تخيل إنشاء عالم طوباوي مثالي هو مناقض لغاية الحياة، فجوهر الإنسان يتحقق في قدرته على الاختيار الحر، وتحمُّل ثمن هذا الاختيار
الذي ينجح في هذا الاختبار هو الذي يجاهد ويتغلب على الأهواء العاجلة لأنه علم أن مآلها خسران وندامة، فلا يمكن أن يكون الفضل لمن يلاحق هواه ويتعجَّل اللذة العاجلة ممن يثبت قوة عزيمته وإرادته ويتفكّر في العاقبة الآجلة، فهذا مما تعرفه الفطرة الإنسانية قبل الدين
والذي ينجح في هذا الاختبار هو الذي يجاهد ويتغلب على الأهواء العاجلة لأنه علم أن مآلها خسران وندامة، فلا يمكن أن يكون الفضل لمن يلاحق هواه ويتعجَّل اللذة العاجلة ممن يثبت قوة عزيمته وإرادته ويتفكّر في العاقبة الآجلة، فهذا مما تعرفه الفطرة الإنسانية قبل الدين، لذلك يثني الناس في كل الأمم على البطولة والتضحية لأنها انتصار على رغبات النفس.
ومن هنا فرض الصوم، فالصوم هو انتصار الإرادة على الهوى: "لعلَّكم تتقون". قبل التهذيب فإن الإنسان يأكل كلما اشتهى، لكن في تجربة الصوم تتسامى إرادة الإنسان فيعالج هواه بالصبر، فلا يرتبط تلبية الشهوة آليّاً بمجرد فوران تلك الشهوة، وبذلك يرتقي عن الحيوان، لأن الحيوان هو الذي ينساق لشهوته آلياً.
وما يحققه الصوم تحققه كل عبادات الدين مثل الصلاة رغم حب النوم، والجهاد رغم حب الحياة، وكظم الغيظ، والإنفاق رغم حب المال، وإعفاف النفس عن الحرام رغم الشهوة، فكل هذه العبادات ينتصر فيها المؤمن على هواه، وهو ما يورِّث نفسه قوة الإرادة وتسامي الروح..
لذلك فإن ثمرة الإيمان أن ينشئ الإنسان "القوَّام بالحق"، أي الذي يدور مع الحقِّ ويراعيه ولا يدور مع ميول نفسه: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ".
فتح باب التوبة
لا يعني حثُّ القرآن المؤمن على القِوامة بالحقِّ أن الدين يدعو إلى حالة مثالية، وإن كان التوق إلى هذه الحالة احتياج روحي، والمؤمن لا يقنع إلا بمواصلة مجاهدة نفسه وتزكيتها وترقيتها في معراج التسامي، لكن في ذات الوقت فإن الله تعالى يراعي ضعف الإنسان أمام هوى نفسه، لذلك فتح الله تعالى باب التوبة حتى يظل المؤمن دائماً في حالة أمل وألا يستولي عليه اليأس.
"التوبة" هي قضية مركزية في القرآن الكريم يتضح مكانها منذ اللحظة الأولى: "فتلقى آدم من ربه كلماتٍ فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم".
حين يعلم الإنسان أن هناك خطَّ رجعة دائماً فإن الأمل لا يموت في داخله، ومهما ضعف وزلّت قدمه فإنه يتذكر فيرجع
"إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون".
"قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا على أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم".
اليأس مدمّر وقد جعله القرآن صفة الكافرين: "إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون". إن الذي يشعر أن باب الرجوع قد أغلق دونه فإنه يتمادى في طريق الهلاك، لذلك يبقي القرآن الأمل دائماً مهما أسرف الإنسان على نفسه..
القرآن لا يدعو إلى الإنسان المثاليِّ، ولكنه يحث هذا الإنسان أن يظل دائماً في الطريق، وألا يخرج منه، لأن الخروج من الطريق هو اللعنة مثل إبليس.
وجدلية الإنسان تقتضي أن يخطئ، لكن الله تعالى لا يرضى له إذا أخطأ أن ييأس ويتمادى في الخطأ حتى يهلك، بل يريد منه أن يتذكر فيرجع ويواصل المحاولة، وما دام يحاول فهو في دائرة رحمة الله تعالى.
يحبُّ الله لهذا الإنسان أن يتضرَّع ويلتجئ إليه: "وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَىٰٓ أُمَمٍۢ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَٰهُم بِٱلْبَأْسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ".
التضرٌّع هو إعلان العبودية والحاجة إلى الخالق، وهو كسر لكبر الإنسان، لذلك فإن القرآن حين يدعو إلى التضرع إلى الله تعالى فهو يحث هذا الإنسان أن يحقق الحالة النفسية السويَّة لعبوديته، والأشقياء هم الذين يتكبرون بغير حقٍّ: "إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه"، "فما استكانوا لربِّهم وما يتضرَّعون".
مرض الكبر هو ثمرة جهل هذا الإنسان الضعيف المغرور، إذ إن مقتضى علم الإنسان بحقيقة نفسه أن يتواضع: "ولا تمش في الأرض مرحاً إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولاًً".
فإذا دار الإنسان مع الحقِّ علم حدود قوته في هذا الكون، وعلِم أنه واحد مثل غيره من البشر فتحرَّر من آفة الكبر والاستعلاء، وقد رأينا تجليات مرض الكبر في كلمات مثل: "من أشدُّ منا قوةً"، "أهؤلاء الذين منَّ الله عليهم من بيننا"، "أنا ربكم الأعلى"، "أنا خير منه".
الحالة السوية التي يحققها المؤمن بتزكية نفسه فهو انحسار "شعور الأنا" والتماهي مع الحق، حتى لا يبقى لنفسه حظ ولا يسعى إلى الانتصار لذاته، إنما يغضب إذا انتهكت محارم الله
خلقَنَا الله تعالى دون أن يستشيرَنا أو يخيّرنا في وجودنا.. لماذا يحدث هذا؟