لا يمكن فصل قرارات البرلمان الأخيرة عن الصراع الممتد منذ العام 2014م والذي خلف انقساما ما يزال قائما ولا يزال يتحكم في مواقف أطرافه، ولا أبالغ إن قلت إنه المحرك الرئيسي لموقف الجبهة الشرقية حتى وإن بدا أن قطاعا واسعا من الجبهة الغربية تناصرها فيه.
دوافع لا يمكن إنكارها
لتوضيح وجهة النظر التي تفسر ما يجري بمنطق الصراع وليس بمقاربة الصلح والسلام نبدأ بطرح السؤال الجوهري وهو: لماذا يصر رئيس البرلمان ومن ناصروه في موقفه على إقالة حكومة الوحدة الوطنية، وجعل التغيير الحكومي الأولوية القصوى؟
ولمحاولة الإجابة على هذا السؤال المهم ينبغي الوقوف على تبريرات عقيلة صالح ومن يناصرونه في الشرق والغرب والتي تنحصر في سببين اثنين هما:
ـ تحميل الحكومة المسؤولية في الفشل في إجراء الانتخابات.
ـ الفساد العظيم الذي وقعت فيه الحكومة.
البحث المعمق في الأسباب المشار إليها أعلاه يكشف أنها مجرد مبررات دعائية لتمرير مقاربة سياسية لا يمكن القطع بأنها تتمحور حول المصلحة الوطنية، بل إن هناك ما يدلل على اقترانها بمشروع التحكم في مفاصل الدولة وفي القرار السياسي والمالي.
تقرير المفوضية العامة للانتخابات بخصوص العملية الانتخابية والإخفاق في إجراء الانتخابات في موعدها لا يقود إلى النتيجة التي جعلها البرلمان سببا أساسيا لإقالة الحكومة، فأسباب تعثر الانتخابات باتت معلومة للجميع، صحيح أن من بينها تقدم عبد الحميد الدبيبة للانتخابات مخالفا بذلك المواثيق التي أعطاها، إلا أن أبرزها تعود إلى المقاربة القاصرة للأساس القانوني للانتخابات التي اعتمدها البرلمان والإدارة المضطربة للعملية الانتخابية من قبل المفوضية.
مكانة حفتر ورغباته كانت ولا تزال محددا أساسيا لسلوك جمهرة من أعضاء البرلمان، وتقصي سلوك هذه الكتلة المؤثرة في البرلمان منذ بداية الانقسام السياسي يؤكد أن موقع وطموح حفتر كان من بين أبرز المحددات لموقفها، ولا يوجد ما يقطع بتغير هذا الارتباط اليوم.
وبرغم إقرارنا أن فسادا كبيرا شاب قرارات الحكومة، إلا أنه لا يستقيم مبرر لإقالتها وقد وقعت الحكومات السابقة في فساد وكان لحكومة الثني في الشرق الحظ الأوفر منه وأهدر حفتر أموالا طائلة تسببت فيما هو أخطر من الفساد ولم يتم إقالة الثني أو سؤال حفتر عن الهدر والعذابات التي تسبب فيها، دع عنك محاسبته أو إقالته.
ارتباط لم يتغير كليا
مكانة حفتر ورغباته كانت ولا تزال محددا أساسيا لسلوك جمهرة من أعضاء البرلمان، وتقصي سلوك هذه الكتلة المؤثرة في البرلمان منذ بداية الانقسام السياسي يؤكد أن موقع وطموح حفتر كان من بين أبرز المحددات لموقفها، ولا يوجد ما يقطع بتغير هذا الارتباط اليوم.
أعتقد أن المجموعة الفاعلة في البرلمان بقيادة رئيسه استطاعوا المناورة بذكاء لتمرير التغيير الحكومي من خلال إرضاء رئيس المجلس الأعلى للدولة الذي ركز على التوافق حول الأساس الدستوري والقانوني للانتخابات، وليس هذا اعترافا صادقا بمكانة الأعلى للدولة في العملية السياسية، فإلى فترة قريبة كان لسان حال عقيلة صالح والمجموعة المتحولقة خلفه في البرلمان أن لا مكانة للأعلى في الانتقال وأنه مجرد جسم استشاري وليس سلطة مكملة للبرلمان، والتغيير في الموقف يتعلق بالحاجة لدعم الأعلى للدولة لتمرير مقاربتهم، ومسارعة حفتر للموافقة على قرار البرلمان بتعيين باشاغا رئيسا للحكومة يؤكد وجهة النظر هذه.
موقف المناصرين في الغرب
يرى من ناصروا التغيير الحكومي من الجبهة الغربية سواء كانوا أعضاء بالبرلمان أو ضمن المجلس الأعلى للدولة أو النشطاء السياسيين أنه يدعم وحدة البلاد وأن الظروف الداخلية والخارجية تمنع تكرار سيناريو ما قبل العدوان على طرابلس حين ارتمى السراج في حضن البرلمان وحفتر ليغدروا به بعدوانهم على العاصمة، وقد يكون تكرار ما وقع مع السراج صعبا إذا مُكن لباشاغا وتبنى رؤية متماسكة وتوازنا عسكريا وأمنيا يمنع تغول حفتر ومن ثم انقضاضه للسيطرة الكاملة على مفاصل الدولة.
ويعتمد نجاح هذا التوجه على وجود حاضنة قوية في الداخل ودعم إقليمي ودولي ورؤية تقوم على الموازنة بين متطلبات الوحدة والاستقرار والحذر من الاستخدام والتوظيف ضمن مشروع الهيمنة الذي يمثل حفتر رأس الحربة فيه وتدعمه قوى خارجية.
سيناريوهات
لأن الدافع وراء قرارات البرلمان معلوم والإجراءات التي اتبعها مضطربة وردة الفعل عليها قد توسعت في الغرب الليبي فإننا نقف على سيناريوهين قد تنتهي الأزمة الراهنة إلى أحدهما، أولهما: اتفاق المجلس الأعلى، أو أغلبية أعضائه، على إقرار ما صدر عن البرلمان ثم موافقة المجتمع الدولي ممثلا في البعثة الأممية والدول الغربية على التوافق بين الجسمين. عندها يضعف موقف الدبيبة الرافض للتسليم لباشاغا، وننتقل إلى وضع شبيه لما بعد انتخاب البرلمان ثم اتفاق الصخيرات اللذين همشا حكومة الإنقاذ في طرابلس والحكومة المؤقتة في البيضاء.
وثانيهما: تعاظم حالة الرفض لقرارات البرلمان ليكون لها انعكاسها على المجلس الأعلى للدولة فيتلكأ في دعم قرارات البرلمان وبالتالي يتردد المجتمع الدولي في دعم الحكومة الجديدة ونصير إلى انقسام جديد ووضع شديد التأزيم يتطلب ضغوطا دولية للملمته عبر جولة جديدة من التفاوض.
الخاسر والرابح
بمنطق الصراع وبوصلته فإن الجبهة الشرقية بقيادة عقيلة وحفتر هي المنتصرة في هذه الجولة وذلك بتصديرها الصراع إلى الجبهة الغربية ودق إسفين في مصراتة التي تمثل عصب القوة في الغرب الليبي، والنتيجة مزيد من التشرذم في القاعدة العريضة التي وقفت أمام مشروع المغالبة سياسيا وعسكريا.
البعثة الأممية والخلاف المحتدم في مجلس الأمن
الإرهاب.. سلاح الثورات المضادة