ومن
مصر إلى السودان مروراً بالجماهيرية العربية الليبية سابقاً، يا قلبي لا تحزن!
فالجنرالات هم من
يتبنون التطبيع، ويتقربون إلى
إسرائيل بالنوافل، على أمل أن تصنعهم على أعينها، بعد أن كانت قيمة الجيوش العربية تستمدها من كون مهمتها مقدسة لأنها تقف في وجه إسرائيل، وتصد عدوانها، وإن لم تنجح الآن في مهمة دحرها من الأرض العربية المحتلة، فسوف تنجح في يوم ما!
وقد بنى العسكريون الأوائل شرعية جيوشهم على هذا الأساس، منذ تأسيس ما يسمى بدولة إسرائيل. والمذاع أنه عندما قررت مصر خوض الحرب بعد احتلال فلسطين، فإن الضباط وقد شاهدوا خيانة الحكومة واستشعروا عدم جديتها أيقنوا أن الحرب هناك وليست هنا، وعليه فقد غادروا أرض فلسطين إلى القاهرة، ليقوموا بانقلابهم وسط تأييد حزبي وشعبي، لأن "حركة ضباط الجيش"، أو "الحركة المباركة" بحسب أصحابها، قامت بينما الحملة على ما سمي بالأسلحة الفاسدة مشتعلة على صفحات مجلة "روزاليوسف"، وظلت تُدرس في كتب التاريخ، لتبرير ما جرى واكتساب شرعية شعبية!
الجنرالات هم من يتبنون التطبيع، ويتقربون إلى إسرائيل بالنوافل، على أمل أن تصنعهم على أعينها، بعد أن كانت قيمة الجيوش العربية تستمدها من كون مهمتها مقدسة لأنها تقف في وجه إسرائيل، وتصد عدوانها
الثورة نفسها قامت بتشكيل لجنة تحقيق حول حملة الأسلحة الفاسدة، ويبدو أنها كانت رغبة اللواء محمد نجيب ولم يشاركه في هذه الرغبة جمال عبد الناصر وإن كان قد استسلم له، لتكون النتيجة عدم صحة ما ورد فيها، وتم تجاوز ما انتهت إليه لجنة تقصي الحقائق. وظلت الحملة تدرس في مادة التاريخ على أنها حقيقة، وأن ما جرى على أرض فلسطين كان وراء الثورة في مصر!
وقد حرمت الشعوب نفسها من متع الدنيا، وللدقة تماهت مع سياسة حرمانها منها، وأقرت بسياسة توجيه موارد البلد من أجل ساعة المواجهة، واكتسبت ثورة يوليو شرعيتها بخطاب عبد الناصر المواجه، وعندما هُزم واستوجب الأمر محاكمته، كانت الهزيمة شرعية جديدة، وخرجت الجماهير على إيقاع من أخرجوا يطالبونه بعدم التنحي، لأنه وحده القادر على تخليصنا من كابوس الهزيمة، ورد الاعتبار بهزيمة الجيش الإسرائيلي الذي قالوا إنه لا يقهر!
مبارك وشرعية النصر:
ولم يمكن القدر عبد الناصر من ذلك، وغادر الحياة الدنيا، لكن ظلت قيمته يستمدها من إعلان العداء مع إسرائيل، وانتصر السادات وأبرم معاهدة السلام، لكن شرعية من جاء من بعده استمدها من كونه أحد أبطال الحرب ضد إسرائيل، بعد تفخيم دوره واختزال النصر في شخصه!
ومع هذا التضخيم وتساقط الشرعية، فقد ظل أنصار مبارك يتحدثون عنه على أساس أن كونه أحد أبطال أكتوبر يغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. وكان محظوظاً لأنه ورث السلام ولم يبرمه، وهو الذي أسقط شرعية السادات. وظلت شرعية النصر بيد مبارك الذي كان يطبع في حدود الضرورة، وإن حاصر غزة وقاطع المقاومة، وأصبح كنز إسرائيل الاستراتيجي!
الآن صار اللعب على المكشوف، فالسيسي يعلنها صريحة أن من مهامه الوظيفية تحقيق الأمن للمواطن الإسرائيلي، وقد اتخذ إجراءات على الأرض تؤكد ذلك، فهدم البيوت وطارد السكان وحاصر غزة بالشكل الذي أزعج إسرائيل نفسها
الآن صار اللعب على المكشوف، فالسيسي يعلنها صريحة أن من مهامه الوظيفية تحقيق الأمن للمواطن الإسرائيلي، وقد اتخذ إجراءات على الأرض تؤكد ذلك، فهدم البيوت وطارد السكان وحاصر غزة بالشكل الذي أزعج إسرائيل نفسها، لأن شدة الحصار ستدفع بالمقاومة إلى أن تقاتل قتال من ليس لديه ما يخسره.
لقد قال توفيق عكاشة إنه من نصح قادة الانقلاب العسكري بالذهاب إلى إسرائيل، للحصول على شرعيتهم، ولكن من الواضح أن قائد الانقلاب عرف طريقه مبكراً وبدون نصيحة من أحد. ومن الواضح أن الرئيس محمد مرسي الذي كان يدرك أن بين مصر وإسرائيل معاهدة سلام، ويدرك أنه لا يستطيع أن يحرق نفسه بالتقارب معها، أوكل المهمة للسيسي. وإذ كانت سيناء من قبله ساحة للوجود الأمني من كافة أجهزة القوة، سواء الشرطة أو الجيش أو المخابرات، فقد آلت المهمة كاملة للجيش وفي القلب منه المخابرات الحربية. وقد نشرت تقارير إسرائيلية (لم ينفها الجانب المصري) تؤكد أن
السيسي التقى سراً قادة إسرائيليين مرتين قبل الانقلاب العسكري (في عهد الرئيس محمد مرسي)، ولم تكن هذه من المهام التي يكلف بها قادة في الجيش من قبل، وإن برز دور اللواء عمر سليمان، فالمخابرات العامة في كل مكان في العالم لها دور سياسي، على العكس من الجيوش التي يحظر عليها العمل السياسي!
نهاية مرحلة العسكريين التقليديين:
وبتولي السيسي الحكم، بات واضحاً أن المهام القديمة للجيوش قد تغيرت، وهذه المهام هي مواجهة العدو ولا عدو إلا "الإسرائيلي"، بما يعطي شرعية لإنفاق المليارات على التسليح، رغم معاهدة السلام، وهي الشرعية التي استفاد منها قادة الجيش سياسياً، سواء الصمت على تمكين مبارك المجلس العسكري من الحكم بشكل مباشر بعد تخليه عن الحكم، أو في دعوة الجيش للانقلاب على التجربة الديمقراطية الوليدة!
وبدا هذا توجهاً جديداً بانتهاء مرحلة العسكريين التقليديين الذين يحافظون على ورقة التوت، وبالثورة السودانية ودخول العسكر على خط الحكم في السودان، شاهدنا
هرولة للتطبيع، مع تبرير ذلك سواء من أحزاب الأقلية من أهل اليسار (الشركاء في الحكم)، أو من الإسلاميين الذين يرون في عبد الفتاح البرهان الامتداد الطبيعي للرئيس البشير. وعندما حدث الطلاق بين العسكر واليسار، إذا بوفد إسرائيلي يذهب للخرطوم، وبدا أن القادة العسكريين يستقوون به على القوى المدنية الأخرى بإسرائيل، رغم أن هذه القوى لم تمانع في التقارب، شأن اليسار في العالم العربي، الذي سبق الجميع في
التطبيع، ورموزه المقاومة في مصر هم من أنشأوا جمعيات التطبيع بنفس القوة والحماس؛ لطفي الخولي نموذجاً.
بدا هذا توجهاً جديداً بانتهاء مرحلة العسكريين التقليديين الذين يحافظون على ورقة التوت، وبالثورة السودانية ودخول العسكر على خط الحكم في السودان، شاهدنا هرولة للتطبيع، مع تبرير ذلك سواء من أحزاب الأقلية من أهل اليسار (الشركاء في الحكم)، أو من الإسلاميين الذين يرون في عبد الفتاح البرهان الامتداد الطبيعي للرئيس البشير
وقد وجد البرهان من يدافعون عن خطوته، بأن من حقهم التقارب مع إسرائيل بعد أن تقارب عموم العرب؛ الذين ينكرون على السودان هذه الخطوة ليحرموهم من المن والسلوى، في حين أنهم يرتكبون نفس الأفعال. فات هؤلاء أنه إذا كان هناك منطق للتقارب بين دول بينها وبين إسرائيل عداء، فإن السودان ليس من دول المواجهة، لكن لا بأس فقد ظن القوم أن هذه العلاقات كفيلة بحل مشاكلهم الاقتصادية، وكأنها كانت بسبب العداء لإسرائيل.
وقد حدث التقارب ولم تتغير أوضاع السودانيين، ومع بقاء الأزمات الاقتصادية فقد جاء الوفد الإسرائيلي للخرطوم، ذلك بأن الهدف من هذه العلاقات الثنائية ليس حل مشكلات الشعوب، ولكن حل أزمات الحكام الذين يستقوون على المختلفين معهم سياسياً بمثل هذا التقارب!
ومن السودان إلى ليبيا، حيث الجنرال المتقاعد الذي
نزل بمطار تل أبيب، وقام إلى الآن بزيارتين سريتين، انفضح أمرهما لأن إسرائيل ليست مستعدة الآن لمثل هذه العلاقات السرية التي كانت تقيمها مع الحكام السابقين، والتي أصبحت تجد أمانها مع القادة العسكريين، لذا صار حفتر هو خيارها المأمول في حكم ليبيا، ولم تراهن على أي بديل من المدنيين!
نسي هؤلاء دروس التاريخ، فالشعب أسقط كنزهم الاستراتيجي في مصر، كما أسقط القذافي وكان قد انتقل من معسكر الصمود والتحدي إلى التطبيع، ليلحق ما فاته بترديد كلام فارغ عن تسمية الدولة الفلسطينية "إسراطين"
ولأهمية هذه العلاقات، لم يعد هؤلاء القادة الذين يشكّون في أصابع أيديهم يوكلون بمهمتها لأحد، كما كان حاصلاً من قبل، فقد صاروا يرسلون أبناءهم، حتى لا تكون باباً يدخل منه الشيطان ويلعب لحساب نفسه، ومن محمود السيسي، إلى صدام خليفة حفتر، لاحظ أنهما ضابطان أيضاً.
وقد نسي هؤلاء دروس التاريخ، فالشعب أسقط كنزهم الاستراتيجي في مصر، كما أسقط القذافي وكان قد انتقل من معسكر الصمود والتحدي إلى التطبيع، ليلحق ما فاته بترديد كلام فارغ عن تسمية الدولة الفلسطينية "إسراطين"، لتكون دولة موحدة بين الفلسطينيين والإسرائيليين!
والمفيد هنا هو أن العسكريين قد تنازلوا طواعية عن الدور والمكانة، وقد هرولوا إلى إسرائيل يطلبون عندهم العزة.
إن العزة لله جميعاً!
twitter.com/selimazouz1