الكتاب: المسيح العربي، النصرانية في الجزيرة العربية والصراع البيزنطي-الفارسي
الكاتب: فاضل الربيعي
دار النشر: رياض الرّيس للكتب والنشر، بيروت لبنان
عدد الصفحات: 367 صفحة
1 ـ بين يدي الكتاب
رغم العوائق الكثيرة التي تحول دون معرفتنا بمعتقدات الجاهليين المعرفة الدقيقة، وبمنزلة الديانات الكتابية منها فإننا نطمئن إلى أنهم كانوا من الوثنيين أساسا وإلى أنّ الديانتين اليهودية والمسيحية كانتا هامشيتين. ولكن للباحث فاضل الربيعي رأي مخالف يعرضه في أثره "المسيح العربي، النصرانية في الجزيرة العربية والصراع البيزنطي ـ الفارسي". وفيه يحاول أن يدحض هذا الاعتقاد استنادا إلى جمع عديد الإشارات الواردة بالمرويات وبكتابات الإخباريين وتدبّرها تدبّرا عقليّا.
2 ـ انتشار المسيحية في شبه الجزيرة العربية
يتمثّل الاختلاف الأبرز عن المصادرات السّائدة في عمله على الإقناع بأنّ المسيحية كانت ديانة أصلية في شبه الجزيرة العربية، وأن تصوّراتها الجوهرية لم تكن تتعارض كثيرا مع المعتقدات البدائية التي آمنت بها مختلف القبائل العربية بالسليقة والغريزة، شأن فهمها للخير والشر أو تصوّرها للرّب وللكون.
ومن الدلائل التي يستند إليها وجود صورة عيسى وأمه مريم في الكعبة عند فتح مكة. فقد جاء في الأثر "إن الكعبة في الجاهلية كانت مليئة بالصّور والمنحوتات التي تمثّل آدم والشجرة المقدسة وصور إبراهيم والملائكة وعيسى ومريم: [فلما كان يوم فتح مكّة دخل رسول الله ـ صلعم ـ البيت فأرسل الفضل بن عبّاس ابن عبد الله فجاء بماء زمزم. ثم أمر بثوب. فبُلّ بالماء وأمر بطمس تلك الصور فطمست. قال ووضع كفيه على صورة عيسى بن مريم وأمه عليهما السلام وقال: امحوا جميع الصّور إلاّ ما تحت يدي. فرفع يديه عن عيسى بن مريم وأمه]". وما بين معقفين ينقله عن الأزرقي من كتابه "تاريخ مكّة".
وممّا يورد من هذا الأثر خبر "امرأة من غسّان حجت في حاج العرب، فلمّا رأيت صورة مريم في الكعبة قالت بأبي وأمي إنك لعربيةّ". وانطلاقا منه يفترض الباحث أنّ المسيحية كانت منتشرة في بلاد العرب قبل الإسلام على نطاق واسع. ويقدّر أنّ ملامح هذه المرأة وملامح أترابها لم تسرب إلى عمل الرسام إلاّ لأنه يجد شخصية العذراء أليفة إليه إلف الديانة المسيحية، قياسا على ما كانت تفعله مختلف الشعوب التي تعتنق المسيحية. فقد كانت تمنح العذراء وابنها شيئا من الملامح هذه الشعوب نفسها، حتى أنّهما تحوّلا في "كنيسة العذراء الإفريقية إلى زنجيين.
3 ـ أخطاء الإخباريين حول تنصر ملوك الحيرة
يعتقد الباحث أنّ في معرفتنا بالحياة الروحية لشبه الجزيرة العربية ما قبل الإسلام كثيرا من الثغرات. ويجد أنّ للإخباريين دورا في تضليلنا لأنهم "كانوا يقعون في أحيان كثيرة في أخطاء محزنة". فيعيب على ابن دريد في كتابه "الاشتقاق" قوله بأن سبب تنصّر قبيلة أياد اضطهادها المتواصل من جانب الفرس بسبب تنصرها وأنها فعلت ذلك نكاية بالسّاسانيين.
ويتساءل كيف تكون قبيلة أياد "تنصرت" جرّاء اضطهاد الفرس لدينها وهي النصرانية أصلا؟. ويؤكد أنها تنصرت قبل هجرتها من اليمن، متبنيا موقف المستشرق الأب لويس شيخو في أثره "النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية" القائل بأنّ الأنبياء المرسلين الذين أشار إليهم القرآن هم رسل ودعاة الديانة النصرانية العربية. ويجد في إشارة مؤلفي التّاريخ جميعهم إلى رهبان وقساوسة نذروا أنفسهم للعبادة في الأديرة النائية والمنعزلات ويصادفهم المرتحلون في الصحراء ما يرجّح قراءته هذه.
أما المسيحية فلا تخلو من المؤثرات البيزنطية. فوفق رؤية كنيسة الإسكندرية للمسيحية، وتأثرا بها كانت تؤمن بالكيان الواحد لشخصية المسيح. أي بطبيعته الإلهية الصرف. ولئن تجلت في صورة بشرية فإنها لم تتماهى معها.
وعصر الأحناف، ذلك التعبير الرائج في المؤلفات التاريخية لا يشير إلى متعبدين وزهاد لا ينتمون إلى ديانة كبرى بل إلى معتنقي المسيحية الأولى قبل ظهور روما وبيزنطة على مسرح الأحداث. وينزّل تصوّره لطبيعة معتقدات العرب قبل ظهور الإسلام ضمن مسار متكامل. فقد ظهرت اليهودية أولا في الجزيرة العربية. واليهودية بهذا التصوّر تمثل معتقدا لا عرقا موازيا للعرق العربي. وبظهور المسيحية انحسرت اليهودية. وهكذا يقسّم الجزيرة العربية في مرحلة الإسلام المبكّر إلى ثلاثة مراكز روحية كبرى هيّ اليهودية في اليمن والمسيحية في نجران والإسلام لاحقا في الحجاز.
4 ـ النصرانية-المسيحية.. أي فرق؟
يجري استعمال العرب لعبارات النبي عيسى بن مريم والرب يسوع المسيح أو النصرانية والمسيحية أو النّصارى والمسيحيين مجرى الترادف، "غير أنّ روايات الإخباريين العرب عن نصرانية بعض القبائل في الجزيرة العربية واليمن والعراق والشّام، لا تدلّ لا من قريب ولا من بعيد على أنّ المقصود منها الإشارة إلى المسيحية كما نعرفها اليوم" وفق هذا الكتاب.
ويقدم لنا المؤلف بسطة تاريخية عن معتقدات العرب والعناصر الموضوعية و"الدولية" المسهمة في انتشار النصرانية الأولى في شبه الجزيرة العربية ثم اضمحلالها. فما كان سائدا هو النصرانية، تلك العقيدة التوحيدية الشديدة البساطة والتقشف والمنسجمة مع حاجيات البيئة الصحراوية والتي تنبذ عبادة الأصنام وتدعو بالمقابل إلى عبادة الخالق الواحد.
وليتبيّن أصل التسمية [نصرانية] يعود إلى كتب التراث اللغوي والأدبي ليبرز تطور دلالتها. ففي المعاجم أنّ النصرانيّ هو الأقلف، أي غير المختون. والصلة بين هذه العقيدة والعبارة متينة. فالنصرانية جماعة دينية ظهرت بعد تصدع اليهودية. ومما يميّزها الامتناعُ عن ممارسة الختان الذي ظهر عند القبائل العربية قبل ظهور اليهودية نفسها.
"وفي هذا الصدد يلاحظ الزبيدي [صاحب القاموس الشهير "تاج العروس في جواهر القاموس] أنّ (الأنصر: الأقلف، وهو مأخوذ من مادة النصارى لأنهم قلف. قال الصاغاني: وفي الأحاديث التي لا طرق لها: لا يؤمنّكم أنصر ولا أزن ولا أفرع: والأزن: الحاقن، والأفرع الموسوس، والأنصر: الأقلف). وهذا ما يؤيده الأزهري وابن منظور وكثير من أئمة اللغة".
يجد أن المسيحية ديانة أصيلة في شبه الجزيرة العربية ويجد في قول المستشرقين بوفودها من روما تعسّفا على المعلومة التاريخية يهدف إلى غايات سياسية يمكن أن نختزلها في الإيحاء بقوة الإمبراطورية وتأثيرها في الثقافة العالمية.
وعليه يقدّر الباحث أن "القبول بفكرة وجود علاقة دلالية بين الجذر الثلاثي نصر، بمعنى أقلف (غير مختون) والنسبة إلى نصراني يقدّم برأينا حلاّ سليما صحيحا للمسألة المطروحة، لأنه سيضع كلمة "نصراني" في قلب مفهومها القديم والمستمر، أي غير المختون، وليس نسبة إلى مدينة الناصرة". أما المسيحية فهي تشير إلى هذه الديانة وقد تأثرت بالمؤثرات اللاهوتية الوافدة من خارج الجزيرة العربية.
وظلت النصرانية التوحيدية السابقة عن المسيحية أقرب إلى النسطورية. فتأثرًا بالفلسفة اليونانية، ساد جدل عميق حول شخصية السيد المسيح وأفاد منه في تحديد هويته القائمة على التفاعل بين جوهره الإلهي وطبيعته البشرية. وفي الإنجيل جاء "في البدء كانت الكلمة" ووصف يسوع بأنه "كلمة الربّ". أما المسيحية فلا تخلو من المؤثرات البيزنطية. فوفق رؤية كنيسة الإسكندرية للمسيحية، وتأثرا بها كانت تؤمن بالكيان الواحد لشخصية المسيح. أي بطبيعته الإلهية الصرف. ولئن تجلت في صورة بشرية فإنها لم تتماهى معها. ويشير إلى هذا المذهب بالمونوفيوية. ويعرف أيضا باليعاقبة. وهم أتباع يعقوب البرادعي المولود في قرية تل مورست بسورية مطلع القرن السادس وكان يبشّر بمذهب الطبيعة الواحدة للمسيح.
5 ـ المسيح العربي، النصرانية في الجزيرة العربية والصراع البيزنطي-الفارسي.. وبعد؟
وما يحسب لهذا المؤلف جمعه بين التأليف التّاريخي والبحث في تاريخ الأديان والأديان المقارنة والنزول في منزلة وسط بين التأليف الأكاديمي الصارم الذي يسعى إلى أن يكون حجة علمية والتأليف الثقافي الذي يبسط المعلومة ويخفّف المتن من الإحالات والتوثيق دون أن يتساهل تجاه الأمانة العلمية. وما يحسب له أيضا تناوله لموضوع شيق عسير بالفعل. فالدراسات الدقيقة ذات الصلة بالحياة الروحية في شبه الجزيرة العربية تظل شحيحة. ويظل القارئ في تعطّش مستمر إلى معرفة المزيد حولها. فالعلامات كثيرة على أن انتشار المسيحية في ربوعها كان أكبر بكثير مما تجود بها الوثائق. لذلك لا يسع المرء إلا أن يبتهج عند العثور على أثر يبحث في تطور الديانة المسيحية هناك في مرحلة ما قبل الإسلام. ويدرس وجوه تفاعلها مع ثقافات المجتمعات العربية الحاضنة لها وإسهام العوامل السياسية فيها.
أمّا أطروحته فيجعله مميّزا حقا، فقد تضمن مقاربة جديدة تقلب المعارف التاريخية، فـ:
ـ تناهض ما قال به المستشرقون من تأثر العرب بمسيحية وافدةٍ من بيزنطة عبر دعاة غرباء جاؤوا من خارج الجزيرة العربية، ممثلة امتدادا لثقافة روما وفعلها في العالم وقتئذ.
ـ تعيد ترتيب مراحل تطور حياتهم الروحية على خطّ الزمن. فتبدأ بالوثنية ثم انتشار الديانة اليهودية. وبعد ما شهدت من انشقاقات دينية أضعفتها ظهرت النصرانية النصرانية الأولى ثم المسيحية الوافدة المتأثرة بالأطروحات الشرقية. "فالقبائل العربية وخاصّة الغساسنة وأبناء عمومتهم اللخميين في مملكة الحيرة هي التي طورت أفكار المسيحية الشرقية على المذهبين النسطوري والمونوفيوي خلال عقود من الصراع البيزنطي الفارسي وهي التي أرغمت فارس وبيزنطة على القبول بمسيحية شرقية وخاصّة".
ولم يكن الصدام بين الفرس والبيزنطيين في شبه الجزيرة وفق هذا الأثر سوى شكل من أشكال الصدام الإيديولوجي المذهبي. وبالنّظر إلى ضمور المسيحية وما شهدته من انشقاقات بدورها اختزلت في بعض الرهبان فظهر الأحناف ولكنهم لم يستطيعوا أن يملؤوا الفضاء فعادت الوثنية من جديد ولكن شيئا من هذه الديانات ظل قائما بالتوازي معها حتى ظهور الإسلام.
وعليه يجد أن المسيحية ديانة أصيلة في شبه الجزيرة العربية ويجد في قول المستشرقين بوفودها من روما تعسّفا على المعلومة التاريخية يهدف إلى غايات سياسية يمكن أن نختزلها في الإيحاء بقوة الإمبراطورية وتأثيرها في الثقافة العالمية.
يختتم فاضل الربيعي كتابه بالنتائج التالية: "ليست هناك خلاصة واحدة في هذا الكتاب، يمكن أن تتضمن كلّ الأفكار الواردة فيه كما يتمنى بعض القراء، بل هناك أفكار وخلاصات كثيرة، يتعيّن التأمل فيها بعمق". وبالفعل فالكتاب ينطوي على أطروحات كثيرة تعيد بناء التاريخ العربي في ما قبل ظهور الإسلام وفي فترة الإسلام المبكّر.
ولكنّ لم يخل الأثر من مغامرة في الاستنتاج وسهولة في التأويل تسمح لنفسها بأن تحوّل الصراع العسكري بين الإمبراطوريتين الفارسية (من خلال حلفائها العرب) والبيزنطية إلى صدام مذهبين مسيحيين هما المونوفيزية والنسطورية. فتمنحه بعدا إيديولوجيا دينيا أكثر مما تجعله صراعا إقليماي على مراكز النفوذ. وللأسف فرغم طرافة المبحث والنتائج المغرية فإنّ ما يذكره الباحث لم يوفّق في البرهنة القوية على ما يفترض. ورغم انسجام بعض الاستنتاجات ظلت مقولاته أقرب إلى الانطباعات التي تحتاج إلى التعمق وإلى مزيد من البحث الجدي عن مصادر أخرى للمعلومة التاريخية وإلى آليات حجاجية أمتن.
القضية الفلسطينية.. خلفياتها التاريخية وتطوراتها في كتاب
لماذا تعثّر الربيع العربي أمام أسئلة التغيير؟ كتاب يجيب
كيف يواجه العرب الغزو الثقافي الغربي؟ أطروحات المسيري