شواهد عديدة لنقص العملات الأجنبية بمصر ظهرت بعد تعويم
الجنيه في تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2016 بنحو عام ونصف من التعويم، وذلك في عام 2018، وتكررت تلك الشواهد بشكل ملحوظ خلال عام 2020 كنتيجة لتداعيات فيروس كورونا السلبية على الاقتصاد
المصري، وكان ذلك يقتضي
خفض قيمة الجنيه أمام الدولار مثلما فعلت دول عديدة.
لكن السلطات النقدية أصرت على استمرار تثبيتها لسعر الصرف والادعاء بقوة الجنيه المصري، حتى أنه حاز على لقب أفضل عملة في العالم عام 2020! وفي عام 2021 وفيما بعد شهر شباط/ فبراير وحتى قبل نشوب الحرب الروسية الأوكرانية، زادت حدة نقص العملات الأجنبية والتي عبرت عنها العديد من المؤشرات الرسمية المنشورة.
فصافي الأصول والخصوم الأجنبية -أي العملات الأجنبية- في المصارف التجارية، بعد أن كان لديها فائض بلغ 6.8 مليار دولار بشهر شباط/ فبراير، وظل هذا الفائض يتراجع تدريجيا حتى تحول إلى عجز في شهر تموز/ يوليو، واستمر هذا العجز في التصاعد من 1.7 مليار دولار حتى بلغ 11.5 مليار دولار في شهر كانون الثاني/ يناير 2022 كآخر بيانات منشورة.
السلطات النقدية أصرت على استمرار تثبيتها لسعر الصرف والادعاء بقوة الجنيه المصري، حتى أنه حاز على لقب أفضل عملة في العالم عام 2020! وفي عام 2021 وفيما بعد شهر شباط/ فبراير وحتى قبل نشوب الحرب الروسية الأوكرانية، زادت حدة نقص العملات الأجنبية والتي عبرت عنها العديد من المؤشرات الرسمية
كذلك تراجعت أرصدة البنوك المصرية في الخارج من 23 مليار دولار في شباط/ فبراير، حتى بلغت 11.4 مليار دولار بنهاية العام الماضي، بنسبة تراجع 51 في المائة. وعلى الجانب الآخر زادت قيمة التزامات البنوك تجاه الخارج من 6.9 مليار دولار إلى 9.4 مليار دولار، خلال نفس الشهور العشرة للمقارنة، بتراجع 38 في المائة.
والنتيجة تراجع الصافي بين الأرصدة في الخارج وبين الالتزامات تجاه الخارج، من فائض بلغ 16.2 مليار دولار إلى أقل من ملياري دولار، خلال نفس الفترة بنسبة تراجع 88 في المائة.
انخفاض الودائع الدولارية
كذلك كانت أحوال الودائع بالعملات الأجنبية شبه راكدة، بل اتجهت للتراجع من 43.3 مليار دولار في تموز/ يوليو 2019 إلى 42.4 مليار دولار بنهاية العام الماضي، بنقص 906 ملايين دولار خلال عامين ونصف، وكان النقص أكثر في ودائع القطاع العائلي بالعملات الأجنبية، والتي تمثل غالب تلك الودائع بنحو 1.4 مليار دولار خلال نفس الفترة.
وانعكس ذلك على الاحتياطيات من العملات الأجنبية في البنك المركزي المصري، والتي تتكون من ثلاث مكونات أكبرها العملات الأجنبية، بالإضافة إلى الذهب وحقوق السحب الخاصة الخاصة بصندوق النقد الدولي، حيث تناقصت قيمة مكون العملات الأجنبية داخل الاحتياطيات ما بين شهري حزيران/ يونيو من العام الماضي وشباط / فبراير من العام الحالي بنحو 4.7 مليار دولار.
كذلك انخفض رصيد مشتريات الأجانب من أذون الخزانة المصرية بنحو 2.8 مليار دولار ما بين شهرى أيلول /سبتمبر 2021 وكانون الثاني/ يناير 2022، وهو النقص الذي
زادت حدته فيما بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، وتكرر ذلك مع مشتريات الأجانب لسندات الخزانة المصرية، حسب بلومبرج، حيث أن السلطات المصرية لا تعلن أرقام مشتريات الأجانب لتلك السندات.
لجأ الجنرال إلى حلفائه الخليجيين لمزيد من الاقتراض ونتصور أنه نال الموافقة، لكن الأزمة كانت أكبر من تلك المحاولات مما أدى للجوء لصندوق النقد الدولي لطلب قرض جديد وكبير، فاشترط الصندوق تنفيذ توصياته التي استجاب لها النظام المصري سريعا
ولجأت السلطات المصرية إلى التشدد تجاه الواردات المصرية، وتأجيل سداد بعض أقساط الدين الخارجي المستحقة لدول الخليج العربى، ولجأ الجنرال إلى حلفائه الخليجيين لمزيد من
الاقتراض ونتصور أنه نال الموافقة، لكن الأزمة كانت أكبر من تلك المحاولات مما أدى
للجوء لصندوق النقد الدولي لطلب قرض جديد وكبير، فاشترط الصندوق تنفيذ توصياته التي استجاب لها النظام المصري سريعا؛ برفع أسعار البتوجاز و
خفض سعر صرف الجنيه، ورفع معدل الفائدة، وبيع جانب من
الأصول المصرية، والتجهيز لمزيد من إجراءات خفض الدعم خاصة للوقود، وأسرع ببيع سندات بالين الياباني كمقدمه لطرح سندات دولارية أخرى في الخارج قبل انتهاء العام المالي الحالي نهاية حزيران/ يونيو المقبل.
تكلفة الدين تمثل 96 في المائة من القروض
لكن تلك القروض من الصندوق، وما سيرافقها من قروض من دول ومؤسسات وبنوك دولية وإقليمية، لن تحل مشكلة نقص الدولار، مما سيؤدى حتما لخفض جديد لسعر صرف الجنيه المصري بعد فترة، تطول أو تقصر حسب المتغيرات الاقتصادية الداخلية والدولية.
وأبرز تلك الشواهد أنه رغم توسع النظام المصري في الاقتراض فيما بعد التعويم السابق للجنيه في تشرين الثاني/ نوفمبر 2016، فلم يستطع سد فجوة الموارد الدولارية، حيث بلغت الزيادة في الاقتراض 77.3 مليار دولار ما بين أيلول/ سبتمبر 2016 وحتى نفس الشهر من 2021 كآخر بيانات منشورة، إلا أن مدفوعات الدين الخارجي من أقساط وفوائد خلال نفس الفترة بلغت نحو 74 مليار دولار، وبما يؤكد استنزاف تكلفة الدين الخارجى نسبة 96 في المائة من زيادة القروض.
وتكلفة الدين مرشحة للزيادة خلال الفترة القادمة مع كبر حجم القروض الخارجية والاقتراض لسداد الأقساط والفوائد القديمة، حيث تشير البيانات الرسمية أن قيمة تكلفة الدين خلال الربع الثالث من العام الماضي بلغت 9.4 مليار دولار، وهو رقم يفوق ما كان يتم من قبل لعام كامل، بالإضافة للاقتراض لسد العجز في الميزان الجاري سنويا.
تبقى المشكلة الأساسية في الاقتصاد المصري، والتي تؤكد توقعنا لعودة خفض سعر صرف الجنيه مرة أخرى، وهي العجز المزمن بميزان المعاملات الجارية، وهو الميزان الأكبر والأهم داخل الميزان الكلي للمدفوعات
ولهذا لجأت السلطات المصرية إلى التوسع في بيع أذون وسندات الخزانة للأجانب لتصل حصيلة تلك المبيعات، منذ بداية تموز/ يوليو 2017 وحتى أيلول/ سبتمبر الماضي 47.3 مليار دولار، وهي مبالغ تزيد وتنقص حسب دخول وخروج الأجانب المتكرر خلال تلك السنوات، لكن تلك المبيعات لأدوات الدين للأجانب لم تحل مشكلة نقص الموارد الدولارية حلا جذريا.
العجز بالميزان الجاري أساس المشكلة
لتبقى المشكلة الأساسية في الاقتصاد المصري، والتي تؤكد توقعنا لعودة خفض سعر صرف الجنيه مرة أخرى، وهي العجز المزمن بميزان المعاملات الجارية، وهو الميزان الأكبر والأهم داخل الميزان الكلي للمدفوعات، حيث بلغت قيمة العجز في الميزان الجاري حوالي 52 مليار دولار خلال خمس سنوات مالية وربع السنة، من تموز/ يوليو 2017 وحتى أيلول/ سبتمبر 2021 كآخر بيانات متاحة.
وهو الميزان المرشح للاستمرار في تحقيق عجز خلال الفترة القادمة، نظرا لاشتماله على الميزان التجاري الذي يمثل الفرق بين الصادرات السلعية والواردات السلعية، حيث يحقق الميزان التجاري عجزا مزمنا خلال الأعوام الخمسين الماضية بلا انقطاع، وهو عجز بلغ خلال العام الماضي نحو 40 مليار دولار رغم زيادة الصادرات لمعدل غير مسبوق، أي أكبر من الحصيلة التي حققتها تحويلات المصريين في الخارج والبالغة 31.5 مليار دولار.
من المتوقع استمرار العجز في الميزان التجاري خلال السنوات القادمة، لأن حوالي 60 في المائة من الصادرات السلعية مكونات مستوردة. فكلما زادت الصادرات زادت تلك الواردات، بالإضافة إلى تدني نسب الاكتفاء الذاتي من السلع الغذائية والصناعية، وحتمية استيراد الحبوب والوقود والسلع الرأسمالية والمواد الخام والسلع الوسيطة
ومن المتوقع استمرار العجز في الميزان التجاري خلال السنوات القادمة، لأن حوالي 60 في المائة من الصادرات السلعية مكونات مستوردة. فكلما زادت الصادرات زادت تلك الواردات، بالإضافة إلى تدني نسب الاكتفاء الذاتي من السلع الغذائية والصناعية، وحتمية استيراد الحبوب والوقود والسلع الرأسمالية والمواد الخام والسلع الوسيطة، مما يجعل حجم الواردات السلعية كبيرا مهما تشددت الإجراءات الحكومية تجاهها، حيث يقوم نشاط التهريب بسد جانب كبير من الفجوة التي تظهر ببعض السلع.
ورغم وجود فائض في ميزان الخدمات والذي يمثل أحد مكونات الحساب الجاري، فإن ذلك الفائض يقل عادة عن مدفوعات فوائد استثمارات الأجانب في مصر، سواء المباشرة أو غير المباشرة في صورة أدوات دين وأسهم وسندات، ولهذا يستمر العجز في الميزان الجاري.
واذا كان البعض يعول على الاستثمار الأجنبي المباشر لسد الفجوة الدولارية، فإن تصنيف مصر من قبل وكالات التصنيف الدولية ما زال غير استثماري، بسبب كبر حجم الدين الداخلي والخارجي والذي يتزايد حجمه. وعلى الجانب الآخر فقد زادت أرقام الاستثمار الأجنبي المباشر الخارج من مصر خلال السنوات الأخيرة، كما أن رفع الفائدة الأمريكية المرتقب عدة مرات خلال العام الحالي، سيؤدى إلى ضعف الإقبال على شراء الأجانب لأدوات الدين الحكومي المصري.
يظل الحل الإنتاجي السلعي والخدمي أحد عوامل تحقيق الاستقرار الحقيقي لسعر الصرف للجنيه المصري لفترة أطول، لكن هذا المسار لا يأخذ الاهتمام الكاف من قبل الجهات المسؤولة، مع تضييقها على القطاع الخاص، ومزاحمة جهات حكومية له في أنشطته
وبالإضافة لذلك فقد أضيف عامل آخر سيدفع لخفض سعر صرف الجنيه، وهو أنه في حالة تثبيت البنك المركزي لسعر الصرف لفترة طويلة، ستظل تقارير المؤسسات الاقتصادية الدولية عن عدم واقعية سعر الصرف وأنه مُقيّم بأعلى من قيمته، أحد عوامل الضغط على السلطة النقدية في مصر لتحريك سعر الصرف نحو الانخفاض، وأهمية الاستجابة لتلك الجهات التي يستند مشترو السندات المصرية الخارجية إلى تقاريرها قبل الشراء.
بالطبع يظل الحل الإنتاجي السلعي والخدمي أحد عوامل تحقيق الاستقرار الحقيقي لسعر الصرف للجنيه المصري لفترة أطول، لكن هذا المسار لا يأخذ الاهتمام الكاف من قبل الجهات المسؤولة، مع تضييقها على القطاع الخاص، ومزاحمة جهات حكومية له في أنشطته محملة بمزايا لا تتوفر له، مثل توفير الأراضي المجانية والعمالة شبه المجانية، وتوصيل المرافق شبه المجانس والإعفاءات الضريبية والجمركية، مما يجعل إمكانية المنافسة معها محليا من قبل القطاع الخاص أمرا بالغ الصعوبة.
twitter.com/mamdouh_alwaly