ودّعنا الطفل
المغربي ريان ذا الأعوام الخمسة بعد خمسة أيام حبست فيها الأنفاس؛ والعالم كله يترقب مصير طفل صغير سقط في بئر مهجورة بمنطقة نائية لا تصلها حتى الكهرباء، على عمق يزيد على الثلاثين مترا.
وكانت بداية التفاعل مع كثرة صفحات فيسبوك الإخبارية في المغرب مقابل شبه غياب للإعلام المستقل، فيه حين تمكنوا من إنزال كاميرا صورت الطفل وهو في قعر البئر وبدأ الناس يتناقلون الصورة، وأصبحت القضية هي الأولى على مختلف منصات التواصل، وبطبيعة الحال يبحث الإعلام عن الصورة أينما كانت، فكيف ببث مباشر لحادثة غير تقليدية؟
وعليه فقد حولت قناة تلفزيونية عريقة مثل الجزيرة مباشر بثها لتغطية خاصة متواصلة لهذا الحادث الأليم، وكانت المفاجأة بمتابعة عشرات الآلاف على مدار الساعة، وانهمار الاتصالات الهاتفية من المحيط إلى الخليج بكاء ودعاء وتضامنا، في مشهد أعاد الشعور بوحدة هذه الأمة وقدرتها على تجاوز الخلافات لو استطاعت أن تتجاوز عوامل التجزئة؛ التي تقتات عليها النخب في مختلف الأقطار لتحقيق مكاسب خاصة على حساب الأمة ومصالحها.
تفاعل الناس مع ريان تفاعلا مرتبطا بقضية طفل بريء لا علاقة لها بتجاذبات السياسة ولا خلافاتها، والانشغال بها على كل ما فيه من معان جميلة يبقى في دائرة الراحة ولا ضريبة عليه؛ حيث لن تلاحقه الأجهزة الأمنية ولن يخشى السفر لذلك البلد أو التجسس عليه في آخر
تفاعل الناس مع ريان تفاعلا مرتبطا بقضية طفل بريء لا علاقة لها بتجاذبات السياسة ولا خلافاتها، والانشغال بها على كل ما فيه من معان جميلة يبقى في دائرة الراحة ولا ضريبة عليه؛ حيث لن تلاحقه الأجهزة الأمنية ولن يخشى السفر لذلك البلد أو التجسس عليه في آخر.
وعليه، من الطبيعي أن نرى حجم التفاعل هنا أكبر، خصوصا أنها قضية ليست محل خلاف أو تعدد آراء أو ولاءات كما هو حال قضايانا الأخرى.
تفاعل الناس مع قضية ريان لأنها قضية فردية يعتقد الشخص أن اتخاذ موقف فيها يمكن أن يصنع شيئا من الضغط على المسؤولين للتصرف وإنقاذ الطفل، بينما يفقدون الأمل حينما تكون نزاعا مسلحا أو مجازر جماعية.
حتى الطفل فواز قطيفان في ريف درعا رغم مرور شهور على اختطافه لم تحظ قصته بالاهتمام من قبل الناس إلا حين انتشر مقطع فيديو مؤلم عن معاملة خاطفيه له! كثير من الناس - وأنا منهم - لم يكونوا يعلمون عن اختطاف فواز رغم متابعتهم لمختلف وسائل الإعلام.
لا يكفي ان تكون قضيتك عادلة ليتفاعل الناس معها؛ إن لم تكن هناك صورة تخدمها وشخصيات معروفة لدى الناس تتبناها، ومن ثم أن تكون قادرا على عرضها بطريقة غير منفرة أو مستفزة
تزامن فيديو فواز مع قضية ريان ساعد باطلاع الناس على قضيته، خصوصا عندما ظهر الفنان عبد الحكيم قطيفان للحديث عنها.
لا يكفي ان تكون قضيتك عادلة ليتفاعل الناس معها؛ إن لم تكن هناك صورة تخدمها وشخصيات معروفة لدى الناس تتبناها، ومن ثم أن تكون قادرا على عرضها بطريقة غير منفرة أو مستفزة لمن تعاطفوا معك أو هم في طريقهم ليفعلوا ذلك.
رغم سلبية غياب المسؤولين عن المشهد في قضية الطفل ريان على مدار الأيام الخمسة، إلا أنها كانت إيجابية في ترك الشعوب تتضامن مع بعضها بعيدا عن استغلال أي مسؤول لمثل هذه القصص.
المحزن في قضية الاستغلال هم أولئك الذين يقتاتون على مآسي الناس وينشرون الأكاذيب والصور المفبركة لحصد الإعجابات وزيادة المتابعين، وأعتقد أن الجمهور العربي على منصات التواصل تعلم درسا مهما من خلال قصة ريان المؤلمة، في كيفية تلقي الخبر والمصادر التي يمكن أن يتلقى منها المعلومة الصحيحة.
التفاعل الإنساني لشعوبنا في ظل الظروف الحالية يتناسب عكسيا مع وجود ضريبة على هذا التفاعل، وكلما كانت التبعات أقل كلما رأيت معدن هذه الأمة الأصيل والخير الكبير الموجود في نفوس الناس
من المهم أن نضع في اعتبارنا أن منصات التواصل الاجتماعي باتت أكثر تأثيرا هذه الأيام عما كانت عليه في 2011 أو قبل ذلك، وعليه الناس يتفاعلون إنسانيا مع أي قصة يمكن أن تطفو على الساحة. ولكن لنتذكر أن هذا الجمهور بعمومه غير مستعد لدفع ضريبة لهذا التفاعل، وعليه ستجده يتفاعل بصمت في القضايا السياسية مهما كانت عادلة.
لسان حال كثيرين منهم كما يفعلون مع خطيب الجمعة حين يحبون سماع خطبه الجريئة والحضور بأعداد غفيرة في مسجده، ولكن حين تقوم السلطات بمنعه من الخطابة، يسارع من كان يتابعه بشغف في الأمس إلى انتقاده اليوم ووصف خطبه بالجريئة زيادة عن اللزوم وباستخدام عبارات غير مقبولة بنقد المسؤولين!!
الخلاصة: التفاعل الإنساني لشعوبنا في ظل الظروف الحالية يتناسب عكسيا مع وجود ضريبة على هذا التفاعل، وكلما كانت التبعات أقل رأيت معدن هذه الأمة الأصيل والخير الكبير الموجود في نفوس الناس.. "والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون".