لا أنسى تلك الصناديق التي كانت تحوي كتب مشايخ وعلماء المدرسة
الوهابية السعودية، والتي كانت تصل إلى مصر في طباعة فاخرة وتوزع مجانا لمن أراد، ولا أنسى أن تلك الكتب وصلت قبل غيرها إلى قريتي النائية في صعيد مصر، وأصبحت تشكل المكون الأساسي وربما الوحيد للمكتبات البسيطة في مساجدها. وكنت شخصيا واحدا ممن يجلبون تلك الكتب المجانية في حقبة الثمانينيات من مقار بعض الجمعيات الدينية السلفية التي كانت تكتظ مخازنها بها.
أسهمت تلك الكتب للشيخ محمد بن عبد الوهاب، والشيخين ابن باز وابن عثيمين، في تشكيل الوعي الديني للكثير من الشباب، وتوجيهه إلى الوجهة السلفية بما في ذلك من كانوا ينتمون لجماعة
الإخوان، أي أنها ساهمت - إضافة إلى انتقال الكثيرين من الإخوان للعمل في
السعودية منذ السبعينيات- في ظاهرة "سلفنة" الإخوان.
قبل أيام نشرت مجلة ذي أتلانتك الأمريكية حوارا مثيرا مع ولي عهد السعودية الأمير محمد بن سلمان، زعم فيه أن جماعة الإخوان المسلمين كان لها دور كبير وضخم في خلق التطرف الذي عانت منه المملكة، وادعى انتماء كل من أسامة بن لادن وأيمن الظواهري وقائد تنظيم داعـش للإخوان المسلمين!! وقد
ردت عليه جماعة الإخوان في تصريح هادئ لمتحدثها الرسمي داعية للحوار المباشر لإزالة المخاوف، ومؤكدة أنها جماعة وسطية معتدلة وقفت دوما ضد
الإرهاب والتكفير والتطرف، وأدت دوراً بارزاً في الحفاظ على مقدرات الشعوب وحماية المجتمعات والشباب من التطرف والغلو حتى في أحلك اللحظات التي مرت بها، مدللة على ذلك بمواجهتها لفتنة التكفير منذ الستينيات.
العالم يدرك كيف نشأ التطرف في السعودية، وكيف أنتج الإرهاب لاحقا الذي دمر برجي التجارة العالمية في نيويورك، وشارك في العديد من الأعمال الإرهابية الأخرى في أماكن مختلفة من العالم
ليست المرة الأولى التي يتهم فيها
ابن سلمان أو أذرعه الإعلامية والأمنية جماعة الإخوان بهذه الاتهامات، وغالبا لن تكون الأخيرة في المدى المنظور، لكن العالم يدرك كيف نشأ التطرف في السعودية، وكيف أنتج الإرهاب لاحقا الذي دمر برجي التجارة العالمية في نيويورك، وشارك في العديد من الأعمال الإرهابية الأخرى في أماكن مختلفة من العالم.
لم يدع أيمن الظواهري ولا قائد تنظيم داعش -الذي لم يسمه ابن سلمان- أنهما ينتميان للإخوان المسلمين، وإن كانت لابن لادن في مقتبل شبابه صلة عابرة بالإخوان قبل أن ينقلب عليهم سريعا، ويشق طريقه الخاص، بينما أصدر الظواهري كتابا ضخما كله نقد لهم بعنوان: "الحصاد المر للإخوان المسلمين في ستين عاما". كما لم يكن جهيمان العتيبي الذي اقتحم ورجاله الحرم المكي واعتصم به في العام 1979، ولا أي من السعوديين الخمسة عشر الذين فجروا برجي نيويورك في أيلول/ سبتمبر 2001 ينتمون للإخوان.
لم ينشر الإخوان التطرف في السعودية، بل كانوا السباقين لنشر الاعتدال، ومحاربة الجهل والأمية. وهنا نتذكر دور السيدة زينب الغزالي التي اقترحت على الملك سعود بن عبد العزيز تعليم البنات (لم يكن مسموحا لهن بالدراسة في المدارس حتى أواخر الخمسينيات)، وقد وافقت المملكة على اقتراح زينب الغزالي، وأنشأت مطلع الستينيات إدارة لتعليم البنات في وزارة المعارف. وقد كانت زينب الغزالي حريصة على زيارة مدارس البنات وإداراتها، والالتقاء بطالباتها ومعلماتها وموجهاتها كلما أتيحت لها الفرصة.
بالإضافة إلى موقف الإخوان من حرب الخليج الثانية، فإن السعودية أخذت على الإخوان امتناعهم عن خوض معركتها في مواجهة المذهب الشيعي بعد الثورة الإيرانية، والغريب أن حديث الأمير محمد بن سلمان لمجلة أتلانتك مؤخرا عن الشيعة جاء متطابقا مع خطاب الإخوان الذين يرفضون المعارك المذهبية
لم ينس الإخوان أفضال السعودية عليهم حين فتحت لهم أبوابها للنجاة من ملاحقة الحكم الناصري في مصر، والبعثي في سوريا، والعراق، وقدموا عصارة تجاربهم التعليمية والتربوية والعمرانية للمملكة، وظلت العلاقة بينهم وبين المملكة جيدة حتى مطلع التسعينيات مع اندلاع حرب الخليج الثانية، حيث توقعت السعودية بل طلبت انحياز الإخوان لموقفها، بينما اختار الإخوان الحياد بهدف القيام بدور الوساطة، وانتقدوا استدعاء القوات الأمريكية والأطلسية، وقد شكلوا وفدا عالميا لتلك الوساطة ضم رموزا كبرى، مثل مصطفى مشهور ونجم الدين أربكان وراشد الغنوشي وعبد المجيد الزنداني وآخرين.
بالإضافة إلى موقف الإخوان من حرب الخليج الثانية، فإن السعودية أخذت على الإخوان امتناعهم عن خوض معركتها في مواجهة المذهب الشيعي بعد الثورة الإيرانية، والغريب أن حديث الأمير محمد بن سلمان لمجلة أتلانتك مؤخرا عن الشيعة جاء متطابقا مع خطاب الإخوان الذين يرفضون المعارك المذهبية، فهو يرحب بالمذاهب الشيعية في المملكة ويمنح شيوخهم عضوية في هيئات إفتاء رسمية رغم أنه يخوض حربا ضد فصيلهم الحوثي في اليمن..
الغريب أن المملكة التي اتخذت موقفا حادا ضد الإخوان، ودعمت الانقلابات عليهم، وقررت في آذار/ مارس 2014 تصنيفهم كجماعة إرهابية، وسعت لدى الحكومة البريطانية للهدف ذاته دون جدوى؛ هي ذاتها المملكة التي تحتضن حتى الآن معظم قيادات حزب الإصلاح اليمني، وهي التي احتضنت أو دعمت إخوان سوريا ضد بشار الأسد، ويا لعجب السياسة!!
twitter.com/kotbelaraby