لا يمكن لأي زائر للبلدة القديمة في مدينة غزة التي تضرب جذورها في أعماق التاريخ أن يصل إلى المواقع الأثرية القديمة فيها مثل المسجد العمري "الكبير"، أو قصر الباشا، أو حمام السمرة، دون المرور بواحد من أهم البيوت الأثرية القديمة الذي أصبح معلما ثقافيا وحضاريا في الوقت الحالي.
إنه "بيت الغصين" الأثري التاريخي الذي أصبح معلما معروفا بعد أن تم ترميمه وإظهاره العام الماضي ليحاكي الماضي بعصارة الحاضر وليؤكد على تمسك الفلسطينيين بهويتهم وتراثهم مهما حاول الاحتلال طمسها بكل الوسائل والطرق لسرقتها ونسبها إليه.
ويقع بيت الغصين الأثري بحسب وكيل وزارة السياحة والآثار في غزة الدكتور إبراهيم جابر، في حي الدرج وسط مدينة غزة، وهو أحد أقدم أحياء البلدة القديمة في مدينة غزة.
وأوضح جابر في حديثه لـ "عربي21" أن هذا البيت واحد من عشرات المنازل التاريخية الباقية والتي تحرص وزارة السياح والآثار الفلسطينية على الحفاظ عليها وترميمها للحفاظ على الإرث التاريخي الفلسطيني من الضياع والاندثار.
وقال: "إن هذا الموروث التاريخي أحد صور التجذر الفلسطيني بهذه الأرض، وإثبات مطلق لدحض الرواية الصهيونية تجاه أحقية الشعب الفلسطيني بأرضه وتاريخه وأثاره".
إبراهيم جابر.. وكيل وزارة السياحة الفلسطينية
وأضاف: "إن الاهتمام بالمورث التاريخي يعزز الرفض الفلسطيني لمسلسلات التهجير وطمس الهوية الفلسطينية الممنهج من قبل الاحتلال الإسرائيلي، وهو أحد أساليب النضال والكفاح من أجل وطننا".
وأكد أن هناك جهودا حثيثة من قبل وزارة السياحة والآثار نحو دعم قطاع السياحة والآثار بجملة من القرارات في سبيل إنعاشه وازدهاره رغم التضيقات وبطش الاحتلال.
وشدد وكيل وزارة السياحة والآثار على المتابعة القانونية لكل مخالفة تثبت بحق المواقع الأثرية، مؤكدا أنهم لن يتهاونوا في ذلك.
وقال: "إن المباني والمواقع الأثرية في فلسطين ليست مجرد مباني ومواقع أثرية عادية، بل هي مهمة في التأكيد علي امتداد جذور شعبنا الفلسطيني علي هذه الأرض إلى آلاف السنين ونفي الرواية الصهيونية التي تزعم أن أرض فلسطين هي أرض بلا شعب لشعب بلا أرض".
وأضاف: "لقد حققت وزارة السياحة والآثار في السنوات الأخيرة العديد من الانجازات رغم ظروف الحصار الظالم المفروض على قطاع غزة للعام السابع عشر على التوالي، حيث شهد قطاع الآثار نهضة واضحة في أعمال الصيانة والترميم لعدد من المواقع، وكان بيت الغصين من بينها، إضافة إلى موقع الكنيسة البيزنطية، وموقع دير القديس هيلاريون في مخيم النصيرات، ومقام الخضر بمدينة دير البلح، وقصر الباشا وسوق القيسارية بمدينة غزة، وبيت العشي بالإضافة إلى أعمال الصيانة القائمة الآن في المدرسة الكمالية بمدينة غزة، ومقام عبسان الكبيرة".
وأوضح جابر أن المواقع الأثرية التي تشرف عليها الوزارة استقبلت خلال العام الماضي 30,000 زائر محلي وأجنبي وقدمت الشرح الكافي للزوار عن تاريخ غزة، والمواقع الأثرية والتي تتوزع في محافظات قطاع غزة، بالإضافة إلى حصر كافة المباني الأثرية في القطاع ونشر بياناتها رسمياً في مجلة الوقائع لملاحقة أي أعمال هدم لمواقع أثرية مخالفة للقانون.
وأكد أن الوزارة قامت بحصر اللُقى الأثرية لدى المتاحف الخاصة، والتي يزيد عددها عن 10 متاحف، والتي يزيد عدد القطع فيها عن عشرة آلاف قطعة أثرية، معربا عن أمله حيث أن يتمكنوا فيه من إقامة متحف وطني يضم في جنباته كافة القطع الأثرية لتعزيز الحفاظ على الموروث الحضاري والثقافي للشعب الفلسطيني.
ومن جهتها أكدت الباحثة في التاريخ والآثار نريمان خلة على أن بيت الغصين الأثري يقع إلى الغرب من قصر الباشا، وشمالي المسجد العمري "الكبير"، ويقع في احد الشوارع المتفرعة من شارع الوحدة الرئيسي بمدينة غزة.
وقالت خلة لـ "عربي21": "يعود تاريخ تأسيس بيت الغصين إلى أواخر الحقبة العثمانية، حيث بناه شهاب الدين الغصين، وتقدر مساحته بحوالي 270 مترا مربعا".
نريمان خلة.. باحثة فلسطينية في التاريخ والآثار
وأوضحت أن البيت أحد التحف المعمارية، مؤكدة أن إنشاءه يعود إلى العهد العثماني في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي.
وشددت على أن المالكين شددوا على حرصهم على الحفاظ على الهوية والتراث هو الدافع الرئيس لإعادة تشغيله كمركز ثقافي مجتمعي.
وأكدت على أن شهاب الدين الغصين الذي شيد هذا البيت كان صاحب منصب رفيع في الجيش التركي، مشيرة إلى انه بناه مستعينا بمهندس تركي جاء خصيصا ليعمره على طراز البيوت التركية.
وقالت خلة: "بعد أن تُوفي الحاج شهاب الدين عام 1233م، ورث البيت ابنه الحاج حسين الغصين، وعاشت فيه حفيدته رقية الغصين منذ ولادتها عام 1923م وحتى وفاتها عام 2018م".
وأضافت: "طوال حياة الحاجة رقية، كان البيت مزاراً لكل نساء حي الدرج القديم، يجلسن معها في باحته الواسعة ويتنقلن إلى حديقته العطرة ويتبادلن أحاديث المساء، حتى أُغلق بوفاتها عام 2018م، ليعاد ترميمه وافتتحاه في تموز/ يوليو 2021م ليتحول إلى مركز ثقافي وتراثي لخدمة المواطنين ولتقام في المعارض والأمسيات الثقافية والتراثية الفنية".
وأوضحت أن من يدخل هذا البيت يستمتع وهو يشاهد الماضي مرمما بلمسات من الحاضر، ويستشعر الفروق الموجودة على الجدران وفي الغرف وفي النوافذ الكثيرة المنتشرة، ويمكنه أيضا أن يتخيل القصص الكثيرة التي عاشت في تلك الغرف القديمة، ويستشعر عظمة هذا البيت بحديقته الخلفية وما بها من بقايا أشجار تزيينه.
وبينت أن مدخل البيت يؤدي إلى فناء مستطيل الشكل، وينخفض منسوبه عن الشارع العام، والمدخل من الجهة الشرقية يؤدي إلى دَرَج وسطح علوي.
وأكدت خلة أن البيت يتكون من إيوان واسع وكبير على شكل صليب، وسقفه عبارة عن أقبية متقاطعة، وتطل على الإيوان 4 غرف نوم بها العديد من البيوك والفتحات، والمبنى يمتاز بعدد كبير من العقود المدببة والدائرية.
وأوضحت أنه قد تم ترميمه وصيانته من قبل مركز "إيوان" بالشراكة مع مركز "رواق"، وتم افتتاحه عام (1443هـ/2021م)، وذلك تحت اشراف وزارة السياحة والآثار الفلسطينية؛ ليصبح معلماً ثقافياً ومركزاً حضارياً للمهتمين بالتراث والتاريخ حيث تقام فيه العديد من المحاضرات والمعارض التراثية ليتحول إلى مكان ينبض بالتراث والحكاوي الغزاوية.
ومن جهتها أكدت نشوى الرملاوي، منسقة مشاريع الحفاظ في مركز عمارة التراث "إيوان" الذي اشرف على ترميم بيت الغصين الأثري على أن ترميم المباني الأثرية هو هدف أساسي من أهداف مركز إيوان.
وقالت الرملاوي لـ "عربي21": "هذا الترميم لبيت الغصين الأثري يضمن الحفاظ وإظهار الموروث الثقافي الفلسطيني".
نشوى الرملاوي، منسقة مشاريع الحفاظ في مركز عمارة التراث "إيوان"
وأوضحت أنه خلال مسيرة عمل المركز قاموا بترميم العشرات من المباني الأثرية في قطاع غزة وتسليط الضوء عليها وإظهارها محليا ودوليا.
وأكدت أنه بعد ترميم بيت الغصين العام الماضي يستخدم البيت حاليا كمركز ثقافي يهدف بشكل أساسي خدمة المجتمع بكافة شرائح.
وعن أهم التحديات التي واجهت إيوان في عمليه ترميم بيت الغصين أكدت الرملاوي أنها قلة الخبراء المحليين في مجال الحفاظ والترميم، والحصار وعدم موجود بعض المواد اللازمة للمشروع، وصعوبة الحصول على تمويل، والمشاكل الإنشائية التي كان يعاني منها البيت.
وقالت الرملاوي: "بعد ترميم بيت الغصين الاثري زادت نسبة الإقبال على البيت بشكل كبير وكان إقبال أكثر من ممتاز وغير مسبوق".
وأضافت: "مشروع الترميم لقي استحسان كبير من البيئة المحيطة ومشاركة ايجابية كبيرة غير متوقعة، وبعد تشغيل البيت أصبح للمشروع سمعة مجتمعية ثقافية عالية وإقبال كبير من فئات عديدة في المجتمع".
"دير مار سابا".. معلم بناه رئيس نساك فلسطين وحرمه على النساء
الزوايا والتكايا في فلسطين شاهد على حضارتها
الكوفية الفلسطينية رمز للمقاومة والهوية الوطنية