تعلمنا مذ كنا صغارا، أن المواقع والمناصب لا تصنع شجعاناً وأبطالا، بل الشجعان والأبطال هم من يصنعون المواقع والمناصب ويكسونها هيبةً وإجلالا، وتعلمنا أن ليس كل من يدَّعي الأمانة بأمين، فإثبات أو نفي الصفة مرتهنٌ بسلوك من يدَّعي حمله لها.
ولو عرضنا على ما تعلمناه
منظمة التحرير وهي في عهدة رئيسها
محمود عباس، فستكون نتيجة العرض وبحسب التشخيص المجرد من أي افتراء: منظمة تحرير ينضح واقعها بما ينتزع نصيبها من الاسم، وواقع يعج بكل ما يُسيء لنضالها ويخدش تاريخها الثوري المصنوع ببطولات وتضحيات ثوار فصائل المنظمة الذين أوجعوا العدو وأبدعوا في إساءة وجهه، وسجلوا بعملياتهم النوعية حضورا حاشداً للتفاخر والإعجاب في مختلف البقاع والأصقاع، وهذا أعطى في حينه منظمة التحرير حق تبوؤ مكانة الممثل الشرعي والوحيد لشعبنا
الفلسطيني.
كثر قادة وجندا من يُنسب إليهم فضل امتلاك شعبنا هذه المؤسسة الثورية التي شكلت على مدار عقود ملاذاً وحاضنة لكل ثائرٍ وفدائي، عقود سبقت حقبة تجريد المنظمة من أوراق قوتها الثورية على يد أبي مازن الذي وضع يده على رئاستها منذ 17 عاما. أخذ أبو مازن على عاتقه مسؤولية تهميش المنظمة وإيداعها ضمن قائمة الانتظار للاستدعاء وقتما دعت حاجته إليها. واجتماعات المجلس المركزي خير شاهدٍ، فيُستدعى لتأكيد صواب قولنا.
فالسادس من شباط/ فبراير الجاري شهد افتتاح جلسات المجلس المركزي لتكون أداة تعيين أشخاص ذوي منهج تخريبي ضار بقضيتنا، تعيينات تجعل أبا مازن مطمئنا لاستمرار سيطرة فريقه على مقاليد منظمة التحرير، وتجعله مرتاحا مطمئنا لبقاء نهجه بعد رحيله.
وقد جاء في مقدمة تعيينات أبي مازن غير
الشرعية حسين الشيخ، أميناً لسر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، وهو إحدى الشخصيات المفضلة لدى أبي مازن ولدى قادة الاحتلال. هذا التفضيل جاء تتويجاً لالتزامه الحرفي باستراتيجية أبي مازن في التعامل مع الاحتلال؛ الاستراتيجية القائمة على تنشيط سوق التعاون الأمني والمساهمة في ازدهاره لضمان إحباط أي عمل مقاوم، مع اعتماد خطة الهجوم الكلامي على الاحتلال عند ارتكابه الجرائم بحق شعبنا، ورميه بالتصريحات النارية غير المألوفة والمغلفة بالتهديد والوعيد المنسجم مع حالة غضب جماهير شعبنا، لتترك انطباعا لم يكن يوماً عابراً للحدث؛ بأنهم حاضرون في ميدان مقاومة الاحتلال.
وكلنا تابعنا التهديد الذي أطلقه أبو مازن بعد جريمة اغتيال ثلاثي كتائب شهداء الأقصى في نابلس بعد أن استعار لسان الثائر وقال: سنرد الصاع صاعين. والتهديد ليس جديدا، وهو يُضاف إلى ما سلف من تهديدات شبيهة تنتظر الترجمة الفعلية بصحبة قرارات المجلس المركزي المتخذة منذ عام 2015، والمتعلقة بوقف التنسيق الأمني وتعليق الاعتراف بإسرائيل؛ قرارات مهمة قاطعها التنفيذ لكن لم يقاطعها الحضور في البيانات الختامية لكل اجتماع مجلس مركزي لاحق ومنها الاجتماع الأخير.
المسافة الفاصلة بين سلوك أبي مازن، رئيس المنظمة والسلطة وفتح، وقوله، تتسع مع كل موقف ويستحيل تقليصها في حضرة انشغاله بزيادة مساحة إضعافنا وإنقاص مساحة الانقضاض على الاحتلال. منذ 17 عاما وأبو مازن يُخضع منظمة التحرير لجراحات تشويه أصابتها بالعمى والكُساح، فهي اليوم لم تعد تُبصر طريق التحرير، ولم تعد تقوى على مواصلة السير فيه، ونراه يوصد أبوابها بإحكام ويقطع الطريق على كل محاولات فتحها أمام أمناء القضية العاضين على ثوابتنا الوطنية بالنواجذ، ويعينه في هذا ذوو الأنفس اللاهثة وراء المخصصات المالية والامتيازات القيادية التي تودع في أرصدتهم البنكية والنفسية؛ مقابل هزة رأس تؤكد على مباركتهم لكل ما تَخُطُه يمين فخامة الرئيس المستمر في تسجيل حضوره المتميز في ميدان إهدار وتبديد مقدراتنا النضالية.
أبو مازن يُبصر طريقه جيدا ويعرف مآلات سياساته التي تُطيل عمر الاحتلال، وتضمن عدم دفعه أي أثمان بل وتُنقص كلفة احتلاله لأرضنا، أبو مازن وفريقه لم يعد لديهم أي رؤية وطنية واضحة يتحركون تحت سقفها، بخلاف تلك الرؤية الأمنية التي يعملون وفقها بما يجعلهم ذوي فائدة تعطي أهمية لوجودهم لدى الاحتلال المنشغل والمنخرط اليوم في عملية انتقاء خليفة أبي مازن من سوق التعاون الأمني الذي لم يعد كاسداً، فتعدد وجودة الشخصيات المعروضة في هذا السوق أصابت الاحتلال بالحيرة والتردد، وجعلته يفكر في توزيع رئاسات أبي مازن الثلاث على ذوي السيرة المفضلة بالنسبة له.
بعد 17 عاماً من رئاسة أبي مازن للسلطة والمنظمة وما شهدته من انتكاسات وطنية، وبعد رفضه المطلق العودة إلى الشعب لتجديد الشرعيات عبر الانتخابات، وبعد إفشاله لكل محاولات ترتيب البيت الفلسطيني وتقوية أركانه، وبعد فشل كل محاولات إقناع أبي مازن بتغيير مساره والكف عن تقديس التعاون الأمني مع الاحتلال وعن تجريم مقاومته.. نستطيع القول لكل من ينتظر حدوث صحوة وطنية لدى أبو مازن (وهذا رجاؤنا): إنكم تنتظرون كانتظار من يريد رخصة الجمع بين الوضوء ونواقضه، واعلموا أن نزع يد أبي مازن وفريقه عن منظمة التحرير لن يكون بالخطاب العاطفي، ولا بردود الفعل على خطواته الاستفرادية التي لم تتجاوز ما اعتاد عليه أبو مازن.
فالخلاص من هذا الفريق لن يتحقق بأرباع مواقف للفصائل ولا بأنصاف تحرك، فالمطلوب قرار واضح بمقاطعة أبي مازن وفريقه وإدخالهم في حالة عزلة سياسية، والشروع في الخطوات العملية لتشكيل جبهة وطنية تباشر مسؤولياتها السياسية والميدانية لمواجهة الاحتلال الذي يقتل اليوم أبناء شعبنا في جنين ونابلس، ويعتدي على أهلنا في الشيخ جراح.