نجوى ميلاد ممثلة غير محظوظة على مستوى الدراما خلافا للمسرح. محتارة، دائمة السؤال حول تجاهلها من المخرجين وعدم توجيه الدعوة لها للمشاركة في المسلسلات. تمسكت بحقها في السفر وتمثيل تونس من خلال المسرح، ما دامت أبواب المسلسلات مقفلة في وجهها: "سأشرف بلدي، واثقة أنا من ذلك."
هذا التمسك كان له ما يبرره فقد جنت من خلال مسرحية " للرجال بركة"، هي والمؤلف نورالدين الهمامي، والمخرج توفيق العايب، على ثلاث جوائز بالدورة السابعة لمهرجان آفاق بجمهورية مصر العربية:
- جائزة أحسن مونودرام
- أحسن ممثلة: نجوى ميلاد
- أحسن نصّ: نور الدين الهمامي
هذا العمل أول تعامل بين المخرج توفيق العايب والفنانة نجوى ميلاد، وهو أول تجربة مونودرامية للفنانة نجوى ميلاد، التي شهدت مسيرتها الفنية المشاركة في عدة أعمال مسرحية، وكانت صرحت من قبل أنها لم تكن تتوقع أن يكون لها عمل فردي تملأ به الخشبة المسرحية. الحلم صار حقيقة وها هي تنال الجائزة تلو الأخرى، وكأنها تثأر من سنوات "الحصار" التي عاشتها بموهبة معطلة ومغيبة.
"للرجال بركة" تم عرضها في مهرجان المونودرام بلبنان، حيث حازت الممثلة نجوى ميلاد على جائزة أحسن ممثلة، وفازت المسرحية بجائزة أحسن نص.
"للرجال بركة" أي للرجال فقط باللهجة التونسية، لكن العنوان يوحي بأن العمل في مديح الرجال والبركة التي يتمتعون بها. هي حكايات للرجال والنساء، والعشاق والمحبين، لأنصار المرأة والمضيقين عليها للأوفياء والمنخرطين في ركب الخيانة، هذه المسرحية هي مرآتكم.
اقرأ أيضا: 6 روايات تصل إلى القائمة القصيرة لـ"البوكر" العربية
ويبدو أن تيمة النساء مفضلة لدى نجوى ميلاد التي سبق لها أن شاركت في مسرحية "هي وهي"، التي تروي حكاية امرأتين لا تعرف إحداهما الأخرى، جمعهما القدر بقاعة انتظار بأحد المطارات. طول الانتظار أجبرهما على التعارف وتجاذب الحديث، ليتضح أن كلتيهما تلقتا دعوة للانتظار في المطار من الرجل ذاته، ورفض لقاءهما.
"للرجال بركة" مسرحية أهدتها نجوى ميلاد إلى كل النساء الحالمات، توحي بدعوة خاصة للرجال للاستماع إلى الأنثى والإنصات إلى معاناتها.
هي مونودراما اجتماعية ساخرة، صوبت من خلالها نجوى ميلاد سهامها نحو بعض السلوكيات الاجتماعية التي تحدث في بعض المناسبات، مثل الأعراس، والمشادات الكلامية التي تحدث بين "الحماة والكنّة"، لتستدرك وتعود مستعرضة ألبوم صور تؤرخ لعاطفة جاشت وأنفقت من أجل من لم يقدروا ثمن التضحية: رجال أنانيون، فاشلون حكموا عليها أن تظل معطوبة.
اندمجت نجوى ميلاد في حكايات عاشت بعضها، أو هي من بنات خيالها المتوثب، ملتهب متحفز، ألهبت الموسيقى توهجه ففاض لينساب مع الضوء، ويتسرب منفلتا إلى رحب الحياة والوجع الكامن في الأنثى؛ أنثى الوجع.
كم كان يلزمها من لياقة بدنية كي تطوف على شخصياتها تتقمصها بشغف على خشبة مسرح فقير يسوده ظلام، لا شيء في الأفق سوى بقعة ضوء تسلطت على كرسيّ توسّط خشبة المسرح وطاولة صغيرة. وموسيقى المألوف وأغاني الأعراس التونسية، ترافق نجوى ميلاد أو رفيقة القرقوري على خشبة المسرح، ترقص وتغني منتشية بالحضور وهم يشاركونها فرحتها بزفاف ابنها الوحيد. شغفها جعلها تلتهم الركح وتطوي مسافاته حتى لم يعد للمكان معنى.
غنّت ورقصت، استحضرت رجالا ونساء مروا بحياتها، يساريون ويمينيون، لا يهم، كلهم ذاك الرجل، الباحث عن الجسد الأسير دون سواه، لا كيان لك سيدتي، كوني جميلة وكفى. لا نحتاجك مثقفة تهوى المسرح، ولا امرأة حرّة ولا عاشقة للحياة.
مونودراما "للرجال بركة"، كتلة حياة وشريط أحداث عصفت بحياة امرأة لم يكن لديها سوى سلاح البوح المر الذي يفجر الوجع دون قيود، في لبوس روائي، وبأسلوب ساخر موجع. اضحكوا هذه صورتكم، هذه لحظة المكاشفة لعلكم تراجعون ما بكم من دنس فحولة زائفة وبعولة مبتورة.
على خشبة المسرح كانت نجوى ميلاد، أو رفيقة القرقوري، تصرخ: أنا امرأة قوية أحاول مداراة ألم ينز من ألق إرادتي. هل كانت في لحظات انكسارها تدعو على الرجال، أم كانت تدعوهم -وهي الأخت الحبيبة والأم- إلى الرفق بالقوارير؟
أي معنى إذن " للرجال بركة " عنوانا مخاتلا وحمال أوجه؟
هل "بركة" بمعنى فقط باللهجة الدارجة التونسية، أم هي بركة الرجال الدائمة وهم يحتفون بالمرأة كائنا جميلا؟
وفي كلتا الحالتين، كان الرجل مدعوا بقوة للإنصات للصوت الآخر، يصرخ ويحتج ويستغيث ويدعو الرجال إلى التأمل وهو يواجه خطابا مكتظا وضاجا بالأسئلة والحياة. السخرية كانت سلاحا فتاكا لتبليغ الرسالة، بعيدا عن الخطابة والحوار الصدامي.
كم كانت ساخرة، تستعير ألفاظا من قاموس مختلف، لتسقطه على عالم آخر، ومن هنا كان لعبارة "الحيثيات " مفعولا فتاكا ومدمرا يحدث لدى الجمهور ضجة ساخرة؛ لأن "الحيثيات" المقصودة ما هي إلا كناية عن بعض المفاتن النسوية. كانت نجوى تبث من روحها في نص متفجر، كانت بصماتها واضحة بسخريتها المعتادة وجرأتها التي دفعت ثمنها غاليا، إقصاء وتغييبا.
السخرية كانت جزءا من النص، بل متمما من متممات اللعب، تجنبا لحوار صدامي يقسم الحضور إلى رجال ونساء. نجوى ميلاد لم تتورط في خطاب نسوي يفترض مواجهة وهمية، بقدر ما اتجهت إلى "الإنسان " في عمق تجلياته، الإنسان رجلا وامرأة، وهو خطاب متطور أعتقد أنها كسبته لأنها لم تبحث عن التحشيد، بل رامت التوجه إلى عمق الأشياء ومخاطبة وعي الجنسين.
"بلفاست".. فيلم جميل عن الديار و"سرطان الأوطان"