الرواية الرسمية تقول بأنّ الصين دولة محايدة في الصراع الجاري بين موسكو وكييف والذي انتهى إلى احتلال موسكو لأجزاء واسعة من أوكرانيا. الحكومة الصينية التي تحكم سيطرتها تماماً على وسائل الإعلام والرسائل التي تريد إيصالها إلى الجمهور المحلي والدولي تؤكّد على هذه الحيادية وعلى عدم انحيازها مع طرف ضد الآخر في هذا الصراع. لكنّ الرسالة الرسمية لا تقف عند هذا الحد، فالصين تنتقد الولايات المتّحدة وتعتبر أنّ واشطن والغرب ـ وليس روسيا ـ هما السبب في الصراع الروسي-الأوكراني، وأنّهما يذكّيانه بإرسال الدعم العسكري لأوكرانيا وفرض العقوبات على روسيا.
وسائل الإعلام الصينية بما في ذلك تلك الناطقة بلغات مختلفة كالإنجليزية والعربية تروّج لبروبغندا تهدف إلى اظهار الازدواجية الغربية في هذه الحرب مقارنة بحروب سابقة شنّتها الولايات المتّحدة ضد دول أخرى. لكن المفارقة أنّ البروبغندا الصينية هذه لا تهدف إلى تحاشي الإجابة عن الأسئلة الصعبة المتعلقة بموقف الصين فقط، بل لإخفاء الازدواجية الصينية والتحول الكبير الذي يحصل مؤخرا في سياسة الصين الخارجية.
تقليدياً، شكّلت ثلاثة مبادئ رئيسية حجر الزاوية في سياسة الصين الخارجية خلال العقود الماضية، وهي مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، ومبدأ الحرص على حماية الأمن والإستقرار، ومبدأ رفض اللجوء إلى القوّة في السياسة الدولية. الحرب الروسية ضد أوكرانيا عرّت هذه المبادئ، فالصين لم تشجب تدخل روسيا بالشأن الداخلي الأوكراني، ولم تسمّ الحرب الروسية ضد أوكرانيا باسمها الحقيقي أي غزو أو احتلال، ولم تدن العملة العسكرية الروسية أو تشجبها بشكل صريح وواضح ومباشر، ولا تبدو حريصة على الأمن والاستقرار بقدر حرصها على الانتفاع من الأزمة الحالية.
هذه الحرب هي بمثابة تحضير للحرب العالمية الثالثة المحتملة دوماً. كل خصم أصبح يدرك ما هي نوايا الطرف الآخر وما هي الأسلحة المتاحة بحوزته. وعليه، ستعمل جميع القوى من الآن وصاعداً على تعزيز استقلاليتها الذاتية لاسيما فيما يتعلق بالموارد، والدفع باتجاه إنشاء بدائلها الخاصة لاسيما المالية، وعلى زيادة قوتها العسكرية تمهيداً للمواجهة المحتملة مستقبلاً.
هناك تفسير بالطبع للسلوك الصيني المغاير لما جرت عليه العادة. فسؤال الصين الصاعدة لم يعد مطروحاً كما كان عليه الأمر سابقاً. الصين صعدت بالفعل على المسرح الدولي، وبدأ هذا الأمر ينعكس بشكل واضح على سلوكها ومواقفها. الصين لم تعد تخشى الاشتباك الكلامي على الأقل، وترويج الدعاية الصينية بشكل فج. الصين تركّز كذلك على سؤال الربح المادي والمعنوي بدلاً من التركيز على سؤال تشاطر الأعباء والمسؤوليات الدولية، والذي عادة ما يترافق مع صعود الدولة على المسرح الدولي. أخيراً، الصين قد ترى نفسها حاضرة في انعكاس الأزمة الحالية على مستقبل العلاقة مع تايوان، ولا تريد أن تغلق باب احتمال اللجوء إلى القوّة ضد تايوان مستقبلاً.
علاوة على ذلك، تعتمد البروبغندا الصينية على الموقف الضدي. بمعنى آخر، حيث تكون المواقف الغربية، عادة ما تكون الصين في الاتجاه المعاكس. وسائل التواصل الاجتماعية الغربية تجعل الرسالة الصينية أكثر تماكساً لأنّ هذه الرسائل تكون موحّدة وتابعة للموقف الرسمي، لذلك تستغل بكّين هذه الوسائط لنشر رسالتها إلى الجمهور الغربي أيضاً.
من مظاهر الازدواجية الصينية أنّ بروبغندا بكّين تهاجم الغرب، في الوقت الذي تبني فيه الصين قوتها الاقتصادية والمالية والدبلوماسية والتقنية بالاعتماد على الغرب والنظام الذي أوجده الغرب بعد الحرب العالمية الثانية. الصين أكبر شريك تجاري للغرب وحتى يدرك القارئ حجم الأرباح التي تحققها الصين من تجارتها مع الغرب، يكفي أن نشير إلى أنّ حجم الفائض المالي الذي سجّلته الصين لمصلحتها في العام 2021 من خلال تجارتها مع واشنطن فقط بلغ حوالي 400 مليار دولار. وبينما يقول المسؤولون الصينيون إنّه ليس لديهم مصلحة في هذه الحرب، فإنّ روسيا أضعف ستضع موارد البلاد في خدمة الصين بسعر زهيد وبخس، ولا شك أنّ ذلك سيفيد الصين على المستوى القصير والمتوسط.
لكن إذا انهزمت روسيا في هذه الحرب، فهذا يعني أنّ الصين ستكون وحيدة مستقبلاً إن فكّرت هي في تصعيد عسكري مماثل. لذلك، فإنّ المعركة الحالية تحمل معها مخاطر على استراتيجية الصين المستقبلية، الأمر الذي قد يشجّع بكّين على دعم موسكو اقتصادياً وحتى عسكرياً بشكل غير مباشر. هذا ما يفسّر أيضاً التحذير الأمريكي للمسؤولين الصينيين من مغبة مساعدة روسيا. مثل هذا السيناريو سيجر الولايات المتّحدة إلى تدخّل مباشر، لأنّ دعماً صينياً مباشراً لروسياً سيغيّر من شكل المعادلة القائمة وربما يستنزف الغرب وروسيا معاً.
في المقابل، تريد الصين أن تزيد من الأرباح التي تحققها في علاقاتها التجارية مع الغرب، وهي ليست مستعدة للتخلي عنها بعد. لكنّها تحاول أن توازن بين المحافظة على هذه المصالح وبين دعم روسيا بشكل غير مباشر، مع تحييد تأثير العقوبات المفروضة على روسيا عليها. هذه معادلة صعبة جداً لا سيما إذا طال أمد الحرب وامتدت رقعتها. كل الأزمات التي حصلت على المستوى الإقليمي أو الدولي منذ أزمة النمور الآسيوية في نهاية التسعينيات من القرن الماضي صبّت في نهاية المطاف في صالح تعزيز مكانة وقدرة الصين السياسية والاقتصادية والعسكرية.
هل ستكون أزمة الاحتلال الروسي لأوكرانيا مختلفة؟
لا شيء يوحي بذلك على المستوى القصير، لكنّ هزيمة كبيرة لروسيا قد تغيّر من المعادلات الدولية على المستوى البعيد. هذه الحرب هي بمثابة تحضير للحرب العالمية الثالثة المحتملة دوماً. كل خصم أصبح يدرك ما هي نوايا الطرف الآخر وما هي الأسلحة المتاحة بحوزته. وعليه، فستعمل جميع القوى من الآن وصاعداً على تعزيز استقلاليتها الذاتية لاسيما فيما يتعلق بالموارد، والدفع باتجاه إنشاء بدائلها الخاصة لاسيما المالية، وعلى زيادة قوتها العسكرية تمهيداً للمواجهة المحتملة مستقبلاً.
اتفاقية بودابست 1994.. الحياد لم يكن ليحمي أوكرانيا من العدوان الروسي
هل ورّط بوتين روسيا في أوكرانيا؟