وفجأة، اكتشف المواطن الغربي وبعض من "نخبته" الإعلامية والسياسية والثقافية، أن للحرب أثمانا كبيرة، ليس أقلها تدفق ملايين اللاجئين الهاربين بأنفسهم وذويهم وبنيهم طلبا للأمان.
في الواقع، كان هؤلاء يعلمون علم اليقين، لكن رحى الحرب كانت لعقود تستعر هناك بعيدا حيث يمتلك الغرب تارة وعملاؤه المستبدون أطوارا أخرى حرية القتل والتهجير. اليوم، صارت الحرب على الأبواب بعد سنوات من الاعتقاد أنها فعل لا يرتكبه إلا "الآخرون"، نتناول أخبارها على الشاشات وننظر على هامشها عن السلام والتعايش وحل النزاعات بالحوار، أو أنها فعل ضروري لنشر الحضارة الغربية وتحرير الشعوب المضطهدة من جلاديها. إنها حروب لم تكن تستدعي غير بعض من التضامن المجاني لا ضرر في إبدائه ولا ثمن ينطوي عليه.
اليوم صار للاجئين معاهدات تحمي الحقوق وإعلام يبكي المصير، وإن فعل ذلك بعنصرية كانت في الأصل فيه متأصلة، لكن مساحيق قاعات التجميل أخفتها لعقود، وشاشات اتخذت من اللونين الأصفر والأزرق اختيارا جماليا، بعد أن استوطنت الأعلام الأوكرانية زوايا دائمة عليها ومعها دعوات للتبرع و"النفير".
فيلم (الاسم ـ 2012) للمخرجين أليكساندر دي لا باتيلير وماتيو ديلابورت.
في حفل عشاء عائلي، مناقشة ساخنة بين فينسنت وبيير بعد إعلان الأول عزمه تسمية وليده القادم باسم (أدولف). في الاسم إحالة على الزعيم النازي أدولف هتلر، ما استثار المشاعر وفتح الندوب والجراح التي لم ينجح الزمن في مداواتها. كان الأمر مجرد مزحة، لكنه فتح المجال لنقاش طويل اتخذ فيه فينسنت الفارق بين كتابة الاسم فرنسيّا وألمانيّا، وسيلة للدفاع عن اختياره، مع التلميح بأن النازية ليست مرتبطة باسم زعيمها، وإلا فإن كثيرا من الأسماء المتداولة تحمل معها تاريخا دمويا ومآسي لا حصر لها. وحين استعراضه للأسماء عرج على بول، ما أثار استغراب الحاضرين باعتباره اسما متداولا، فذكرهم بالزعيم الكامبودي بول بوت، الذي تتضمن سيرته مقتل ثلاثة ملايين شخص.
فينسنت: ثلاثة ملايين قتيل. أعلم أنهم كانوا من الخمير الحمر. ربما هم بشر مختلفون عنا، لكنهم في النهاية بشر.
كانت حجة فينسنت أن ابنه أدولف سيكون بالضرورة إنسانا صالحا، وسينهي في الذاكرة الجماعية سيطرة هتلر على الاسم المرتبط بجرائمه، فلا معنى لأن نتركه مسيطرا عليه. أما الآخرون فرأوا في احترام مشاعر وآراء المجتمع ضرورة وواجبا، وأن "التنكر" في الزي النازي/ تسمية الابن لا يمكنه القضاء على أدولف الذي تعود عليه الجميع.
فينسنت: أنت على حق يا بيير. لا يمكننا تجاهل الآخر. أتعرف ما الذي أقنعني؟ مفهوم التنكر: التنكر فعل فردي يتحول رغما عنا إلى فعل جماعي. مهما فعلنا فكل شيء سياسة وواجهة. الحياد مجرد وهم. لأجل ذلك سأسمي ابني أدولف وأكتبه كما يكتب بالألمانية.
مظاهر "الحضارة" الأوروبية التي يسعى أصحابها لجعلها النموذج، بنيت على تاريخ مرعب من الحروب ومنها استوحت كثيرا من نماذجها في الفنون والآداب، بل إنها مستمرة في تمجيدها للرموز الاستعمارية وأسطرتها وترفض المساس بها.
وفجأة، اكتشف المواطن العربي وبعض من "نخبته" الإعلامية والسياسية والثقافية أن الغرب يكيل بموازين مختلة ولا يهتم لأمر حروبه وضحاياه ولاجئيه. في الواقع، كان هؤلاء يعلمون علم اليقين، لكن رحى الحرب الدائرة في أراضيهم وعلى شعوبهم، كانت على الدوام ضحية تقييم إيديولوجي أو اصطفاف مذهبي أو انتماء عرقي.
اليوم، بعد أن كشفت الأيام الأولى للحرب بأوكرانيا حجم الوهم الذي كان هؤلاء يتاجرون به أو يؤمنون به عن "حسن" نية وإيمان بالمبادئ التي أراد الغرب والشرق أيضا تسويقها على أنها "حضارة كونية" أو حق إنساني"، صارت المراجعة أمرا حتميا لا هروب منه أو فكاك.
لقد تساقطت مساحيق التجميل وتبدت العورات ولم يعد التمثل في الآخر أو التنكر بزيه الملطخ بسوءات العنصرية الفاضحة حد الوقاحة اصطفافا أو انحيازا بل خيانة مكتملة الأركان. الاختباء وراء وقع المفاجأة أو رمي الآخر بالنقائص لم يعد تجارة رابحة، فاللاجئون العرب والمسلمون مرفوضون في بلدان الأشقاء والجيران، وما سعيهم لقطع آلاف الكيلومترات وتسول الدخول لبلدان "الفردوس" الأوروبي المتسلح بالأسلاك الشائكة والحدود المغلقة في وجه أي نزوح "لا يشبه مواطنيه"، إلا دليل إدانة للذات الجمعية لبلاد العروبة والإسلام. أوروبا لم تفعل غير ما يقتضيه واجب "الانتماء المشترك" للدين بالأساس، فاللجوء الأوكراني لجوء مسيحي أوروبي قبل أن يكون لجوء طبقة متوسطة تسوق نفس سياراتنا في الجانب الغربي من القارة، وتلبس نفس ألبستنا وتظهر نفس لون العيون والبشرة والشعر. اللاجئون العرب المشرقيون "الجدد" يملكون في جزء منهم نفس الصفات، والديانة جزء منها، لكن الثقافة تبقى في الغالب "إسلامية" واللغة عربية لا يجمعها بلغات الغرب حرف كتابة أو مجاز تعبير أو نبرة نطق.
لقد تمكنت الدعاية الغربية من تكريس مفاهيم أرادتها "كونية" فتقبلناها بدونية مفرطة مبادئ عامة للتحضر لا يستقيم التمدن دونها. أوروبا ترفع اليوم في وجه الآخر راية الحضارة والتمدن مبررا لعنصريتها. فأرض الحرب لا بد أن تبقى هناك بعيدا لا تصل إلينا منها غير صور تخضع للرقابة قبل البث، أما فردوس الأمان، فنحن جنته التي لا تفتح أبوابها إلا لمن قبل الانصهار وقدم قرابين الولاء انسلاخا من هويته وتنكرا لتاريخه ومعتقداته، تسهيلا لما أسماه أريك زمور "التمثل الثقافي".
الغرب هو من وضع المعايير وأفرغها من محتواها فلا الإنسانية هي الإنسانية ولا الإرهاب هو الإرهاب ولا حرية التعبير هي حرية التعبير...إلخ. لقد حان الوقت لأن نكف عن "التنكر" باسمها وتحت لوائها، وأن نسمي الأسماء بمسمياتها.
يتناسى الأوروبيون أن أرض القارة العجوز شهدت أدمى الحروب وأفظع المجازر على مدار تاريخها، ولم يكن غريبا أن إيمانويل ماكرون اعتبر ما يحدث بأوكرانيا عودة للحرب إلى أوروبا. الحربان العالميتان الأولى والثانية فصلان مهمان يؤرخان للهمجية الأوروبية بربرية "حضارتها"، وقبلها حروب دينية على موجات بين البروتستانت والكاثوليك وحروب أهلية وثورات دامية، استهدفت في بعضها إسقاط أنظمة أو إيديولوجيات أو عقائد، وانتهت بمجازر وفظائع وملايين الموتى والجرحى والمفقودين، نضيف إليهم ملايين أخرى سقطوا في الحملات الصليبية والحروب الاستعمارية، فهم ربما بشر مختلفون لكنهم في النهاية بشر.
أوروبا اليوم تحاول اختصار وجهها "الحضاري" في عقود من السلم الأهلي، بنته على وقع اتفاقيات استسلام قهرت الطموحات القومية، لكنها لم تتمكن يوما من إلغائها. وهي اليوم تعيش على شفير نزعات قومية متعاظمة وصعود يميني متواتر، تم التطبيع معه في السياسة والإعلام، لا يمكن إلا أن يوقظ الفتن النائمة ولو بعد حين. محاولات أنمذجة "المواطن الأوروبي الخالص" فاشلة، فالسلم يتأتى في البحبوحة، لكنه في فترات الأزمات يضمحل ويتآكل مقابل طموحات السيطرة وتعظيم النفوذ، حيث يبرز الجانب الوحشي للنفس البشرية مهما طال أمد تهذيبها.
مظاهر "الحضارة" الأوروبية التي يسعى أصحابها لجعلها النموذج، بنيت على تاريخ مرعب من الحروب ومنها استوحت كثيرا من نماذجها في الفنون والآداب، بل إنها مستمرة في تمجيدها للرموز الاستعمارية وأسطرتها وترفض المساس بها. الغرب هو من وضع المعايير وأفرغها من محتواها؛ فلا الإنسانية هي الإنسانية ولا الإرهاب هو الإرهاب ولا حرية التعبير هي حرية التعبير...إلخ. لقد حان الوقت لأن نكف عن "التنكر" باسمها وتحت لوائها، وأن نسمي الأسماء بمسمياتها.
وفجأة نفاجأ بأننا تفاجأنا.. لا تمنوا علينا "حضارتكم".
عن الأخلاق الغربية في الحرب الأوكرانية!
الغزو الروسي لأوكرانيا.. التكاليف المترتبة على تركيا