في 30 تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1989 وقع علي سالم البيض وعلي عبد الله صالح في عدن، اتفاقية الوحدة بين البلدين، وأعلنا تطبيق دستور "دولة الوحدة"، الذي كان قد أنجز قبل سنوات، وينص على أن تكون "اندماجية" وعاصمتها صنعاء، وأن يكون رئيس اليمن الشمالي رئيسا لها ورئيس اليمن الجنوبي نائبا للرئيس. وقرر الزعيمان أن يكون يوم 22 أيار (مايو) عام 1990 يوم إعلان ولادة "الجمهورية اليمنية" الموحدة.
لقد صار معروفا على نطاق واسع أن البيض هو الذي أصرَّ على الاندماج، معللا ذلك بدستور دولة الوحدة الذي لا ينص على صيغة أخرى، في حين كان علي عبد الله صالح يحمل إلى عدن مشروع دولة فدرالية أو كونفدرالية.
روى لي الجنرال علي محسن الأحمر في العام 1997 (قائد الفرقة الأولى مدرع حينذاك ونائب رئيس الجمهورية اليمنية اليوم )، أنه سمع من علي سالم البيض حرفيا أن أسبابا ثلاثة حملته على اتخاذ قرار الوحدة الاندماجية: "...أولها انهيار الاتحاد السوفييتي، وثانيها اقتطاع المملكة العربية السعودية مساحات كبيرة من أرض الجنوب، وثالثها أنه اكتشف أن حضرموت تقوم على بحيرة نفطية.
وقال لي: كنت الوحيد مع صديقي صالح أبو بكر بن حسينون (وزير النفط في حينه) الذي يعرف هذا الأمر، ولو علم المكتب السياسي واللجنة المركزية بذلك لوقفوا جميعا وبشراسة ضد الوحدة".
ربما ينبغي أن نضيف إلى هذه الأسباب حجم الكارثة التي تسببت بها الفيضانات في آذار (مارس) عام 1989 جراء الأمطار التي تساقطت بكثافة شديدة، التي جعلت الأوضاع لا تطاق في جنوب اليمن، لكن ذلك على أهميته لا يختم النقاش حول تفسير البيض ورهاناته على الوحدة الاندماجية.
أسئلة كثيرة طُرِحتْ حول اختيار البيض الوحدة عموما والصيغة الاندماجية بخاصة. من ضمنها هل كان يخشى فعلا انهيار دولة الحزب الاشتراكي، كما انهارت دول الاتحاد السوفييتي السابقة، فعمل على إنقاذها وحمايتها بواسطة الوحدة كما يستشف من حديثه لعلي محسن؟ من كان سيتولى حماية ورعاية دولة الجنوب بصيغتها السابقة، لو خرجت سالمة من الحرب الباردة، وهي على حافة الإفلاس؟ ماذا لو فشلت التجربة الوحدوية. هل يعود البيض إلى الوراء وكيف؟ هل حلمه العربي هو الأصل في قراره كما ذكر مرارا؟ ألم يكن بوسعه الاعتماد على الدعم الخليجي وإقامة دولة جنوبية كالدول الأخرى في المنطقة. أليس العالم العربي مشكلا من 21 دولة في حينه؟ هل صحيح ما نسب إليه من أنه خشي أن ينتشر خبر المخزون النفطي في الجنوب، فيتشرذم الجنوبيون ويبتعدون عن الوحدة؟ ماذا لو انقلب المشايخ وقادة في الجيش اليمني من الذين لا يحبذون الوحدة، على شريكه علي عبد الله صالح. كيف يتصرف علي البيض؟ هل كان يظن فعلا أن الدولة الشمالية هشة ويمكن للدولة الجنوبية أن تفرض النظام والقانون في كل اليمن، وأن تكون الوحدة الاندماجية محطة نحو الوحدة العربية؟ هذه الأسئلة وغيرها رد عليها البيض تلميحا وتصريحا في مناسبات مختلفة، وهي مازالت جديرة بالرد والبحث.
كان الرجل الأول في الحزب الاشتراكي، يدرك أن الدولة الجنوبية التي صنعها حزبه بلغت بالكاد سن الرشد؛ إذ لا يتعدى عمرها عقدين من الزمن، وأن رؤساءها والقسم الأكبر من قادتها تعرضوا للقتل أو النفي وما بقي غيره من مؤسسيها، ومن ثم لن تصمد بشروطها وأيديولوجيتها منفردة أمام عاصفة، كتلك التي هبت بعد انهيار الحرب الباردة، وإن صمدت فستواجه خطرين كبيرين: الأول هو خطر التفتيت وما يشبه مشروع "الاتحاد العربي" الذي طرحه البريطانيون قبل رحيلهم، وهو شرط لإدماجها في العلاقات الدولية المابعد سوفييتية. في هذه الحالة، تكون الشرعية في الدولة لأصدقاء بريطانيا أو للذين هزمتهم الجبهة القومية (رابطة أبناء اليمن ـ ما تبقى من جبهة التحرير ـ ما تبقى من السلطنات والسلاطين، فضلا عن المتضررين الجدد من النظام الماركسي)، وليس للذين طردوا المحتل البريطاني من أرضهم، فضلا عن أن مشروعا من هذا النوع يتناقض مع الثقافة السياسية للحزب الحاكم، حيث الوحدة اليمنية تمثل ركنا أساسيا من أركانها. أضف إلى ذلك أن نصف أعضاء الحزب وربما أكثرهم من ذوي الأصول الشمالية، فكيف يمكن حذفهم بمشروع "الاتحاد العربي".
من جهة ثانية، ماذا لو رد أنصار علي ناصر محمد وهم يمثلون كتلة مسلحة وشعبية وازنة، ماذا لو رد هؤلاء على "المشروع الاتحادي" بإعلان الوحدة مع الشمال وخوض حرب طويلة مع الدولة الناشئة، التي ستغيب عنها الحماية السوفييتية؟ تبقى إشارة إلى أن الأيديولوجية الاشتراكية والنظام الحزبي البيروقراطي والدولة الحديدية، هي التي وحدت الجنوب المتفتت خلال الاستعمار وشكلت مرجعية له، وأعطت شرعية للدولة الجديدة، ومن ثم فإن تغيير الأيديولوجية سيؤدي إلى تغيير الحزب وفتح باب التعددية الحزبية، الأمر الذي يضعف شرعية الدولة المركزية ويعرض الجنوب لمخاطر التفتيت مجددا، فما بالك إذا دخل النفط في هذه اللعبة، وانقسمت المحافظات بين ثرية وفقيرة، وكل يبحث عن مصيره بمعزل عن الآخر.
هنا لا بد من التمييز بين دولة شيوعية مثل بولندا ضمها الروس إلى المنظومة الشيوعية، لكنها كانت معمرة قبل الضم، ولها تراث وتاريخ طويل يتيح لها استعادة الحكم والخروج من الشيوعية ودولة ناشئة كدولة اليمن الجنوبي، التي حطمت شرعية نظام السلطنات المعمر وخلقت نظاما جديدا وشرعية جديدة، كانت تحتاج إلى زمن أطول لكي تبقى وتستمر عصية على التفتيت.
علي سالم البيض
كان البيض آخر رموز القيادة الاشتراكية التاريخية، وكان يعرف أن الجنوبيين انتصروا على الاستعمار وعرضوا الوحدة على القاضي عبد الرحمن الإرياني الذي طلب منهم التريث؛ لأن أوضاع الشمال لا تتيح ذلك. وكاد سالمين أن يحقق الوحدة مع إبراهيم الحمدي عشية اغتياله، وكان عبد الفتاح إسماعيل يريد وحدة بقوة السلاح وبالحرب ليحكم اليمن بأسره. وكان علي ناصر "براغماتيا" فتوصل مع علي عبد الله صالح إلى صياغة دستور وهياكل وحدوية. وثمة من يؤكد أن سفير اليمن الجنوبي في الأمم المتحدة عبد الله الأشطل، كان أحيانا ينطق باسم اليمنين، وكان أحمد الصياد سفير الشمال في اليونسكو يفعل الشيء نفسه. وكان البيض يعرف معنى أن يزين شعار الوحدة اليمنية مؤتمرات الحزب الاشتراكي منذ تأسيسه، ما يعني أن الوحدة والحزب الاشتراكي توأمان سياميان، لا يعيش أحدهما من دون الآخر أقله قبل الوحدة.
وكان علي سالم البيض مجبرا على النظر إلى موقع دولته الصغيرة والمتعبة وسط جيوبوليتيك المنطقة، فهي باتت منفردة على حدود تجمعين عربيين إقليميين. من جهة الشمال يحدها "مجلس التعاون العربي"، ومن جهة الغرب والشرق يحدها "مجلس تعاون دول الخليج"، وإذا ما تطلع إلى خريطة العالم العربي سيرى أن دول المغرب الكبير تجمعت في "الاتحاد المغاربي"، وأن دولته هي الوحيدة إلى جانب سوريا التي لا موقع لها في التجمعات الإقليمية العربية، وأن الحدود مع شمال اليمن هي الحدود الوحيدة المفتوحة أمامها في محيط عدائي، فكان أن أكد لرفاقه أن عالم ما بعد "الحرب الباردة" لا مستقبل فيه للدول الصغيرة أو المعزولة، وأن اندماج جنوب اليمن مع الشمال ينطوي على مصير أفضل لليمن وللدولة الجنوبية.
من الصعب أيضا التشكيك بالفكر القومي لعلي سالم البيض، فهو ينتمي إلى جيل كانت القومية والاشتراكية والوحدة خميرة ثقافته السياسية. هو نفسه عاش سنوات الجمر القومية في القاهرة، والتقى جمال عبد الناصر قبل هزيمة حزيران (يونيو) يوم كان ناصر بطل كل العرب.
علي البيض القومي العربي المصمم، أراد تجاوز الناصرية بعد "خطة روجرز" (19 يونيو ـ حزيران 1970، وتنص على وقف النار بين مصر وإسرائيل وتطبيق القرار 242 وقد قبلها عبد الناصر ورفضتها إسرائيل) وحذر معمر القذافي الذي انقلب لتوه على النظام الملكي، من التغيير الذي طرأ على سياسة ناصر الخارجية. وهو نفسه تألم في القاهرة يوم رأى ملايين المصريين المفجوعين في الشوارع حزنا على عبد الناصر، حيث كان يحضر اجتماع المصالحة بين عرفات والملك حسين للخروج من أيلول الأسود 1970. علي سالم البيض القومي الراديكالي الجريء اتخذ في فندق "غولد مور" قرارا شجاعا، بل تاريخيا بتحقيق الوحدة مع علي عبد الله صالح، واشترط أن تكون اندماجية حتى يصبح من الصعب العودة عنها.
أما رهاناته على الوحدة الاندماجية فلم تتسم بالخفة، بل كانت مشروعة تماما. وأولها تشكيل يمن موحد يملك قوة ديموغرافية أساسية في جنوب الجزيرة العربية (حوالي 14 مليونا في حينه) ويشرف على مضيق "باب المندب" وعلى بحر العرب ومدخل المحيط الهندي، ويتمتع مجتمعه الشاب بدينامية ناهضة ويمتلك جيشا قد يصبح الأقوى في شبه الجزيرة العربية، ويحتل موقعا أساسيا في تجمع إقليمي هو "مجلس التعاون العربي"، ويمتلك ثروة نفطية وغازية متوسطة يمكن توظيفها في خدمة الوحدة.
ومن غير المستبعد رهان البيض على أن الوحدة الاندماجية ستقطع العلاقات أو ستضعفها بين علي عبد الله صالح والمملكة العربية السعودية، وسيكون صالح بحاجة للبيض لمساعدته في مواجهة القبائل الذين تدعمهم المملكة، ومن ثم سيكون اللاعب الأقوى في اليمن الموحد. هذا التقدير ليس ساذجا، فقد أخبرني رئيس الوزراء الراحل عبد العزيز عبد الغني أن الأمير سلطان بن عبد العزيز المسؤول عن الملف اليمني في المملكة العربية السعودية، كان يضرب على الطاولة غاضبا حيال اندفاع صالح الوحدوي، وإهماله المصالح السعودية وخروجه عن خط التعاون بين البلدين ضد نظام الجنوب، وذلك رغم الانفتاح الذي أبداه الجنوبيون تجاه دول الخليج في حينه.
معلوم أن التوتر بين المملكة العربية السعودية وشمال اليمن كاد يصل إلى الاشتباك الحدودي عام 1987 بسبب اقتطاع المملكة أراضي شمالية، ومنعها شركة توتال الفرنسية من التنقيب عن النفط في مناطق يمنية حدودية. وبلغ حده الأعلى عندما انتسب علي عبد الله صالح إلى مجلس التعاون العربي عام 1989. وسيتضح من بعد أن أنصار المملكة في اليمن عبروا علنا عن رفضهم للوحدة، ومن بينهم ضباط في الجيش ووجوه قبلية من حاشد، بل من منطقة سنحان مسقط رأس الرئيس علي عبد الله صالح، فضلا عن الإسلاميين الذين كانوا يخشون أن يطبق الحزب الاشتراكي سياسته العلمانية، وأن يحارب القبلية كما فعل في جنوب اليمن حيث تم قمع متدينين وقبليين. وقد أكد لي الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر هذا الرفض في مقيله (2 ـ 8 ـ 1997)، وحرصت على أن يسجله مساعده عبدالله الوادعي على ورقة رسمية أنشرها للمرة الأولى في هذه الحلقة؛ إذ يقول حرفيا: "كنت أرفض الوحدة مع الماركسيين فقط؛ لأنني كنت أعرف أنهم سيدخلون للتآمر علينا. أما الوحدة الحقيقية فنحن دعاتها ونحن حماتها، وقد دافعنا عنها وحميناها".
ولعل البيض راهن أيضا على تمثيله القوي في اليمن الموحد، فهو يحتفظ بتأثير مهم في المناطق الوسطى الشافعية التي تزود الدولة في الشمال بالقسم الأعظم من كوادرها، ويحتفظ بتأثير قوي في صفوف معارضي علي عبد الله صالح الناصريين والاشتراكيين والبعثيين، وعدد كبير من زعماء القبائل الزيود. ولعله راهن على استمالة أقسام من قبائل "بكيل" بمواجهة قبائل "حاشد" الحاكمة في الشمال. وكان يراهن أيضا على تهميش علي ناصر محمد وأنصاره، لذا وضع شرطا بأنه لن يصل إلى صنعاء مع وجود علي ناصر محمد في المدينة، بل يجب أن يخرج إلى بلد آخر. أما قادة مجموعته فعليهم البقاء خارج العاصمة اليمنية لمدة سنتين على الأقل، وقد نفي قسم من هؤلاء إلى صعدة أو جوارها.
لكن على الرغم من قناعته، فإن البيض كان ما زال مترددا بعد في 29 تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1989. وهنا يروي سالم صالح محمد أنه خاض حوارا مع علي عبد الله صالح حول الوحدة في تعز بتكليف من البيض، الذي تأخر بالرد على اقتراحه بإنشاء وحدة فدرالية، فكان أن غضب صالح وقرر العودة إلى صنعاء، بيد أن سالم صالح وآخرين هدأؤوا من روعه وتمنوا عليه أن ينتظر لوقت قصير للاتصال بالبيض الذي رحب بالرئيس صالح، وأمضى معه ساعات طويلة دون أي من المرافقين، بل قاد البيض سيارته في شوارع العاصمة الجنوبية، وصالح إلى جانبه على ما يروي سالم صالح محمد في كتابه (مدن تسكننا ونسكنها).
ويروي مقربون من الأمين العام الاشتراكي السابق، أن الناس كانوا يعترضون سيارة البيض وصالح في الشوارع، وقد حاولوا رفعها مرارا مهللين ومغتبطين لخبر الوحدة، ولعل ذلك عزز شعور البيض بوجوب التوقيع على الاندماج بين الدولتين والتأسيس لجمهورية يمنية موحدة.
ويُنقلُ عن الراحل جارالله عمر أن الرجلين اتفقا على الوحدة الاندماجية في "نفق غولد مور" (ينسب إلى فندق موروث من عهد البريطانيين)، وأنه أطلق تعبير "اتفاق النفق" إذ كان يرغب ومعه جماعة أخرى في وحدة فدرالية أو كونفدرالية متدرجة، تماما كما كان يأمل علي عبدالله صالح، إلا أن البيض قلب الطاولة على الجميع وأصر على الوحدة الاندماجية، بل ذهب إلى الحد الأقصى مع حزبه الذي اتخذ قرارا بالوحدة الكونفدرالية، فعرض البيض الصيغة الاندماجية في اجتماع المكتب السياسي مشترطا الموافقة عليها أو استقالته، فكان أن خضع الجميع لقراره ما خلا صالح منصر السييلي وسعيد صالح سالم اللذين تحفظا على القرار.
تجدر الإشارة في هذا المجال إلى أن البيض كان يتعرض داخل الحزب الاشتراكي لضغوطات كبيرة من الكتلة التي تمثل الضالع ويافع، التي انتصرت في كانون الثاني (يناير) 1986؛ فقد أصر البيض بعد يناير على تحرير الدولة من الضغط الحزبي بأن أخرج الحزبيين من موقع الرقابة على الإداريين، وفتح باب النقاش واسعا داخل الحزب على وجوب اعتماد إصلاحات حقيقية، وإعادة النظر بالقواعد الاشتراكية الصارمة التي بينت التجربة فشلها، بيد أن مبادرته لاقت صدى سيئا بين أنصار الكتلة المذكورة، بل "ارتفعت أصوات فيها تطالب بالتظاهر ضد غورباتشوف". ويعتقد مقربون من البيض أنه ما كان راغبا في تأسيس تكتل مضاد كي لا يصل الأمر إلى يناير آخر، وأنه ترك الخيار في أمر الوحدة للمؤسسة الحزبية، فكان أن قرر الحزب ما قرره البيض حول الوحدة الاندماجية.
كان رهان البيض ينطوي على أرباح شبه مضمونة من بينها الحفاظ على دولة جنوبية مهددة بنتائج الحرب الأهلية ونتائج الحرب الباردة معا، وتصنفها الولايات المتحدة الأمريكية في خانة الإرهاب، وتعاني من شح قاتل في ميزانيتها، والدخول في الوحدة بحزب حداثي منظم مقابل حزب المؤتمر الشعبي العام، الذي يوحي بأنه أشبه بتجمع موظفين منه بالحزب القوي المتحد الذي يصمد في المجابهات. دخل البيض إلى وحدة مشروطة بالتعددية والديمقراطية والانتخابات الحرة التي يتحول فيها الزيود والقبائل إلى أقلية، إذا ما اجتمعت المناطق الوسطى الشمالية مع المناطق الجنوبية.
ويدخل البيض في "وحدة" قد يتغلب فيها تيار الحداثة الشمالي والجنوبي على الأقلية السياسية الشمالية. يدخل بدولة متقشفة وشبه مفلسة ويحل مشكلتها الاقتصادية بأسهل السبل، ويدخل الوحدة الاندماجية بطلا قوميا عربيا ويطوي كل حساب دموي للتركة الاشتراكية، التي لن يسأل أحد عن أفعالها مادامت شريكا أساسيا في مشروع تاريخي.
في المحصلة، كان رهان البيض عبقريا وكان تاريخيا وسيلمس ذلك في أول مناسبة عامة، إذ كان نجم قمة بغداد العربية عام 1990 التي دخلها جنبا إلى جنب مع الرئيس علي عبد الله صالح وجلس معه في مرتبة واحدة، وليس بمراتب رئيس ونائب رئيس. أما في الداخل اليمني، فقد جاء البيض إلى صنعاء بطلا للديمقراطية والتعددية السياسية وحرية تشكيل الأحزاب، وذلك إلى حد أن أحد الساسة المحليين أنشأ حزبا مفتوحا لانتساب اليهود إلى صفوفه، فأطلق عليه العامة اسم "حزب اليهود".
جبل حقات.. حيث تم قسم الوحدة اليمنية
يقع جبل "حقات" في منطقة كريتر مقابل "المعاشيق" ويطل على "قلعة صيرة". في ركن من "حقات" بنى أحد المستوطنين البريطانيين منزلا صغيرا سكن فيه علي سالم البيض بعد الاستقلال. في هذا المنزل المتواضع وفي مقيل هادئ لم يحضره إلا نفر من الأمنيين من الطرفين، طلب علي عبد الله صالح من مضيفه نسخة من القرآن الكريم، ودعا البيض لأن يقسم كل منهما على القرآن ألا يخون أخاه ويطعنه في الظهر، وأن يحل الطرفان كلَّ خلاف مهما علا شأنه بالحوار والتنازل. رد البيض بالقول: لا يحتاج الأمر إلى قسم. أنا بدوي وأحترم كلامي ولم أخن عهدا قطعته من قبل، ولكن إن كنت مصرا على القسم، فلنتوكل على الله ونقسم على ما أردت.
(تشاء التطورات اليمنية أن يقع المنزل الذي احتضن َقسَمَ الوحدة الاندماجية في قبضة الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر بعد حرب العام 1994 ويروى أن الشيخ دُهِشَ لتواضع المنزل، وقرر أن يبني قصرا في المكان نفسه، سيتخلى عنه ورثته عام 2014، لكنه سيقع مجددا في قبضة أنصار الله عام 2015، الأمر الذي دفع قوات التحالف إلى قصفه وتحويله إلى خربة مهجورة).
سيتفق صالح والبيض في "حقات" ليس فقط على الديمقراطية والتعددية السياسية واقتصاد السوق فحسب، وإنما أيضا على تمركز أفضل الوحدات العسكرية الجنوبية في أقصى الشمال وأفضل الوحدات العسكرية الشمالية في أقصى الجنوب؛ وذلك لحماية الرئيسين من محاولات انقلاب ضدهما، وسيتفق الطرفان على دمج مؤسسات الدولتين على قاعدة وزير ونائبه من الشمال والجنوب أو العكس، وأن تعتمد الدولة الموحدة أفضل القوانين الناجحة في الدولتين.
هل كانت رهانات البيض واقعية؟ هذا ما سنفحصه في الحلقة القادمة.
اقرأ أيضا: سالم البيض.. اشتراكي يمني اختبر أفكاره السياسية ودفع ثمنها
اقرأ أيضا: البيض.. هاشمي جذبته القومية والاشتراكية والوطنية الديمقراطية
اقرأ أيضا: البيض.. هكذا انتصرنا على بريطانيا ووحدنا 22 مشيخة وسلطنة
اقرأ أيضا: البيض.. راديكالي بحكومة ثورية هدفها نفط الخليج وتحرير فلسطين
اقرأ أيضا: علي سالم البيض.. فقد مناصبه السياسية بسبب زواجه ثانية
اقرأ أيضا: كيف نجا البيض من مجزرة التواهي ووصل إلى السلطة في معاشيق؟
اقرأ أيضا: علي سالم البيض يكتب الفصل الأخير في سيرة النظام الاشتراكي
الأحمر: حذرني السلال من الفقهاء ولست ديك رمضان زمن الأرياني
الأحمر.. مشيخة معمرة في بيئة إسلامية لم تخترقها الكولونيالية
لماذا أعلن علي سالم البيض الانفصال ولجأ إلى سلطنة عُمان؟