الكتاب: سير ذاتية عربية
الكاتب: مصطفى نبيل
الناشر: دار الهلال، القاهرة
يتناول هذا الكتاب قصة ثمان سير عربية، كتبها ثمان شخصيات بينهم الكاتب والسياسي والفيلسوف والمؤرخ والمتصوف. تمتد هذه السير زمنياً من القرن الرابع الهجري حتى القرن الرابع عشر، وتغطي جغرافياً رقعة العالم الإسلامي الممتد من بخارى إلى الأندلس.
والسيرة فن أدبي رفيع أمد الدراسات التاريخية والاجتماعية بمادة لا تنضب من الصور الحية، تكشف الظلال والأضواء والألوان في الأحداث والوقائع التي تتناولها.
فقراءة سير كل من ابن سينا، والمؤيد لدين الله، والإمام الغزالي، وأسامة بن منقذ، وعمارة اليمني، ولسان الدين الخطيب، وابن خلدون، وعلي باشا مبارك، تظهر ما في تاريخ الفكر العربي من كنوز، مما يعزز الثقة بما بلغناه، ويحيي الأمل فيما يمكن أن نبلغه.
تتسم السير الذاتية بوحدة زمنية هي عمر صاحبها، تنقل الحياة الإنسانية بكل ما فيها من نقص وكمال، ضعف وقوة، يتيح لنا ذلك التعرف على عالم صاحب السيرة وقيمه وثقافته ومشاعره نحو الناس والحياة.
يكشف لنا المؤلف عن كنوز ثمينة من السير الذاتية التي يضمها التراث العربي، وهي وسيلة لتقديم التاريخ الحي، وتضع يدنا على الكثير من التفاصيل التي يمكن أن تغيب عن عين المؤرخ.
وقد تنوعت السير مع تنوع أصحابها، كما اختلفت دوافع كتابتها بين كاتب وآخر، فالبعض مثل ابن سينا يهدف إلى عرض فلسفته، ويكشف عن طبيعته الفكرية، وما يميزه في تاريخ الفكر البشري، والمؤثرات التي خضع لها، والبعض الآخر مثل المؤيد لدين الله، داعي الدعاة، كتب أغرب السير، وهو يقص علينا جهوده السياسية لنشر الخلافة الفاطمية، وهزيمة الخلافة العباسية، وغرابة هذه السيرة أنها الجزء المستور في طرق عمل دعاة المذهب الإسماعيلي، وكيف كانوا يحيكون المؤامرات سراً في سبيل دعوتهم.
ونمضي إلى القرن الخامس الهجري، فنجد رحلة عقلية شامخة قصها علينا الإمام الغزالي، ربما كانت من أهم السير الذاتية التي خلفتها لنا العصور الوسطى، ثم نلتقي بأسامة بن منقذ في كتابه "الاعتبار"، الذي يظهر بين صفحاته الأمير العربي النبيل، في مذكرات بديعة تصور الفروسية العربية أيام الصليبيين، كما تصور الحياة اليومية لأبناء الشرق، وهي مذكرات نفيسة سجل أسامة ما خبره بنفسه وشاهده بعينه.
وفي القرن السادس الهجري كتب الشاعر عمارة اليمني مذكراته في كتاب يسمى "النكت العصرية في أخبار الوزراء المصرية"، وهو عنوان خادع لا يتضمن أية نكت ولا يتناول الوزراء، وإنما ترجمة ذاتية تلقي الضوء على مأساة الشاعر، بأسلوب أدبي جميل، ومن سوء حظ الشاعر ظهوره في إحدى المراحل التاريخية الدقيقة، أيام دولة فاطمية تنهار ودولة أخرى أيوبية تقوم. وفي القرن الثامن الهجري ظهرت أكثر أصوات السير الذاتية عذوبة وبلاغة على يد لسان الدين الخطيب، ومعاصره عبدالرحمن بن خلدون، وفي ترجمته الشخصية حديث مفصل عن جهودهما السياسية إلى جانب نشاطهما الفكري. ويتعرض الكاتب لسان الدين الخطيب إلى ما يشبه محاكم التفتيش، ويلقى حتفه في ظل التناحر والصراع السياسي الذي أدى إلى ضياع الأندلس.
أما ابن خلدون فقد كتب أهم سيرة ذاتية في التراث العربي، تظهر عالم الإسلام وما ألم به، وصور من حياة مصر المملوكية، وهذه المذكرات أهم الوثائق التاريخية التي دونت عن الأندلس والمغرب ومصر والشام.
أما السير الذاتية التي كُتبت بعد ذلك، فمنها الترجمة الذاتية لكل من جلال الدين السيوطي والسخاوي، وفي العصر العثماني كتب الشعراني "لطائف المتن"، يظهر من خلالها ضعف الثقافة العربية في أواخر العصور الوسطى، ثم يختم الكاتب هذه السير بأهم من ترجموا لأنفسهم في العصر الحديث، علي باشا مبارك، الذي كتبها سنة 1889، أي قبل وفاته بأربع سنوات، وهي سيرة كاملة تعبر عن جيل النهضة.
أبو علي بن سينا (370 هـ/428 هـ): حكيم الشرق.. يعالج البدن وينير العقل
هو أبرز حكماء الشرق، اهتم به الكثير من الباحثين، وكتبوا عن إنجازاته العديد من الكتب، أبرزوا خلالها مكانته في تاريخ الفكر والعلم. يقدم المؤلف سيرته الذاتية التي لا تتجاوز بضع صفحات، لكنها تقود إلى عالمه الرحب، يقدم من خلالها نبض العصر الذي عاشه، وينقل لغة وثقافة القرن الرابع الهجري، عصر النهضة في الإسلام. وهي سيرة مشهورة أملاها ابن سينا على تلميذه أبو عبيدة الجوزجاني، ثم أكمل التلميذ بقية قصة حياة أستاذه، ويحتفظ المتحف البريطاني بهذه الترجمة ضمن مخطوطاته، ونشر المستشرق البريطاني موللر هذه الترجمة في المطبعة الوهبية في مصر عام 1300 هـ.
لقب ابن سينا في عصره بالشيخ الرئيس، وهي تسمية ليست عفواً، فالشيخ لقب علمي، والرئيس لقب سياسي، بعد أن جمع بين الاشتغال بالعلم والسياسة معاً، ويلاحظ على العصر الذي بزغ فيه، أن التفاعل كان قائماً بين كل ثقافات العالم، وكانت الدولة العباسية هي أقوى دول العالم، تبسط نفوذها على منطقة شاسعة تصل إلى ما وراء النهر وأفغانستان، وبلاد فارس وجزيرة العرب والعراق والشام ومصر، وكانت الحضارة الإسلامية وريثة كل حضارات العالم القديم.
لقب ابن سينا في عصره بالشيخ الرئيس، وهي تسمية ليست عفواً، فالشيخ لقب علمي، والرئيس لقب سياسي، بعد أن جمع بين الاشتغال بالعلم والسياسة معاً، ويلاحظ على العصر الذي بزغ فيه، أن التفاعل كان قائماً بين كل ثقافات العالم، وكانت الدولة العباسية هي أقوى دول العالم،
وتبين سيرة ابن سينا الذاتية، أن اللغة العربية كانت هي لغة الفكر والثقافة في كل أرجاء العالم الإسلامي، كما تظهر الدور الكبير الذي يقوم به "المعلم"، ومدى انتشار المكتبات والحرص عليها، ولم تكن ثقافة العصر، تقتصر على الفقه والتفسير والحديث ـ كما يتصور البعض ـ بل شملت الفلسفة والفلك والرياضة والموسيقى.
ويالسخرية القدر، فقد توفى أشهر الأطباء وأعظمهم، نتيجة خطأ في العلاج، وإكثاره في علاج قرحة المعدة المصاب بها، فقد أسرف حتى تقرحت أمعاؤه، وتوفى ولم يتجاوز عمره الثمانية والخمسين.
المؤيد لدين الله داعي الدعاة الشيرازي (390 هـ/470 هـ):
هذه سيرة رجل دين وسياسة، كتبها في القرن الخامس الهجري، نقل خلالها حياة أحد دعاة الفاطميين، والحياة السياسية في مصر الفاطمية، وما أحاطها من مؤامرات. يتمتع صاحب السيرة بثقافة واسعة، وقد وصفه أبو العلاء المعري الذي كثيراً ما ناظره بقوله: "لو ناظر أسطارليس لجاز أن يفحمه، أو أفلاطون لنبذ حججه خلفه".
قضايا القرن الخامس الهجري
مسألة بدء شهر رمضان، هي المسألة التي أدت لمحنة الشيرازي في شيراز، تلك المحنة التي دفعته لكتابة سيرته، عندما وقعت أول أزمة بينه وبين السلطان سنة 1037 م ـ 429 هـ،ويسجلها بقوله: "زعم البعض أن شهر رمضان يتم تارة وينقص أخرى، وأن الصيام بني على رؤية الهلال، ويقول الله سبحانه "أياماً معدودات"، والأيام المعدودة هي التي لاتزال معدودة، فلو كان يحمل أن يكون شهر رمضان تارة ثلاثين يوماً وتارة تسعة وعشرين يوماً، لما ذكر أياماً معدودات قطعاً".
والعجيب أن هذه المسألة مازالت مطروحة ومحل خلاف بعد ما يزيد على ألف عام، وكانت أيضاً من أسباب النهضة العلمية في مصر في علوم الرياضة والفلك، وعرف المصريون بسببها الاهتمام بدراسة النجوم وحركاتها، وأقاموا لها المراصد.
من ناحية أخرى، فقد صاحب قيام الدولة الفاطمية، نزعة استكشاف الغيب وإحياء عصر الخوارق، ودراسة الفلسفة، وقيام الفرق الدينية السرية، مع التعلق بالمجهول وتهكم المصريون على إدعاء معرفة الغيب، فيروي أن العزيز بالله صعد المنبر ذات يوم، فرأى رقعة كُتب عليها:
بالظلم والجور قد رضينا وليس بالكفر والحماقة
إن كنت أُعطيت علم الغيب فقل لنا كاتب البطاقة
شهد العالم الإسلامي في هذه المرحلة التاريخية ظاهرتين خطيرتين: ظاهرة قيام تنظيمات سرية تقوم على الستر والكتمان بهدف الخشية على الإمام، وظاهرة الانقسامات والعنف. ففي ذروة عصر الخفاء أواخر عصر الحاكم بأمر الله، حاول بعض الدعاة نشر أفكارهم التي تضفي على الحاكم قدسية خاصة، فثار عليهم المصريون وفتكوا ببعضهم، وفر البعض الآخر واستطاعوا أن يقيموا طائفة جديدة هي "الدروز" القائمة حتى اليوم في سوريا وفلسطين ولبنان، وزعم بعض الغلاة منهم أن الحاكم قد رُفع إلى السماء.
ويلاحظ الشيرازي موقف المصريين من الحكام بقوله ".. وعاداتهم في الاستخفاف بملوكهم معروفة، أما الوزراء فهم أغنام عندهم للنزع معلوفة".
الشدة المستنصرية
قدم لنا الشيرازي في سيرته الظروف والحيثيات، ومؤشرات ما عرف بالشدة المستنصرية الكبرى 1063م -457هـ، التي أدت إلى مزيد من تشرذم المذهب الإسماعيلي، عندما تضافر القحط مع اختلال الأمن، وتقدم رجال السيف وتراجع رجال القلم. فقد حكم المستنصر بالله فترة تزيد عن ستين عاماً، ووصلت الدولة الفاطمية في عصره إلى أعلى ذراها، ثم تهاوت سريعاً.
فعقب وفاة المستنصر، اختار الأفضل بن بدر الجمالي الإبن الأصغر للخليفة المستعلي خليفة وإماماً، بدلاً من نزار الابن الأكبر الأحق بالإمامة على ما يقتضيه المذهب الإسماعيلي، وانشق المذهب إلى قسمين، واستمرت جيوب القسمين قائمة حتى اليوم. وكان من أول نتائج هذا الانشقاق، خروج "حسن الصباح" من القاهرة ـ كان يرى أحقية نزار الذي قُتل بالإمامة ـ ويؤسس فرقة الحشاشين في فارس، ويقيم الحصون، ويبني قلعة الموت. واقترن لفظ "الحشاشين" في اللغات الأوروبية بمعنى الاغتيال، لأنهم اعتمدوا الاغتيال السياسي كأداة أولى للوصول إلى أهدافهم، وكانوا الإرهابيين الأول الذين طوعوا الإرهاب لتحقيق أهدافهم السياسية.
تأليه الزعيم في سيكولوجيا الجمهور من التماهي إلى التقديس
لماذا أحب المصريون "أحمد بن طولون"؟ كتاب يجيب
الشائع والثابت في جرائم "ريا وسكينة" في مصر (2من2)