمات الخاطئة تؤدي إلى نتائج من جنسها، والأوهام تنتهي بأصحابها إلى ارتطام.
الذين يعولون على ضعف حركة النهضة بسبب تلك الاستقالات "هم واهمون" (كما يقول دائما قيس سعيد)، وهم يبنون مخططاتهم على كثيب رمل، وعليهم أن يتابعوا أن الرموز المستقيلة هي الأكثر حضورا وحضورية اليوم في مواجهة الانقلاب
الذين استقالوا من حركة النهضة لم يكونوا موظفين في جهاز إداري أو أصحاب أسهم في شركات حتى تنتهي علاقتهم بها بمجرد إعلان استقالتهم، هؤلاء - الذين استقالوا - إنما أعلنوا فك ارتباطهم الإداري بالحركة بسبب خلاف حول إدارة المركبة التنظيمية بمختلف هياكلها، وحول التعاطي مع مفاعيل السياسة منذ - أو حتى قبل - 2011.
المستقيلون هؤلاء تابعنا نقدهم وانتقادهم للقيادة المتبقية وعلى رأسها الغنوشي، ولكننا لا نجد تبرؤا من تجربة سياسية وعقدية، ولا تراجعا عن مبادئ وأهداف كبرى، ولا قطعا لوشائج "الأخوة" في معناها الروحي والتاريخي والنضالي.
الذين يعولون على ضعف حركة النهضة بسبب تلك الاستقالات "هم واهمون" (كما يقول دائما قيس سعيد)، وهم يبنون مخططاتهم على كثيب رمل، وعليهم أن يتابعوا أن الرموز المستقيلة هي الأكثر حضورا وحضورية اليوم في مواجهة الانقلاب، وفي الدفاع عن الحريات والتدرب الديمقراطي وأشواق الثورة.
twitter.com/bahriarfaoui1