عقد الأمين العام لحلف الناتو يوم الثلاثاء 15 شباط (فبراير) الجاري مؤتمرا صحفيا في بروكسيل قال فيه بالخصوص: إن العالم الحر الذي يحميه الناتو هو الضامن للحريات والديمقراطية ولكن أمامنا عاصمتان هما بيجين وموسكو لا تؤمنان بقيمنا وتريدان الإستيلاء بالقوة على شعوب حرة إختارت الإنضواء تحت رايتنا...!
هذا البوح السياسي الخطير في زمن الأزمة الأوكرانية لا يبشر بخير ولكنه على الأقل يعلن عن اختلاف جوهري في التوجهات بين حلف الناتو وبين قوتين هما الصين و روسيا غير مرتاحتين لعالم أحادي القوة. وفي هذه المحطة التاريخية الحساسة نجد أن أغلب شعوب العرب تتخبط في عواصف خطيرة من الصراعات الأهلية وعودة الاستعمار التقليدي و معاناة العزلة الإقليمية والدولية في عالم هو نفسه معرض لكل المخاطر.
فالتهديد الأكبر اليوم ونحن في شباط (فبراير) 2022 هو في الحدود ما بين أوكرانيا وروسيا.. وبعيد عنه في تايوان المهددة بالغزو الصيني. محن معلنة على أبواب إعادة رسم خرائط العلاقات الدولية برفض الأحادية الأمريكية التي امتدت من 1989 تاريخ سقوط جدار برلين ونهاية الحرب الباردة ونحو الإتحاد السوفييتي إلى اليوم وأصبحت بيجين وموسكو تطالبان بتشكيل عالم ثلاثي الأضلاع (أمريكي روسي صيني)..
ونحن العرب أمام هذه التحولات الأكبر منا لا نزال نعتقد أن لنا وزنا ذاتيا بين قوى العالم الثلاثة، ونرى أن السودان واليمن وسوريا ومصر وتونس وليبيا تدخل منطقة الرياح العاصفة وما يشبه الأعاصير من جراء الانقسامات وتضارب الشرعيات وتفاقم المخاطرالداخلية والخارجية بعد الحلم بربيع قادم مأمول بدأ من تونس.
وقد لفت نظري منذ أيام رسم كاريكاتوري على صحيفة (الحقائق) الصادرة بلندن للفنان المبدع ماجد بدرة رسم فيه مواطنا عربيا يدفع صخرة أكبر وأثقل منه من سفح الجبل إلى قمته كتب عليها الرسام عبارة (الوفاق الوطني). وقد كان الرسم أروع وأفصح وأبلغ من مقال جسد صعوبة بل استحالة السعي وراء الوفاق الوطني في بلداننا العربية.. فكلما دفع (سيزيف) العربي المسكين صخرة الوفاق بصدره وذراعيه نحو القمة إلا وتهوي من جديد نحو السفح.. وهكذا دواليك منذ نصف قرن من الصدام المرير بين الدولة العربية الحديثة التي جاءت بها مرحلة الاستقلال وبين شرائح من المجتمع العربي تريد تقويض البناء من أساسه لإصلاح الخلل فيه أو محاورة النخب الحاكمة بالتي هي أحسن بل بالشعبويات الجوفاء والتطاحن.
لقد ساد منذ عقود من العصر الحديث منطق موسى وفرعون كأنما امتلك بعض الناس فجأة عصا موسى عليه السلام وأصدروا حكما جائرا وباتا على النخب الحاكمة بأنها هي فرعون وأنها هي الطاغوت ولكن دون الاستماع حتى لقول الله تعالى الذي أمر موسى وأخاه هارون بأن يقولا لفرعون قولا لينا..
وهذه الحال العربية مع الأسف متواجدة في أغلب بلاد العرب باختلافات طفيفة في الحدة والشدة واللين والغلظة والقوة والدفع لكنها صراعات أهلية مفتوحة لا نرى لها في جل الحالات حلولا ترضي الجميع. وبصراحة لا أرى لنفسي شخصيا ولقلة من المثقفين الوطنيين العرب غير هذا الرسم لماجد بدرة للتعبير عن المعاناة التي نلقاها من هنا وهناك كلما دعونا للحوار المسؤول وللوفاق الضروري بغاية رأب الصدع الذي أصاب مجتمعاتنا منذ انحياز بعض مكونات المعارضة المتشددة إلى العمل العنيف في بلاد لم تتهيأ لقبول انتفاضات مجهولة العواقب وخيمة النتائج، في مجتمعات لا تدرك نوايا المتشنجين لأن الأغلبية تشعر بالأمن وبالاستقرار ضمن أطر الدولة الحديثة رغم النقد الطبيعي لبعض مظاهر الضيم أو البطء في تحقيق المأمول.
ولقد ساد منذ عقود من العصر الحديث منطق موسى وفرعون كأنما امتلك بعض الناس فجأة عصا موسى عليه السلام وأصدروا حكما جائرا وباتا على النخب الحاكمة بأنها هي فرعون وأنها هي الطاغوت ولكن دون الاستماع حتى لقول الله تعالى الذي أمر موسى وأخاه هارون بأن يقولا لفرعون قولا لينا.. وهذا المنطق الخاطئ هو الذي نشأت عنه ردود الفعل العنيفة من قبل الماسكين بدفة الحكم والتي صعب بعدها ايجاد حلول عقلانية لأزمة سوء التفاهم العميقة والقاسية والطويلة.
وطالما فوجئت بسهولة وعبثية التصنيفات التي يقوم بها البعض من الشباب للناس من حولهم كأنما المطلوب أن نوضع في قوالب جاهزة من الشعارات والانتماءات والأيديولوجيات لا نخرج منها وإلا وجهوا إلينا تهما جاهزة هي الأخرى بالنفاق والمروق والتذيل خاصين أنفسهم بالطهارة والعصمة واحتكار الحق بينما الواقع السياسي في بلاد العرب جميعا واقع أكثر تعقيدا وتشابكا وتنوعا من الأحلام الطوباوية.
فالخير ليس له ضفة واحدة والشر ليس له الضفة الأخرى. وليس هناك جناح انفرد بالأبيض الناصع وجناح أصابته لعنة الأسود القاتم. وأنك تجد الصالح في كوادر الدولة ووزاراتها وفي هياكل الأحزاب الحاكمة كما تجد الصالح لدى المختلفين مع التوجهات الرسمية بنفس النسب مما لا ينفي تواجد الطالح هنا وهناك أيضا.
وسر التقدم هو في إدارة الاختلاف من دون حقد والتباين بلا ضغينة وتوخي سبل الكلمة الطيبة من أجل الإصلاح دون قطع شعرة معاوية لسبب عقلاني بسيط هو أنه لا بديل عن هذه السبيل ولا مناص من هذا النهج القويم. وأننا نريد أن نستلهم من تجارب الأمم التي تقدمت علينا في الفكر السياسي وبلغت بالترفع عن الأحقاد شأوا بعيدا من التقدم والرفاه والأمان. وبلدان الاتحاد الأوروبي في مقدمتها بحيث نرى نماذج من إدارة الاختلاف والتنوع تدعو للإعجاب والتقدير، فالمملكة البلجيكية مثلا تتشكل عرقيا وثقافيا ولغويا من ثلاثة شعوب، طالما شنت الحروب على بعضها البعض في محطات عديدة من تاريخها، ثم استقرت أحوال المملكة على فيدرالية متوازنة ومتحضرة لم تمس من جوهر الانتماء لبلاد واحدة وراية واحدة ومصير مشترك. كذلك الأمر في بلاد سويسرة، حيث تتعايش شعوب ثلاثة أيضا لتصنع مستقبلها وتحقق أعلى نسب النمو والدخل الصافي في العالم.
دوافع الانفتاح الأرجنتيني البرازيلي على موسكو وبكين
المسلمون ساهموا في تأسيس أوروبا الحديثة
هل ينجح شي وبوتين في التأسيس لـ"حقبة جديدة"؟