بعد يوم واحد من إقدام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على إعلان إقليمي دونيتسك ولوغانسك دولتين مستقلتين، وبينما روسيا تغلق مجالها الجوي، وتعلن صراحة أنها بصدد القيام بعمل عسكري كبير في إقليم دونباس الأوكراني، استقل محمد حمدان دقلو طائرة وحل بها في موسكو، والرجل كما قد يعلم البعض، هو نائب رئيس مجلس السيادة السوداني، ويحمل رتبة فريق أول، دون أن يكون له حظ من العلوم العسكرية أو أي قدر من التعليم النظامي، ولكن سطع نجمه كقائد لمليشيا الجنجويد (جن على ظهور الجياد) الذين ارتكبوا مجازر بشعة في إقليم دارفور في غرب السودان، وبمباركة من الرئيس السوداني المخلوع عمر البشير تحولت المليشيا تلك إلى جيش خاص مشهود له بالضراوة والشراسة، وللجنجويد اليوم مؤسسات اقتصادية ضخمة تعيش عالة على موارد السودان دون رقيب أو حسيب.
وما من تفسير لحرص دقلو على زيارة موسكو في هذه الظروف التي بدأت فيها الحرب في مواجهة أوكرانيا وربما حلف الناتو، سوى أنه، ومن أوعزوا إليه بالسفر، يفتقرون للحس السياسي، بل يعانون من أمية تجعلهم عاجزين عن قراءة مشهد مكشوف، ولهذا كان من البدهي أن يتم استقبال دقلو بنجوم الصف الثالث في الحكومة الروسية، وأن يستقبله بلافتات كتبت باللغة العربية مرتزقة شركة فاغنر، وممثلو شركة ميروغولد التي استباحت في عهد دقلو ورئيسه الاسمي عبد الفتاح البرهان (رئيس مجلس السيادة السوداني) أرض السودان، واحتكرت تهريب الذهب، و"بارك الله في من نفع واستنفع" كما يقول المرتشون تبريرا لأعمالهم.
وتلك الأمية السياسية هي التي جعلت البرهان يوكل إلى دقلو مهمة زيارة موسكو والجلوس مع القادة الروس لإقناعهم بأن يكونوا ترياقا مضادا للأمريكان، الذين يضيقون الخناق على هذا الثنائي كي يوقفوا عسكرة الحكم في السودان، ويسلموا السلطة إلى المدنيين، وذلك عطفا على ما أقدم عليه الرئيس السوداني المعزول عمر البشير، عندما زار موسكو في تموز/ يوليو من عام 2018، وقال في لقاء مع بوتين ـ حرص الأخير على أن يكون مسموعا ومبثوثا على غير العادة في البروتوكولات عند تخاطب الرؤساء مع بعضهم البعض بعيدا عن الصحافة، إن "السودان بحاجة إلى حماية من العدوان الأمريكي... والأمريكان نجحوا في تقسيم السودان لدولتين وساعون لمزيد من التقسيم"، ثم عرض على بوتين إقامة قاعدة عسكرية على شاطئ البحر الأحمر، وطوال السنتين الماضيتين والبرهان ورهطه يحاولون جعل القاعدة أمرا واقعا، وربما جاء اختيار دقلو لهذه المهمة ليس لحصافته السياسية أو الدبلوماسية، بل لأنه من نفس طينة بوتين الشديد الإعجاب بالبلطجية ممارسي العنف الأهوج كما تجلى في مناصرته بشار سوريا وحفتر ليبيا ولوكاشينكو بيلاروسيا.
ولأن دقلو يحسب أن السياسة وأمور الحكم تقوم على طق الحنك، كما يقول أهل السودان عن الثرثرة الجوفاء، ولا يفوِّت حتى فرصة الوجود في سرادق لعزاء في ميت دون تقديم خطبة بتراء، فقد جلس أمام رهط من صغار المسؤولين الروس، ونثر درره المعتادة لخطب ودهم، وقال إن القانون والدستور (ولم يقل أي قانون أو دستور) يبيحان لموسكو أن تقوم بعمل عسكري "دفاعا عن مواطنيها وشعبها"، ولم يقل لنا: هل شعب أوكرانيا روسي يخضع للاستعمار؟
ما من تفسير لحرص دقلو على زيارة موسكو في هذه الظروف التي بدأت فيها الحرب في مواجهة أوكرانيا وربما حلف الناتو، سوى أنه، ومن أوعزوا إليه بالسفر، يفتقرون للحس السياسي، بل يعانون من أمية تجعلهم عاجزين عن قراءة مشهد مكشوف،
ولا غرابة في أن يزج دقلو نفسه في مواقف ولقاءات لا يملك أدوات التعامل فيها ومعها، فمنذ أن وجد نفسه الخلّ الوفي للبرهان، الذي تولى تصعيده إلى ثاني أعلى منصب دستوري في البلاد، عكف دقلو على التمدد داخل السلطة التنفيذية، متكئا على جيشه الخاص وثرواته الضخمة، وطالما أن الحكومة الإسرائيلية اصطفته كحليف موثوق به، فقد اعتبر ذلك مؤشرا على "أهميته"، ورأى أن يوسع قاعدة حلفائه الخارجيين بزيارة موسكو، خاصة أن كفلاءه الإقليميين يبدون امتعاضا من أنه والبرهان شرعا في إعادة رموز حكم البشير من الإسلاميين إلى الوظائف العليا في الدولة، بينما أولئك الكفلاء لا يطيقون حتى سيرة الإسلاميين.
ورغم الحرص الشديد من دقلو على تقديم نفسه للسودانيين كرجل دولة مخلص ونظيف وشريف وطاهر اليد، إلا أنه يدرك أن الجنجويد سيئو السمعة داخليا وخارجيا، ولهذا عكف منذ عام 2019 على الاستعانة نظير ملايين الدولارات بضابط المخابرات الإسرائيلية السابق آري بن ميناشي، ليتولى أمور "العلاقات العامة"، بحيث ترضى واشنطن عنه وعن الجنرالات الذين تسللوا إلى القصر الجمهوري في الخرطوم في نيسان/ إبريل من عام 2019، وتم تجديد التعاقد مع بن ميناشي مؤخرا، وربما وبتوصية منه تم التعاقد مع شركة مالينز رايلي آند سكاربرا التي يديرها عضو الكونغرس السابق جيم موران نظير دفعة أولى قدرها 360 ألف دولار، ورسم شهري قدره 30 ألف دولار لتعمل على تحسين العلاقات بين عسكر السودان والحكومة الأمريكية، وقد سبق لموران هذا أن زار السودان في النصف الأول من عام 2019 عندما كان البرهان وعسكره يحتكرون السلطة كاملة ووعدهم بالمن والسلوى، ثم اختفى بعد أن نال عمولته، ولكن البرهان ودقلو يلدغون من نفس الجحر عدة مرات.
وعلى كل حال فقد قام دقلو، بتأييده للعدوان الروسي على أوكرانيا، بتوريط الحكومة العسكرية في السودان في مأزق دولي بوضعها في الخندق المعادي لأوروبا وأمريكا، وبهذا تكون كل الدولارات التي تم دفعها لـ بن ميناشي وموران قد ضاعت هباء، وكما كان متوقعا فقد سارعت وزارة الخارجية السودانية إلى نفي صدور ذلك التأييد، في محاولة لاحتواء ردود الفعل الدولية لكون السودان هو الدولة الوحيدة في العالم التي جاهرت بدعم الغزو الروسي لأوكرانيا، ولكن هيهات بعد وقوع الفأس على الرأس، وتداول التأييد الدقلواوي لروسيا بالصوت والصورة الناطقة التي لا تكذب.
الغزو الروسي لأوكرانيا.. التكاليف المترتبة على تركيا
هل تنجح تسوية عدم ضم أوكرانيا إلى الناتو في حمايتها من روسيا؟
البرهان وأساليب الفهلوة واللولوة