تحدثنا فيما سبق عن كيف يُكوّن المستبد صورة ذهنية عن الشعب ويحاول تصديرها إلى عموم الناس. معظم هذه الصورة تقوم على قاعدة من الاستخفاف وكذا الاستهانة بهذا الشعب، وتصويره بكونه عبئا على الدولة والحكومة. ضمن هذه الصورة القاتمة يحاول المستبد تبرئة نفسه من حال تعاسة شعبه، وحال اليأس والإحباط التي تتملكه، وحال
الفقر وقد حاصرته، وغلاء الأسعار وقد افترسته.
ومن هنا تبدو هذه الصورة تقع دائما في دائرة الاتهام لهذا الشعب بأنه هو السبب الأساسي في أننا "شبه دولة"، وفي أننا لا نتلقى تعليما، ولا نتلقى خدمات صحية. ثم تأتي معزوفة النظام المستبد في خطابه، فيعلن عن مبادراته ضمن فائض كلامه عن "حياة كريمة".
لم يخرج
السيسي عن هذا الإطار خلال حديثه فيما أسماه "المشروع القومي للأسرة
المصرية"، حيث لم يترك أي نقيصة إلا وربطها بالشعب المصري، مؤكدا أن الحديث عن فقر الأسر المصرية ومعاناة المجتمع المصري هو مدار حديثه مع المسؤولين الأجانب. ويتفاخر بأنه قادر على إسكاتهم عندما يسألونه عن
حقوق الإنسان في مصر، فهو يحدثهم عن حالة الفقر التي يعيشها هذا المجتمع.. "في بلجيكا التقيت بالناس وكلمت الدنيا.. أول ملف كنت بتكلم عنه ملف حقوق الإنسان.. من ضمن الحاجات اللي كنت بتكلم مع المسؤول قلتله ليه مسألتنيش عن الناتج المحلي بتاعك كام؟ استغرب.. وقلتله الناتج المحلي عندك كام؟ قالي 500 مليار والسكان قال 10 ملايين نسمة، قلتله يبقا أنا عاوز دخلي 5 تريليون دولار علشان عندي 100 مليون نسمة، وعلشان أنا معنديش المبلغ ده الناس في مصر مش بتاكل كويس ومبتتعلمش كويس ومبتتعالجش كويس.. أدي حقوق الإنسان اللي أنا أعرفها".
الأمر الذي يعني أنه يعتبر حقوق الإنسان من الرفاهية التي لا يستحقها الشعب الذي يعيش في فقر مدقع، كما أنه لا يتردد في تحميل المواطن المسؤولية عن حالة الفقر والتخلف في مجالات الصحة والتعليم وغيرهما، معتبرا أن الدولة غير مسؤولة عن المواطنين وأن التراجع في مثل هذه الخدمات أمر مبرر لأن الدولة فقيرة ولا تملك، كما يستغل ذلك - كعادته دائما - لينال من ثورة يناير ويحملها مسؤولية ما فيه البلاد من تراجع وفقر وتخلف، إلا أنه هو نفسه في موضع آخر تجده متفاخرا بنفسه وبإنفاقه على القصور والمباني الفارهة، مؤكدا أنه يريد أن يباهي بمصر الأمم، ويريد أن تكون لمصر القصور الرئاسية في كل ركن من أركانها ليستقبل فيها الضيوف الأجانب.
إن إصرار السيسي في تصريحاته وحواراته على أن المصريين الفقراء لا يجب أن يتحدثوا عن حقوق الإنسان وعليهم أن ينشغلوا بتدبير معاشهم اليومي، وأن يتخلوا عن كل السلع وكل الخدمات لأنهم لا يملكون ثمنها، لا يمكن أن يفهم إلا من خلال ربطه كل ذلك بحقوق الإنسان، وأن المصريين لا حق لهم في مطالبهم بتحسين أوضاعهم الإنسانية والمدنية والاجتماعية والاقتصادية، وينتقد ثورة يناير التي طالب المصريون فيها بالحياة الكريمة والحرية الإنسانية.
ويتاجر السيسي بالمآسي الخطيرة والكوارث الجمة التي تحيط بهذا الشعب ومواطنيه، وقد تعرضنا لكثير من أنماط هذه المواطنة المقهورة والموءودة والمنقوصة، وكل أمر سلبي يحيط بالمواطن الذي صار الحديث عن بعض حقوقه مناً من صاحب السلطة المستبد.
المستبد المنقلب ينظر إلى الحقوق الإنسان والمواطن نظرة شديدة الغرابة، وفي النهاية هو يواصل عملية وصمه لشعبه بالجهل، واللا مبالاة، وعدم القدرة على الإدراك. ومن ثم تبدو هذه الصورة لهذا الشعب وبهذا الشكل جاهزة لأن تصدر بدورها إلى الخارج، ولا يمكن فهم ذلك إلا في إطار المقايضة التي يعقدها المستبد مع الدول الغربية؛ حيث يستخدم هذا الشعب بعد أن صنع له تلك الصورة بمثابة الفزاعة التي يضمن بها سكوتهم عن إجرامه واستبداده، وشراء سكوتهم عنه، وتقليل ضغوطهم عليه. ويطوق هذه المساعي بأطر قانونية من مثل "قانون منع الهجرة غير الشرعية" والذي يجمع بين عقوبتي السجن والغرامة لكل من يقترف هذه الجريمة؛ رغم أن تلك الهجرة هي من نتاج سياسات النظام في القهر وحال الإحباط وانقطاع الأمل في الوطن وعلى أرضه، وهي كذلك من جراء فشل سياساته.
ومن ثم فالشعب المصري وفق تصور الطاغية شعب تحت الاتهام، وهؤلاء الذين قد يخاطرون بحياتهم ويلقون بأنفسهم في عرض البحر، ويركبون ما لا يؤمن نقلهم أو وصولوهم. يقوم المستبد بأجهزة مختلفة خاصة تلك الأجهزة الأمنية بكل ما من شأنه من منع هؤلاء بالهجرة غير الشرعية، ومن ثم لم يعد أمام المواطن أي فرصة للحياة سواء في داخل بلده أو خارجه. وترتفع الأصوات والأبواق للزبانية لتأكيد هذه الصورة الخطيرة حول هذا الشعب، ويأتي ذلك الخطاب الذي يؤكد أن ما يقوم به المستبد من سياسات ومن حفظ الأمن بدعوى الاستقرار ليس إلا حماية لهم، وترفع الشعارات "نحن نحميكم ونحمي أمنكم ونمنع هؤلاء عنكم".
هكذا تأتي هذه الصورة الخطيرة في خطاب المستبد الذي ينال صك شرعيته من خارج لا من رضا المواطنين، ولا من قبول شعبه، ولا الإنجازات التي تؤدي إلى أن ينال حقوقه وكرامته وعيشه الكريم، وينعم بالعدل والعدالة والحرية والكرامة، فإذا طالب هذا الشعب بأي مطالب فهو لا يعي ما يريد، ولا يعلم عن كلفة مطالبه. ثم يستدير لعمل المهرجانات والاحتفالات ويتفاخر بارتفاع البنايات، وبكباري لا نهاية لها حتى تندر البعض وأكد أنهم "شيوخ الطرق والكباري".
ولا بأس بأن يبشر بفرصة حياة عظيمة وحياة مستقرة وآمنة في مجمع سجونه الذي يزمع إنشاءه ليتسع للجميع ويشكل فرصة للحياة، وفقر مدقع أصبح يمسك بتلابيب الناس وقد أطلق عليهم غول الأسعار وألهب حياتهم الغلاء والبلاء، واجتمعت عليهم الكوارث فصاروا يعيشون يوما بيوم. وفي كل مرة فإن مشاهد الانتحار تتسع وقد أوصى من أوصى ألا تتابع إعلاميا، وأن تعتم بصورة مطلقة.
من هذه الصورة البائسة للشعب وعموم الناس استخفافا واستهانة وإفقارا وإكراها، فإن المستبد لا يفتأ أن يتحرك ليمس علاقات المجتمع في العصب فيقدم رؤيته المستهترة لحقوق الإنسان وبحال الأسرة المصرية، متلبسا ثوب الواعظ والحكيم، وما هو كذلك في حقيقة الأمر إلا كالثعلب في الروايات الخيالية. فقد اعتاد أسلوب الإهانة والمهانة والاستخفاف، فينتقل من حقوق الإنسان وتصوره لها، إلى الأسرة والمجتمع، خصوصا في المسائل التي تتعلق بالخدمات والتدخل المفزع في شؤونهم الخاصة ضمن نظرة استبدادية مفزعة، وضمن رؤية تحرك ذات النظر لرؤية عموم الناس كعبيد إحساناته وعقار يورث لمنظومة طغيانه، ومنّ من المستبد على هذا الشعب والمواطن.
وقد تكررت تصريحاته هذه حتى صارت محفوظة وقد استغل موضوع المؤتمر الأخير -أي الأسرة- ليؤكد على قضية خطيرة جدا، وهي استبداده بالسلطة إلى ما لا نهاية؛ حيث يعتبر الأوضاع الحالية هي مسوغ استمراره في الحكم.
وقد صدق وهو الكذوب: "الرسالة اللي عاوز أوصلها أن القضية مشتركة وليست قضية سلطة.. مفيش نظام في مصر.. أنا زيكم ومعاكم ومنكم.. ولو مش قادر والله والله والله هديكم التحية وأمشي.. هنعملها مظبوط كلنا.. اللي مش قادر يواجه ويجابه ده.. دي أمانة قدام ربنا.. مستقبل ولادنا.. القضية كبيرة أوي.. عاوزين تعليم كويس سواء قبل الجامعة أو بعد التخرج من الجامعة.. ويكون عندنا مستوي كويس.. بشرط المساعدة".
بين كل هذه النظرات التي تتعلق باستخفاف المستبد بشعبه وتكويناته الاجتماعية والأسرية، والنظر إليهم في خانة الاتهام وعدم الأهلية وتحت حراسته، يأتي خطاب الاستخفاف والاستهانة والتبرير لفشله في أي إنجاز يهدف إلى انتشال الناس من قسوة فقر أو إنجاز يخفف عنهم كل تلك الاختناقات التي تطولهم في حياتهم اليومية والمعاشية، فتُهدر الكرامة وتفتقد أبسط الحقوق للإنسان والمواطن.
twitter.com/Saif_abdelfatah